كان الإعلام الأوروبي صادقاً مع نفسه حين زعم أنّ ليونيل ميسّي لم يكن سعيداً بارتداء البشت العربي في لحظة تسلّمه كأس العالم في قطر. يعتقد الرجل الأبيض في ألمانيا وبريطانيا وفرنسا، بصدقٍ، أنّ الفتى الأشقر الأرجنتيني كان شعوره أشبه ما يكون بشعورٍ تجاه رمزٍ من ثقافة تقبع في مرتبة دنيا إزاء الثقافة الغربية المتسيّدة.
يصل الافتراق الثقافي عند المعلّق الإنكليزي الشهير غاري لينكر إلى حدّ وصف فعل إلباس البشت لميسّي بـ”العار”.
لم يكلّف المثقّف الإنكليزي نفسه الاتصال بصديق عربي ليسأل عمّا يعنيه إلباس البشت في الثقافة الخليجية. لم يضع فرضية، مجرّد فرضية، أن يكون تكريماً فوق العادة، خصوصاً حين يأتي من أمير دولة
“العار” مرّة واحدة!
لم يكلّف المثقّف الإنكليزي نفسه الاتصال بصديق عربي ليسأل عمّا يعنيه إلباس البشت في الثقافة الخليجية. لم يضع فرضية، مجرّد فرضية، أن يكون تكريماً فوق العادة، خصوصاً حين يأتي من أمير دولة.
يحدث أن يؤدّي اختلاف الثقافات إلى سوء فهم فينقلب التكريم إساءة. ولهذا السبب أدخلت كلّيات الأعمال الأوروبية في مناهجها موادّ “التنوّع الثقافي”، من باب تسهيل التواصل لتسهيل الأعمال العابرة للحدود. ومع كلّ ما في تلك المناهج من تعميم وقوالب نمطية جاهزة، إلا أنّها تنطوي على اعتراف ضمنيّ بأنّ الاختلاف الثقافي ليس عواراً في الآخر. لكنّ المشكلة فيها هو التواطؤ على إدراك أنّ التنوع ليس إلا جزءاً من “عُدّة الشغل” التي تمكّن “ماكدونالدز” من النجاح في الصين، أو تمكّن “وول مارت” من اختراق السوق الألمانية…
المشكلة في مونديال قطر أنّه “بزنس” ليس للألمان والبريطانيين حصّة فيه. بهذه البساطة. ولأنّه كذلك تتقدّم التعبيرات الثقافية الفجّة، من دون حاجة إلى “عُدّة الشغل” الخاصّة بإدراك التنوّع. يقفل اللاعب الألماني فمه لفرض ثقافة المثليّة الجنسية، ويطلق الصحافي لسانه بالقدح والذمّ. أمّا السياسي الفرنسي الذي يعرف حجم الاستثمارات القطرية في نادي “باريس سان جرمان”، وحجم صفقات الغاز المسال التي ملأت الخزّانات الفرنسية قبل بدء الشتاء، وحجم الاستثمارات السياسية المشتركة في ساحات كثيرة، فلديه عُدّة شغل أخرى تحجز للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون موقفاً إلى جانب أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وتمنحه بعض الميداليات ليطوّق بها أعناق لاعبي منتخب بلاده.
مشكلة ثقافيّة؟
هل كانت مشكلة أوروبا مع قطر ثقافية حقّاً؟ هل استعصى على الضمير الأخلاقي الأوروبي أن يحضر المونديال من دون إثارة مسألة المثليّة الجنسية؟ هل باتت هذه المسألة حقّاً من حقوق الإنسان المقدّسة في الثقافة الغربية إلى الحدّ الذي يمنع لاعبي المنتخب الألماني من اللعب من دون شارتها؟
بهذا المعيار، يُفترض أن يكون هذا الموضوع حاضراً على لسان أيّ مسؤول ألماني يزور الفاتيكان أو يزور كاتدرائية في برلين. وهو ليس كذلك. لم تصل المثلية الجنسية إلى هذا الحدّ من السطوة الثقافية من الغرب. فثمّة مسؤولون وأحزاب يدافعون عن “العائلة الطبيعية” من دون أن يصنّفهم أحد في خانة الرجعيّة.
لكنّ الأمر يختلف حين يقع على خطّ التماس بين الشرق والغرب. يسقط أيّ اعتبارٍ لاختلاف الثقافات هنا، لتفرض الثقافة المتفوّقة إملاءها لِما يدخل في دائرة العار وما يخرج منها.
كأس العالم نفسها ملكٌ للثقافة المتسيّدة والآخرون ضيوف عليها. لم يحتمل العقل الغربي أن يكون أصحاب الكأس، بالمعنى الثقافي، ضيوفاً على ثقافة، يرون أنّها “أدنى” منها من ثقافتهم، تزجّ برموزها في حفل الختام، وتُلقي بلباسها التقليدي على كتفَيْ أسطورة اللعبة.
يمكن مقارنة عدائية الجمهور الألماني مثلاً، بأريحية جماهير دول أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، وحتى كرواتيا في الجنوب الأوروبي. البديهة وحدها كانت كافية ليفهم الأرجنتيني الآتي من أبعد بقعة على وجه الأرض أنّ في إلباس البشت ما يشبه تكليل ملك بالتاج، فتلقّاها كلحظة فرح ليس فيها من هو فوق ومن هو تحت، وعاشها كما هي بلا عُقد، واشترى لنفسه بشتاً كذلك الذي ارتداه الملك ميسّي.
الاستعلاء…. و”التنوير”
في استديو تلفزيون قطريّ حدث موقف مشابه. أهدى أحد أساطير الكرة الأرجنتينية غابرييل باتيستوتا ربطة عنقه إلى مقدّم البرنامج القطري، وطلب منه في المقابل أن يهديه غترته والعقال على الهواء، وقد فعل، وتصوّر الرجلان بلا عقدٍ ثقافية. من الصعب تخيّل المشهد نفسه مع لاعب أوروبي.
الفارق لا علاقة له بالسياسة، بل بالشعور المتجذّر بالاستعلاء الثقافي والحضاري في أوروبا.
والمفارقة أنّ هذا الاستعلاء يحمل لافتة “التنوير” في فرنسا، و”حقوق الإنسان” (العهد الأعظم!) في بريطانيا، و”احترام التنوّع” في ألمانيا، لكنّ تلك الشعارات تستبطن زعماً للتفوّق الثقافي والواجب الرسولي بتنوير “المتخلّفين” أو تصدير الثقافة إليهم. وهكذا يصبح الشعار نفسه حاجزاً. يصبح معنى التنوير: “نحن متنوّرون وأنتم في الظلام”. يصبح شتيمة وإهانة للثقافة الأخرى.
مأزق هذا الاستعلاء أنّه ظلّ لقرون من الزمان مقترناً بتفوّق مبهر في مظاهر الحضارة والعمران وظروف العيش. ولذلك يرتبك عندما يخسر أيّاً من عناصر التفوّق الظاهرة.
حدث شيء من هذا حين قطع العرب إمدادات النفط عن الغرب نصرةً لمصر في “حرب أكتوبر” 1973، فكان الردّ “الثقافي” الغربي بدفقٍ من الصور النمطية العدائية، تصوِّر العربي مبذِّراً للأموال وعاشقاً للنساء، وليس له من الحضارة إلا برميل النفط.
راكمت الإمارات المكاسب، وخصوصاً دبي، في تمزيق تلك الصورة على مدى ثلاثة عقود، لكنّ الخليج ظلّ هو الخليج في المخيّلة الغربية إلى أن بدأت الموازين تنقلب على مستوى الصورة في السنوات القليلة الماضية، وستنقلب أكثر حين تكتمل مشاريع النهضة السعودية في الرياض ونيوم والبحر الأحمر.
يواجه الغرب مأزقاً، ليس في النظرة إلى الآخر، بل في النظرة إلى نفسه وعناصر تفوّقه، يشبه مأزق ادّعاء التفوّق الماروني، الذي أُسّس عليه الوطن اللبناني. في مأزق كهذا ترفع تيّارات مسيحية شعار “المشرقية” جزءاً من “عُدّة الشغل” حين يقتضي الأمر تحالفاً مع أقليّات لا تشبهها، وتُخفي خلف الكلام عن “التعايش” و”التنوّع” حاجزاً من الاستعلاء الثقافي توازن به فائض الديمغرافيا لدى الآخرين وفائض القوّة لدى الطرف المحتفظ بسلاحه. وكلٌّ يبتغي الاستعلاء بما لديه من فائض.
إقرأ أيضاً: شظايا المونديال: عروبة الحوثيين… وهولنديّة المغاربة
سيظلّ الحوار حيلة كلامية فارغة إلى أن تُهدم جدران الاستعلاء المتقابلة… من لبنان، مروراً بكأس العالم، وصولاً إلى ألمانيا وأوروبا والعالم كلّه.