أن تصبح الصين أهمّ من أميركا في إفريقيا، أمر مفهوم وربّما بديهي. لكن أن تصبح شركتان سعودية وإماراتية أكثر أهمية من أميركا في مجال الطاقة المتجدّدة في القارّة السمراء، فتلك من “علامات الساعة” على التراجع الكارثي في مصداقية أميركا وقدرتها أو الأصحّ رغبتها في تحمّل مسؤوليّتها بما هي دولة عظمى.
ليست للتندّر المقارنة بين دور أميركا وشركة خليجية في مجال الطاقة المتجدّدة في إفريقيا، بل للإضاءة على مسألتين:
– دور الخاص المتنامي القطاع الخاصّ المتنامي في الاستثمار الخليجي: في ظلّ سياسة الدول الخليجية الخارجية، التي حوّلته تدريجياً إلى رديف، كي لا نقول بديلاً، للعون الإنمائي الذي اعتمدته سابقاً وذهب قسم كبير منه إلى جيوب المسؤولين الفاسدين في الدول المعنية، أو صرفوه على مشاريع ليست أولوية.
– محاولة أميركا التعويض عن تنصّلها من مسؤوليّاتها بما هي دولة عظمى، باستعراضات سياسية ـ إعلامية كان آخرها القمّة الإفريقية ـ الأميركية الأسبوع الماضي، التي حفلت بإطلاق وعود مكرّرة منذ أيام أوباما بتطوير قطاع الطاقة في إفريقيا، وبقدر كبير من تمويه الحقائق، كي لا نقول التضليل.
أن تصبح الصين أهمّ من أميركا في إفريقيا، أمر مفهوم وربّما بديهي. لكن أن تصبح شركتان سعودية وإماراتية أكثر أهمية من أميركا في مجال الطاقة المتجدّدة في القارّة السمراء، فتلك من “علامات الساعة”
أرقام الاستثمار الخليجيّ
صورة الاستثمار الخليجيّ بالأرقام والمعطيات؟ هي على الشكل التالي:
– شركة “إيميا باور” التي يرأس مجلس إدارتها المستثمر الإماراتي حسين النويس، تدير حالياً 23 مشروعاً للطاقة المتجدّدة في 15 دولة إفريقية، بطاقة إنتاجية مجمّعة تبلغ حوالي 5.630 ميغاواط، وباستثمارات تقارب 6 مليارات دولار. ولديها أيضاً مشاريع أخرى في مرحلة الدراسة في 18 دولة إفريقية. بدأت الشركة نشاطها فعليّاً في عام 2020، بمشروع “مجمّع محمد بن زايد للطاقة الشمسية” في جمهورية توغو، وأنجزته خلال 14 شهراً. ثمّ قامت بزيادة طاقته الإنتاجية حتى وصلت إلى 70 ميغاواط.
– شركة “أكوا باور” التي يرأس مجلس إدارتها المستثمر السعودي محمد أبو نيان، وتُعتبر من أبرز شركات الطاقة في العالم، بمحفظة أصولها تتجاوز 68 مليار دولار، وتنتج حوالي 44.6 جيغاواط من الطاقة، 39.3 في المئة منها طاقة متجدّدة. ومع أنّ نشاطها يتركّز في دول الخليج وبعض الدول الآسيوية، فلديها في إفريقيا 12 مشروعاً للطاقة المتجدّدة تبلغ طاقتها الإنتاجية الإجمالية حوالي 2.335 ميغاواط.
الخلاصة: شركتان خليجيتان لديهما 35 مشروعاً للطاقة المتجدّدة في إفريقيا، بطاقة إنتاجية تقارب 8,000 ميغاواط.
أوهام المساعدات الأميركيّة
يمكن القول بقدر قليل من التحفّظ إنّ أميركا تمارس في مقاربة قضيّة الطاقة في إفريقيا نوعاً من التضليل وإطلاق الوعود الزائفة. فهي أعلنت في خطابات الرئيسين باراك أوباما وجو بايدن وبنصوص واضحة على الموقع الرسمي لوزارة الخارجية عن إنشاء مشاريع يُقدّر إجمالي طاقتها الإنتاجية بحوالي 12.5 ألف ميغاواط منذ عام 2013 بعد زيارة الرئيس أوباما إفريقيا.
بمعزل عن ضآلة حجم الطاقة الإنتاجية “المنسوبة” إلى دولة عظمى على مدى تسع سنوات، مقارنة بحجم مشاريع شركة صغيرة مثل “إيميا باور” خلال عامين فقط، يكشف التدقيق قليلاً في المعطيات والأرقام الحقائق التالية:
– أوّلاً: لم تموّل أميركا إنشاء هذه المشاريع بل “دعمت” إنشاءها من خلال مبادرة “طاقة إفريقيا” Power Africa في عام 2013. الموقع الرسمي لـUSAID يعرّفها باعتبارها “شراكة تقودها حكومة الولايات المتحدة لتسخير الموارد الجماعية لأكثر من 170 هيئة ومؤسّسة وشركة حكومية وخاصة لتعزيز الحصول على الكهرباء في إفريقيا جنوب الصحراء”.
إنجاز كان أوباما وعد به في القمّة الإفريقية ـ الأميركية التي عُقدت بين 4 و6 آب 2014 “على وقع تصفيق قادة إفريقيا”، كما جاء حرفيّاً في “مستند حقائق” منشور على موقع وزارة الخارجية الأميركية.
لكنّ التصفيق توقّف بعدما تبيّن للقادة الأفارقة زيف هذه التعهّدات والإنجازات، وأنّها عبارة عن عملية تجميع حسابية مفتعَلة إمّا لمساهمات مؤسّسات وهيئات أميركية ودولية أُنشئت أصلاً لتمويل التنمية في الدول الفقيرة، وإمّا لشركات خاصة يتركّز نشاطها الاستثماري في مجالات الطاقة والطاقة والمتجدّدة. وحتى لو افترضنا أنّ الإدارات الأميركية ضغطت على مسؤولي هذه الهيئات والمؤسّسات للمساهمة في تمويل مشاريع في إفريقيا، فإنّ هذه المساهمات تكون عادة بنسب متواضعة من إجمالي استثمارات أيّ مشروع، ولا يجوز بالتالي أن تنسبها أميركا إليها، خاصة أنّ غالبيّة الهيئات المعنيّة هي مؤسّسات دولية وليست أميركية.
ما على الشعوب الإفريقية إلا انتظار زيارة الرئيس بايدن المرتقبة “للتكفير عن الخطيئة الأميركية تجاه الأفارقة”، كما قال، وللتنعّم بطاقته الإيجابية بدل الطاقة الكهربائية
وعود وتعهّدات لا تُنفَّذ
– ثانياً: أطلقت أميركا سيلاً من الوعود بتخصيص مبالغ طائلة لتمويل الطاقة في إفريقيا، من بينها 12 مليار دولار التزم بها الرئيس أوباما في القمّة الإفريقية ـ الأميركية الأولى، مع التزام آخر بتقديم 14 مليار دولار من شركات كوكاكولا، ماريوت، جنرال إلكتريك، وبلاكستون، إلخ.. لكنّ هذه الالتزامات لم تظلّ حبراً على ورق فحسب، بل يقول الكاتب الأميركي فيليم كاين إنّ “القادة الأفارقة شعروا أنّه تمّ خداعهم، وذلك بعدما خفّضت إدارة أوباما المساعدات الخارجية لدولهم”.
– ثالثاً: تواصل إطلاق الوعود لتمويل الطاقة المتجدّدة مع الرئيس جو بايدن في القمّة الإفريقية ـ الأميركية الثانية، لكن بقدر أكبر من “الرزانة والواقعية”. فبمعزل عن مبلغ الـ 55 مليار دولار الذي تعهّد بايدن بتقديمه للدول الإفريقية خلال السنوات الثلاث المقبلة، فإنّ وزارة الخارجية أعلنت في “مستند حقائق” منشور على موقعها الرسمي بتاريخ 13 كانون الأول 2022 ما يلي: “تستثمر إدارة بايدن – هاريس، أو تخطّط لاستثمار، 1.1 مليار دولار لدعم جهود إفريقيا للحفاظ على البيئة والتكيّف مع المناخ والتحوّل العادل للطاقة”. لكنّ المستند يشير إلى أنّ هذا المبلغ “يشمل الاستثمارات في مشاريع البنية التحتية في إطار مبادرة الشراكة من أجل الاستثمار في البنية التحتية العالمية”، التي أطلقتها أميركا ومجموع الدول السبع، لمواجهة المبادرة الصينية “الحزام والطريق”.
أمّا حصّة الطاقة المتجدّدة في خطط “إدارة بايدن ـ هاريس” فلم تتجاوز 193 مليون دولار، مع وعد بتوفير 100 مليون دولار أخرى في السنة المالية 2023، ومرّة ثانية من خلال “مبادرة طاقة إفريقيا”، كما جاء في “مستند الحقائق”.
يمكن الاطّلاع على المبادرات التي ستقوم “إدارة بايدن ـ هاريس” بتمويلها، على موقع وزارة الخارجية، توفيراً للحبر، لأنّها غير جديرة بالذكر. فهي تتعلّق مثلاً بقرض قيمته 25 مليون دولار لإنشاء محطة طاقة شمسية في جمهورية ملاوي، ومنحة بقيمة مليون دولار للمساهمة في إنشاء محطة لطاقة الكتلة الحيوية في ساحل العاج، ومساعدة بقيمة 850 ألف دولار لدعم دراسة إنشاء محطة كهرومائية في سيراليون إلخ… أو بمبادرات أخرى أقرب إلى “تركيب الطرابيش”، مثل قيام الشبكة الأميركية – الإفريقية للطاقة النظيفة بـ”تسهيل” صفقات تصل إلى 350 مليون دولار في غضون خمس سنوات.
لا استثمارات أميركيّة ولا ديون
يبقى السؤال المهمّ: كيف سيُقنع الرئيس الأميركي القادة الأفارقة، الذين لم يقبل الاجتماع بهم، بجدّية بلاده في دعم مشاريع الطاقة في بلدانهم، وهم يعرفون أنّه من أصل 8.2 تريليونات دولار تمّ استثمارها في الطاقة المتجدّدة عالمياً حتى عام 2020، لم تتجاوز حصّة إفريقيا منها 2 في المئة، على الرغم من الإمكانات الضخمة التي تمتلكها أميركا والحاجة الأكثر ضخامة التي تقدّرها وكالة الطاقة الدولية بحوالي 200 مليار دولار سنوياً حتى عام 2030.
حتى الاستثمارات التي تدفّقت فعلاً إلى قطاع الطاقة المتجدّدة الإفريقي خلال الفترة 2010 – 2020 وقيمتها تقارب 55 مليار دولار، فقد تركّزت في عدد محدود من الدول لم يتجاوز 14 دولة من أصل 55 بلداً. واستأثرت جنوب إفريقيا وكينيا والمغرب ومصر بأكثر من 75 في المئة من هذه الاستثمارات، كما ذكر تقرير للوكالة الدولية للطاقة المتجدّدة “أيرينا”. وهذا دليل إضافي على أهمية مشاريع شركة “إيميا باور” التي تتوزّع على مختلف الدول الإفريقية.
مرّة ثانية، كيف سيُقنع الرئيس بايدن قادة الدول الإفريقية بأن يواصلوا التصفيق له، وليس لحسين النويس (إيميا باور) أو لمحمد أبو نيان (أكوا باور)، وهم يعرفون أنّ معظم مشاريع الطاقة المتجدّدة في بلدانهم تمّ تمويلها من قبل دول ومؤسّسات دولية على شكل ديون وليس على شكل استثمارات خاصة، وأنّ أميركا لا تظهر ضمن أكبر 10 جهات مانحة خلال الفترة 2010- 2019، وطبعاً تأتي في مقدَّم هذه الجهات الصين، وتليها فرنسا وألمانيا وبريطانيا، ثمّ بنوك التنمية مثل البنك الدولي وبنك التنمية الإفريقي وبنك ريادة الأعمال الهولندي إلخ.. كما يذكر تقرير لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية؟
إقرأ أيضاً: مفتاح الدولار في جيب رياض سلامة
الخلاصة: أميركا بقضّها وقضيضها ساهمت ودعمت خلال تسع سنوات إنشاء مشاريع تبلغ طاقتها الإنتاجية 12.5 ألف ميغاواط تمّ تمويلها من قبل 170 هيئة ومؤسّسة أميركية ودولية من خلال “مبادرة طاقة إفريقيا”. ولا نستبعد أن تكون “جردة حساب” الرئيس بايدن تتضمّن بعض مشاريع “إيميا باور” التي نجحت في الحصول على تمويل من مؤسّسات دولية تتضمّنها قائمة “مبادرة طاقة إفريقيا”.
ما على الشعوب الإفريقية إلا انتظار زيارة الرئيس بايدن المرتقبة “للتكفير عن الخطيئة الأميركية تجاه الأفارقة”، كما قال، وللتنعّم بطاقته الإيجابية بدل الطاقة الكهربائية.