في زمن الانتفاضة الشعبية الفلسطينية الأولى، نشرت وسائل الإعلام الدولية صورة لجنود إسرائيليين يسحقون عظام شابّ فلسطيني بكعوب بنادقهم.
اقتلوا الفلسطينيّين وراء الكاميرا
أحدثت الصورة انقلاباً إعلاميّاً، وأظهرت قوّة كفاح الفلسطينيين وعنادهم، وشراسة القمع الإسرائيلي ووحشيّته. الانقلاب الإعلامي الذي أحدثته صورة بهذه البشاعة دفع وزير الخارجية الأميركي الأشهر هنري كيسنجر إلى توجيه نصيحة إلى الحكومة والجيش الإسرائيليَّين مفادها: “افعلوا ما تريدون بالفلسطينيين لكن وراء الكاميرا”.
كان ذلك قبل عقود حين لم تكن ثورة وسائل التواصل الاجتماعي قد بدأت، وحين كان الإعلام الغربي العملاق في قبضة الحركة الصهيونية ولم يكن للفلسطينيين منه شيء.
السياسة لا تُقرأ فقط من برامج الأحزاب والحكومات والخطب المغلّفة دائماً بزينة لغوية تخفّف ردود الفعل عليها، بل من خلال الأشخاص الذين يتمّ اختيارهم لتنفيذها
غير أنّ التعتيم، مهما بدا كثيفاً ومهما كانت وسائل الإعلام تحت السيطرة، فلن يلغي الحقيقة، إذ إنّ صورة واحدة كتلك التي انتشرت كانت كفيلة ليس بإحراج إسرائيل فقط، بل بإرغامها على البحث عن تسوية مع الفلسطينيين، فما بالك بما فعلته إسرائيل في مواجهة الانتفاضة الأولى الذي لم يكن مجرّد صورة وصلت إلى أجهزة الإعلام، بل هو كمٌّ هائلٌ من جرائم قتل واعتقال وتعذيب وحصار وعقوبات جماعية مع احتلال طويل الأمد.
في واقعة تكسير العظام جاءت نصيحة كيسنجر متأخّرة، فقد بلغ الرأي العامّ في العالم كلّه حدّ الإشباع ممّا تفعله إسرائيل، وحتى في أميركا قاعدة الدعم والتبنّي الأولى تغيّر الرأي العامّ فلم يعد مغلقاً تماماً على الرواية الإسرائيلية.
ضمّ الضفّة من دون إعلان
غير أنّ نصيحة كيسنجر، التي قدّمها للمسؤولين الإسرائيليين قبل عقود، يجري العمل بها على صعيد آخر سيكون الأخطر، فالأمر الآن لم يعد متعلّقاً بالقمع والقتل بل بضمّ الضفّة الذي تتشكّل حكومةٌ الآن في إسرائيل من أجل إنجازه لكن من وراء الكاميرا، أي من دون إعلان مباشر وصريح خشية ظهور رأي عامّ عالمي يندّد ويرفض ويدين. ومع أنّ الحكومة اليمينية في إسرائيل لا تأبه كثيراً بغير رغباتها وأهدافها، إلا أنّ تفادي أمر كهذا ينفع أكثر ممّا يضرّ، وهذا ما ستعتمده الحكومة الإسرائيلية المقبلة، بعدما هيّأت خططاً وترتيبات لتنفيذ الضمّ لكن من دون إعلان رسمي ومن دون إجراءات دراماتيكية، أي تنفيذه بصورة بطيئة وتدريجية.
لا أسرار في إسرائيل، ولهذا ما كشف هذه السياسة وكيفية تنفيذها هو تقرير مفصّل معزّز بالقرائن القانونية أعدّته ثلاث باحثات إحداهنّ عملت مساعدة للمستشار القانوني في الضفة الغربية، أي إنّها من صلب الجهاز الحكومي الرسمي في إسرائيل. وللتوثيق نذكر الباحثات الثلاث، وهنّ رونيت ليفين محاضِرة في كلية الحقوق بجامعة رايخمان، وياعيل بردة محاضِرة في الجامعة العبرية، وتمار مجيدو محاضِرة في القانون.
ضمّ الضفّة يبدأ بالأبارتهايد
هذا المشروع، وأقتبس الكلام حرفيّاً، “يختبىء في إشارات صغيرة داخل الاتفاق الائتلافي بين الليكود وحزب الصهيونية الدينية. لن يكون الضمّ علنيّاً، لكنّه سيُدفن في ثنايا وثائق بيروقراطية وتغييرات تنظيمية تبدو للوهلة الأولى غير ذات أهمية، وكذلك من خلال توجيهات إدارية وقرارات أمر واقع تصبح روتينية. غير أنّ هذا الضمّ، والقول ما يزال لمُعِدّات التقرير، سيقترن بنيّة البدء بتطبيق نظام الأبارتهايد ضدّ السكان الفلسطينيين. يستحقّ هذا الواقع اسماً، وهذا الاسم هو الضمّ والأبارتهايد، حيث الفلسطينيون ليسوا مواطنين. ويبدو هذا الضمّ حاسماً، ولم نعد بحاجة إلى الانتظار لإعلان تطبيق السيادة، فهذا ما يجري فعليّاً”.
إقرأ أيضاً: فلسطين: كثير من الرياضة وتذكيرٌ بالسياسة
السياسة لا تُقرأ فقط من برامج الأحزاب والحكومات والخطب المغلّفة دائماً بزينة لغوية تخفّف ردود الفعل عليها، بل من خلال الأشخاص الذين يتمّ اختيارهم لتنفيذها، ولا شكّ في أنّ تسليم زمام قيادة إسرائيل لبتسلئيل سموتريتش (البيت اليهودي) وإيتمار بن غفير (حزب القوّة اليهودية) ومن يوالونهما من الليكود وعلى رأسهم بنيامين نتانياهو، يُظهر الصورة الأدقّ لِما يجري عمله على الأرض، فهل مَن يرى ويسمع ويعمل؟ الحقيقة مُرّة والبوح بها أمرّ، وأمّا كيفية مواجهتها فتقع على عاتق الشعب الفلسطيني الذي لن يمرّر حكاية خطيرة كهذه.