الطاقة في شرق المتوسط بحماية اسرائيل 

مدة القراءة 7 د

يستدعي الوضع المستجدّ الناشئ عن التنافس والنزاع على الطاقة، اللذين يترتّب عليهما نشوء أحلاف عسكرية في شرق المتوسط لها امتداداتها الدولية، إدراكاً حقيقيّاً لماهيّة التّحدّيات والتهديدات التي تفرضها هذه التحالفات العسكرية، ولا سيّما مع الوجود الإسرائيلي الفاعل في كلّ منها، ولنتائج ذلك على استمرار سوريا ولبنان في عزلتهما عن العالم العربي والمجتمع الدولي، وعجزهما عن جذب الاستثمارات وتطوير الاقتصادات للاستفادة من الثروة الموجودة.

 

مستجدّات الطاقة والأمن

استشعرت دول حوض المتوسط على ضفّتيه الأوروبية والآسيوية حاجةً إلى ضمان أمنها مع تزايد اكتشاف الغاز في كلّ من مصر وإسرائيل وقبرص في الأعوام 2009 و2011 و2015، الأمر الذي شكّل تطوراً مهمّاً في الجغرافيا السياسية المتوسطية ورفع درجة المخاطر المرتقبة فيه. وترافقت اكتشافات الغاز مع متغيّرَيْن مهمَّيْن:

التدخّل العسكري الروسي في سوريا عام 2015 بضوء أخضر أميركي، الذي أعاد روسيا إلى الشرق الأوسط ومياه المتوسط الدافئة بعد تمركز قواتها البحرية على الساحل السوري، وأتاح لها تأثيراً كبيراً عبر وكلائها.

استشعرت دول حوض المتوسط على ضفّتيه الأوروبية والآسيوية حاجةً إلى ضمان أمنها مع تزايد اكتشاف الغاز في كلّ من مصر وإسرائيل وقبرص

– صعود تركيا وتحوّلها إلى قوّة قادرة على التدخّل في بحر إيجة والبحر المتوسط،?? ومطالباتها المتكرّرة بجرف قاري يمتدّ إلى أقصى الجنوب والغرب، ورفضها الاعتراف بأيّ منطقة اقتصادية حصرية لقبرص وبأيّ حقّ على الإطلاق للجزر اليونانية، وتمدّدها جنوباً حتى أصبحت جزءاً من الصراع الدائر في ليبيا الذي جعلته ملائماً لطموحاتها البحريّة.

حدثت هذه التطوّرات فيما تعيش المنطقة هاجس انسحاب مرتقب للقوات الأميركية سبق أن أعلنته واشنطن في أكثر من مناسبة.

لكنّ شيئاً ما قد تغيّر: شهدت المنطقة منذ عام 2020 تحوّلاً جذريّاً في الاستراتيجية الأميركية عبّرت عنه مجموعة إجراءات اتّخذتها الإدارة الجديدة وتفيد أنّ هناك إرادة أميركية أكيدة لضرب الصعود الروسي في أكثر نقاط قوّته من خلال فصل أوروبا عن خطوط إمدادها بالغاز الروسي. وكان الغزو الروسي لأوكرانيا في شباط 2022 سبباً لمضاعفة الاضطراب في إمداد دول الاتّحاد الأوروبي بالطاقة الاستراتيجية الأميركية الجديدة.

وبدأت أوروبا رحلة البحث عن بدائل للوقود الأحفوري الروسي، فكان لا بدّ من استفادتها بدايةً من بعض المصادر البديلة في الولايات المتّحدة والجزائر وقطر وبعض البلدان الإفريقية. وبرز شرق البحر الأبيض المتوسط ??محوراً رئيساً في استراتيجية الطاقة المستجدّة للاتّحاد الأوروبي.

 

كيف تعاملت دول حوض المتوسّط مع الواقع الأمنيّ المستجدّ؟

أدّت التطوّرات الجديدة في البحر المتوسط وتصاعد احتمالات المواجهة وغياب الحضور الأميركي إلى جملة من الإجراءات الدفاعية على المستوى المتوسّطي: بادرت كلّ من اليونان وقبرص إلى تشكيل تجمّعات ثلاثية منفصلة مع إسرائيل ومصر والأردن مشكّلةً نواة محتملة لمشاريع تعاون عابرة للإقليم وأوسع نطاقاً:

– من بين المجموعات الثلاثيّة التي بادرت إليها اليونان، كانت المجموعة التي حظيت بأكبر قدر من الاهتمام وضمّت إسرائيل وقبرص وانضمّ وزير الخارجية مايك بومبيو إلى اجتماعها الوزاري في عام 2019، وأصبحت تُعرف باسم “3+1”. وصادقت إدارة بايدن على هذا المفهوم.

– في عام 2020 وقّعت أثينا وأبو ظبي اتّفاقية تعاون عسكري تحاكي البند الخامس من ميثاق الناتو (إلزامية التدخّل في حال تعرّض أيّ من الدولتين لاعتداء). وفي آب من ذلك العام، وأثناء التوتّرات اليونانية – التركية، نشرت الإمارات أربع طائرات إف 16 في جزيرة كريت اليونانية.

تحوُّل دول حوض البحر المتوسط إلى شريك في استقرار أسواق الطاقة العالمية حمّلها أعباء حماية البنية التحتية للنفط والغاز التي باتت في رأس قائمة المهامّ التي تضطلع بها القوّات المسلّحة

– من الناحية العمليّة، قامت أثينا بإجراء رمزي على خطّ الصراعات الإقليمية: أرسلت في عام 2021 منظومة بطاريات باتريوت إلى المملكة العربية السعودية، ونشرت حوالي 130 جندياً لتشغيلها، مثيرةً بذلك حفيظة إيران.

– وصلت اليونان أيضاً إلى ما وراء شرق البحر الأبيض المتوسط ??وبلغت الخليج العربي حين استضافت في عام 2021 مناورات للقوات الجويّة السعودية في جزيرة كريت، وأنشأت تجمّعاً دبلوماسيّاً أُطلق عليه اسم “منتدى فيليا” يضمّ البحرين والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتّحدة ومصر وقبرص.

– استضافت اليونان تمرينات تتعلّق بالقتال الجوّي (Iniochos) في عام 2022، بمشاركة النمسا وكندا وفرنسا وإيطاليا وسلوفينيا والولايات المتّحدة، إضافة إلى إسرائيل وقبرص، وبحضور أربع دول شرق أوسطيّة مراقبة: مصر والكويت والمغرب والمملكة العربية السعودية.

– في جنوب البحر المتوسط، برزت العلاقات المتنامية بين إسرائيل واثنتين من دول الخليج: البحرين والإمارات العربية المتّحدة. وقد توّج ذلك بلقاء جمع الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وولي عهد أبو ظبي محمد بن زايد آل نهيان ورئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت في آذار 2022 في شرم الشيخ. وتناول اللقاء تداعيات التطوّرات العالمية، وخاصة ما يتعلّق بالطاقة، واستقرار الأسواق، والأمن الغذائي. بدا واضحاً أنّ ذلك التقارب وتلك الاتفاقيات الدفاعية غير بعيدة عن الترحيب الأميركي، من دون أن ترغب الدول المشاركة في وجود عسكري أميركي مكثّف في شرق البحر الأبيض المتوسط، بل هي تتوق إلى قيادة دبلوماسية قد تعزّز المشاركة المباشرة مع الولايات المتّحدة والقدرة على وضع استراتيجيات موثوقة وصياغة تحالفات طويلة الأمد.

– تركيا بدورها لم تتوانَ عن الاستثمار في الموقف الجديد، فقدّمت نفسها شريكاً له ثقله في منظومة الأمن والدفاع الجديدة. فالحرب الدائرة بين دولتين على البحر الأسود (روسيا وأوكرانيا) أعادت تركيا إلى واجهة المشهد مجدّداً، وعزّزت أوراق قوّتها وقدرتها على موازنة علاقاتها بين روسيا والغرب. لقد طبّقت تركيا في هذه الأزمة النموذج عيْنَه الذي طبّقته إبّان العمليّتين العسكريّتين في جورجيا والقرم الروسي في عامَيْ 2008 و2014: خطاب منحاز إلى الغرب ورفض تطبيق العقوبات على روسيا. من جهة أخرى، أمسكت تركيا ببراعة بورقة المضائق فأغلقتها بحكم الأمر الواقع أمام كلّ من سفن الدول المشاطئة (أي الروسية) وغير المشاطئة (أي دول الناتو) وقدّمت نفسها وسيطاً بين روسيا وأوكرانيا.

 

إسرائيل: طموح القوّة الإقليميّة

إنّ تحوُّل دول حوض البحر المتوسط إلى شريك في استقرار أسواق الطاقة العالمية حمّلها أعباء حماية البنية التحتية للنفط والغاز التي باتت في رأس قائمة المهامّ التي تضطلع بها القوّات المسلّحة. وهذا يفرض قواعد تعاون دفاعي إقليمي ويؤثّر على السياسات الدفاعية الجديدة وعلى التحكّم بقرارات الحرب والسّلم لدى هذه الدول.

من المسلّم به أنّ مصر تقود دول المنطقة في عمليّات إسالة الغاز المستخرَج وتصديره، نظراً إلى البنية التحتيّة التي تتفرّد بها في المنطقة. وهذا ما يكرّسها شريكاً وازناً في منظومة الدفاع المرتقبة.

إقرأ أيضاً: الترسيم: عقاريٌّ لبنانيّاً.. والغاز لاستثمار إسرائيل والخليج

وبصرف النظر عن مدى نجاح لبنان في تلمّس طريقه نحو استخراج الغاز، وقدرة تركيا على حجز مكان لها في المناطق الاقتصادية المتنازَع عليها مع قبرص واليونان، وخطط الحكومة السورية في هذا الإطار، فإنّ اكتشاف المزيد من حقول النفط والغاز في المنطقة يستدعي نشوء تحالفات عسكرية للدفاع، ليس عن البنى التحتية وأنابيب الغاز وحسب، بل وعن الأمن الإقليمي عامّة.

تفترض التجربة التاريخية أنّ تحوُّل إسرائيل إلى دولة نفطية ومصدّرة للطاقة لن يبدّل من ذهنيّتها العدوانية، بل ربّما يدفعها إلى تطوير استراتيجيّتها الدفاعيّة والأمنية بما يتوافق مع متطلّبات الوضع الجديد: التحوّل إلى قوة إقليمية لحماية وضمان استقرار الطاقة في شرق المتوسط.

 

* مدير المنتدى الإقليميّ للاستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..

ما يدعو إلى القلق والخوف على لبنان قول نعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” في خطابه الأخير إنّ “خسارة طريق الإمداد عبر سوريا مجرّد تفصيل”….

“العقبة” تكشف عقبات المشهد السّوريّ

يليق بمدينة العقبة الأردنية الواقعة على ساحل البحر الأحمر والمشهود لها بخصوصيّاتها في استضافة وتنظيم العشرات من المؤتمرات الإقليمية والدولية ذات الطابع السياسي والأمنيّ والاقتصادي،…

سرديّة جديدة: سلاح “الحزب” للحماية من مخالفات السّير؟

.. “عفكرة توقيف سحر غدار هو عيّنة كتير صغيرة، شو رح يصير فينا كشيعة إذا سلّمنا سلاحنا. طول ما سلاحك معك هو الوحيد يلّي بيحميك….

نخبة إسرائيل: خطاب نعيم قاسم “خالٍ من الاستراتيجية”

منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم، فتارة حاول تبرير حرب…