لم تبدأ مشكلة العنصرية في الولايات المتحدة مع الرئيس دونالد ترامب، ولم تنتهِ به، سواء أعاد إلى البيت الأبيض في انتخابات 2024 أو بقي خارجه.
يتحدّث المؤرّخ الأميركي جوان ب. فريمان في كتابه “حقل الدماء: العنف في الكونغرس طريق إلى الحرب الأهلية”، عن الثقافة السياسية في أميركا، فيقول إنّه منذ عام 1790 شهد الكونغرس 70 حادثة عنف وقعت بين أعضاء الكونغرس على خلفيّة المواقف المتباينة من قضية استعباد السود.
عنف العنصريّة
من هذه الأحداث مثلاً قيام عضو الكونغرس تشارلز سومر في عام 1856 بإلقاء خطاب ضدّ العنصرية، فتصدّى له عضو آخر مؤيِّد للعنصرية هو بريستون بروكس (من ولاية كارولاينا الشمالية). لم يكن التصدّي بالشتائم فقط، لكن بروكس بادر إلى ضرب خصمه بعصاه الغليظة، وكاد يقضي عليه لو لم تنكسر العصا أثناء الضرب.
لم تبدأ مشكلة العنصرية في الولايات المتحدة مع الرئيس دونالد ترامب، ولم تنتهِ به، سواء أعاد إلى البيت الأبيض في انتخابات 2024 أو بقي خارجه
يروي المؤلف، وهو أستاذ للدراسات الأميركية في جامعة يال، وقائع عدّة أخرى كان مسرحها الكونغرس أيضاً، ووقعت في الستينيات من القرن الماضي، تبادل خلالها أعضاء في الكونغرس الشتائم واللكمات على خلفيّة تباين وجهات النظر من موضوع العنصرية.
يقول إنّ هذه القضيّة والصراعات العنيفة داخل الكونغرس الناتجة عنها لم تغِب طوال القرن التاسع عشر. كان البحث يدور حول تقرير مصير “العبودية”. إلّا أنّه تحوّل إلى بحث في السلوك الاجتماعي لأعضاء الكونغرس الذي اتّسم بالعنف اللفظي والجسدي معاً، حتى أصبح التهديد بالقتل، بل ومحاولة القتل فعلاً، جزءاً من الخطاب السياسي.
يذكر المؤلّف وقائع عن تلك الاشتباكات، فيقول إنّ الشتائم المقذعة والقبضات اليدويّة والعصيّ والسكاكين والمسدّسات، وحتى حجارة أرض الكونغرس، كانت أسلحة العنصريين الجنوبيّين ضدّ الشماليين الذين كانوا يطالبون بإنهاء العنصرية السائدة في ولايات الجنوب.
نظريّة المؤامرة
يتناول المؤلف حادثة وقعت في عام 1842 في ولاية لويزيانا التي تفجّرت فيها أحداث عنف أخيراً، على خلفيّة حادث مقتل جورج فلويد الأميركي المتحدّر من أصول إفريقية على يد رجل شرطة من البيض، فيقول إنّ ممثّل الولاية جون دوسون من الحزب الديمقراطي كان دائماً يحمل معه إلى الكونغرس سكّيناً حادّة ومسدّساً، ولم يكن يخجل أو يتردّد في التهديد باستعمالهما، خاصة عندما تُطرح القضية العنصرية التي كان هو من معارضي إلغائها في ذلك الوقت.
وفي إحدى الجلسات حاول أحد أعضاء الكونغرس، وهو ممثّل ولاية تينيسي توماس أرنولد، الدفاع عن حقّ الرئيس جون كوانسي أدامس بطرح موضوع العبودية للمناقشة، فتصدّى له دوسون مهدّداً “بقطع عنقه من الأذن إلى الأذن”. وهذا مسجّل في محضر وقائع تلك الجلسة.
أدّى انعدام الثقة داخل الكونغرس ولدى الرأي العام في الشمال والجنوب إلى تحويل العاصمة واشنطن إلى مسرح للصراع الحادّ
في إطار تلك المشاحنات العنصرية الحادّة، وُلد الحزب الجمهوري الذي يعكس الرئيس السابق دونالد ترامب مبادئه العامّة ومواقفه من القضية العنصرية، وهي غير المبادئ التي قام في الأساس عليها، كما يوضح مؤلّف الكتاب الذي يروي القصّة التالية:
“في عام 1820 تمّ الاتفاق على رسم خطّ يفصل بين الجنوب الأميركي المتمسّك بالعبودية، والشمال الذي يدعو إلى إلغائها، عُرِف “بخطّ ميسوري”. ولكن في عام 1854 أُعدّ مشروع قانون جديد عُرِف بمشروع كانساس – نبراسكا نصّ على إلغاء الخطّ القديم، واستطراداً إلغاء التفاهم المتعلّق به، على أن يُترك لكلّ ولاية حقّ تشريع العبودية أو تحريمها، أيّاً كان موقعها في الشمال أو الجنوب.
أدّى طرح هذا المشروع أمام الكونغرس إلى تفجير موجة حادّة من الخلافات رفعت مستوى الصدام العنفيّ لغةً وممارسة. ودخلت الصحافة المحلية على الخطّ في الاتّجاهين، فتأجّجت حدّة الصراع بين الفريقين. فقد كان لكلّ فريق أقلامه وصحافته، وبلغ الأمرُ الحديثَ عن مؤامرة تستهدف سيادة الولايات المتحدة. فالصحف المؤيّدة للعنصرية روّجت لنظريّة المؤامرة. وكانت المؤامرة “عزل الجنوب وتدميره”. أمّا الصحف المعارضة للعنصرية، فقد روّجت لنظرية معاكسة تقول إنّ المؤمنين بالعنصرية يريدون نشرها وتعميمها حتى في الولايات الشمالية كلّها. ومن رحم هذه المعركة وُلد الحزب الجمهوري.
نقاش بالسكاكين
بدأت الحرب الأهلية بين الشمال والجنوب في الكونغرس الأميركي، حيث كان النقاش يجري بالأيدي والسكاكين والعصيّ والمسدّسات. كانت الثقة معدومة بين ممثّلي الشمال والجنوب، وبغياب الثقة كان القفز إلى الاشتباك العنيف يتمّ بصورة مؤدّبة. وفي أواخر عام 1850 ارتفعت صيحات الرأي العامّ في الشمال وفي الجنوب على حدّ سواء تطالب أعضاء الكونغرس من الفريقين بالدفاع عن وجهة نظرهما المتعلّقة بالعنف والسلاح. حتى إنّ الشماليين كانوا يجمعون الأسلحة ويقدّمونها لممثّليهم في الكونغرس، غير مستثنين الذين كانوا يأنفون استخدام السلاح.
أدّى انعدام الثقة داخل الكونغرس ولدى الرأي العام في الشمال والجنوب إلى تحويل العاصمة واشنطن إلى مسرح للصراع الحادّ.
في ذلك الوقت فَقَد الأميركيون الثقة بالنظام السياسي وانهارت الثقة المتبادلة بين مواطني الشمال والجنوب، وفشل الحزبان السياسيّان الجمهوري والديمقراطي في احتواء مخاطر هذا الوضع. وهكذا بدا العنف أمراً منطقياً، وحتى ضرورياً، لحسم القضايا الخلافية.
ساعدت الصحافة المحلية في إذكاء نار هذا الانقسام، فانتشرت نظريّات المؤامرة، وساهم في نشرها اكتشاف التلغراف في ذلك الوقت الذي سرّع عملية انتشار اللهيب، وهو ما قامت به أخيراً أدوات “التواصل الاجتماعي” قبل وأثناء وبعد غزو الكونغرس الذي لا يزال يحاكَم عليه الرئيس السابق ترامب.
إقرأ أيضاً: الحرب الصينية الأميركية (3): قريبة.. ومستحيلة؟
عندما وقفت الولايات الشمالية ضدّ العبودية كان عدد مواطنيها من الأميركيين المتحدّرين من أصول إفريقية قليلاً جدّاً وغير مؤثّر، وما يزال هذا الوضع مستمرّاً حتى اليوم. وربّما هذا ما يفسّر مشاركة أميركيين من أصول غير إفريقية (أميركا الجنوبية)، وحتى من أصول عرقية بيضاء، في التظاهرات التي شهدتها مدن الولايات المتحدة تحت شعار: السود يستحقّون الحياة أيضاً. لقد جرى تدويل هذا الشعار، وهو ما يزال يخضع لبقايا ثقافة الحرب الأهلية في الولايات المتحدة.