زيارة الرئيس الصيني شي جينبينغ للمملكة العربية السعودية الأسبوع الفائت، ومشاركته في القمم الثلاث التي دعا إليها خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، شكّلتا حدثاً سياسياً مهمّاً، إذ جرتا في مرحلة ترتفع فيها حدّة الاستقطاب الدولي على خلفيّة التداعيات الجيوسياسية للحرب في أوكرانيا، والخلافات العميقة بين واشنطن وبكين في ما يتعلّق بالنظام الدولي، ومسألة تايوان واقتراب المنافسة الأميركية الصينية من بلوغ حافة الصراع، بعد التوتّرات الأخيرة المتّصلة بتايوان والموقف الصيني من الحرب في أوكرانيا، بالإضافة إلى التوتّرات التجارية التي تصاعدت منذ عام 2018 وما تزال.
لا شكّ في أنّ السياق الإقليمي المعقّد، الذي تشهده المنطقة منذ عدّة سنوات، قد احتلّ موقعه في الحشد الخليجي والعربي في هذه القمم، وفي كلمات الملوك والرؤساء العرب وفي مداخلات وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، الذي رأس القمّتين الخليجية الصينية والعربية الصينية. يتّسم هذا السياق بالتحدّيات التي تطرحها السياسة الخارجية الأميركية على صعيد إعادة صياغة الدور الأميركي في المنطقة وتركيز الاهتمام على منطقة المحيطين الهندي والهادئ، وشعور الحلفاء التقليديين بتراجع إدارة بايدن عن عدد من الالتزامات الأميركية. ويشكّل تعثّر العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران، وقيام هذه الأخيرة ببناء ترسانة من الصواريخ البالستية والمسيَّرات الفتّاكة، والتوسّع في نفوذها الإقليمي من خلال دعم الميليشيات المرتبطة بمشروعها، تحدّيات تهدّد استقرار المنطقة. فرضت هذه التحدّيات نفسها على المملكة العربية السعودية التي أخذت تعزِّز الاتّجاهات الجديدة في سياستها الخارجية، من خلال وقف تبعية أمنها القومي لأيّة قوّة دولية عظمى وإقامة شراكات في آسيا، التي تعتبر قارّة الفرص والتحوّلات العميقة، من أجل إعادة هيكلة التوازن الدولي والثروة العالمية واحتلال موقع ريادي في بنية التجارة العالمية. من هنا تبرز حاجة الطرفين الصيني والسعودي إلى تعزيز الشراكة بينهما، على خلفيّة الاستقطابات الدولية والإقليمية، بالإضافة إلى حدّة الاستقطاب القائم على خلفيّة أزمة الطاقة وإعادة هيكلة الأسواق. لقد أدرك صنّاع القرار في بكين أهميّة التعاون مع المملكة نظراً إلى موقعها المؤثّر في الوقائع الجيوسياسية الجديدة في أسواق الطاقة وفي الشرق الأوسط، وأدرك المسؤولون السعوديون أهميّة القوّة الاقتصادية والتكنولوجية التي بلغتها الصين وحاجة الاقتصاد السعودي إليها، ودورها المتعاظم في منطقة المحيط الهادىء الذي خلق وقائع جيوستراتيجية مؤثّرة على مستوى التوازنات الدولية، في الوقت الذي تشتدّ فيه أزمة الثقة بين الرياض وواشنطن.
تشهد المملكة العربية السعودية منذ عام 2015 تحوّلاً كبيراً في سياستها الخارجية على خلفيّة التحدّيات الجيوسياسية التي سبق ذكرها
موقع السعوديّة في رؤية الرئيس الصينيّ
بالطبع، انطلق المسار الاستراتيجي في بناء الشراكة الصينية السعودية منذ سنوات، وذلك على وقع التحوّلات الدولية والإقليمية ومتطلّبات العولمة والتبادل التجاري. لكنّ زيارة الرئيس الصيني للمملكة تكتسب هذه المرّة أهمّية خاصة لأنّها تجمع في حقائبه الدبلوماسية العديد من الأوراق ذات الطابع الاستراتيجي، سواء في الاستثمار أو التكنولوجيا أو الابتكار أو القوة المالية والصناعية، وذلك في ضوء الإعلان الواضح للرؤية السياسية للصين والرهانات المعقودة عليها. ويتسلّح شي برؤيته التي عبّر عنها بوضوح في عام 2021، والتي تهدف بنظره إلى “إعادة الصين إلى مكانها الصحيح والاعتراف بالمصالح الأساسية لها واحترامها”، وتؤكّد عزم الأمّة الصينية المتجدّدة على “خلق نوع جديد من العلاقات الدولية من خلال ما يراه أنّه صراع طويل الأمد” على طبيعة النظام الدولي. وفي ضوء هذه الرؤية، تتهيّأ الصين لتحتلّ الموقع الاقتصادي الأوّل في العالم عام 2049، بعد عقود من النموّ المستدام وتجاوز الاقتصاد الصيني للعديد من التحدّيات، وبعدما نجح شي جينبينغ بإثبات جدّية مبادرة إقامة حزام اقتصادي على طول طريق الحرير كان قد أعلنها عام 2013. وتهدف هذه المبادرة إلى جعل كتلة “الأراضي الأوراسية تتمحور حول قيادة بكين”، وإلى “ربط الهادىء وبحر البلطيق”، لتشكيل منطقة يقطنها ما يقارب 3 مليارات شخص، وتمثّل ما يزيد على 70% من سكّان العالم وموارده، ويتوقّع لها الرئيس الصيني “أن تصبح أكبر سوق في العالم بقدرات وإمكانيات لا مثيل لها”.
بالطبع حاجة الصين إلى شركاء استراتيجيّين لتحقيق رؤيتها السياسية والاقتصادية كبيرة جدّاً، وتبدو المملكة العربية السعودية شريكاً مميزاً في هذا المجال، إذ تشكّل من خلال قدرتها الإنتاجية العالية من النفط وموقعها القيادي في مجموعة “أوبك +” أهمّ الرهانات الصينية على استمرار تدفّق النفط السعودي إلى الاقتصاد الصيني. وتكتسب السعودية هذه الأهميّة نظراً إلى اشتداد الرهانات على أهميّة أمن الطاقة لتلبية حاجات اقتصاد الدول، والتأثيرات الجيوسياسية للدول المنتجة في إعادة رسم السياسات الخارجية وهيكلة التحالفات. ويبدو موقع المملكة الجغرافي وما يمتلكه من مزايا جيوسياسية مسألة حيويّة في “مبادرة الطريق والحزام” التي تشكّل فيها مسارات النقل البرّية والبحرية العمود الفقري. ويقدّم الاقتصاد السعودي الذي حقّق نموّاً سريعاً هذا العام بلغ حوالي 8%، بالإضافة إلى المشاريع العملاقة التي تلحظها رؤية 2030، وفي مقدَّمها مشروع نيوم، أهمّ الفرص للاستثمارات الصينية التي تبحث عن الاستثمار في البنى التحتية التي تخدم مبادرة الطريق والحزام. تشكّل المزايا الاقتصادية التي تتمتّع بها السعودية فرصة ذهبية للصين للاستثمار في بناء شراكة استراتيجية مع المملكة، لكنّ الرئيس الصيني الذي يسعى إلى استثمار قوّة الصين في المجالات المختلفة وبناء الشراكات والأحلاف، من أجل بناء نظام دولي متعدّد الأقطاب تلعب فيه الصين دوراً يليق بحضارتها، يتطلّع إلى الاستثمار السياسي الثمين والتقاط الفرص التي تمثّلها التحوّلات الكبيرة في السياسة الخارجية السعودية والانفتاح على الصين في ظلّ أزمة الثقة القائمة مع الولايات المتحدة الأميركية. لذلك تشكّل ملاقاة السعوديين لربط المصالح والأهداف التي تمثّلها رؤية 2030 بالأهداف الاستراتيجية التي تمثّلها “مبادرة الطريق والحزام”، أهمّ الأثمان السياسية التي حقّقها شي جينبينغ، وستُحدث تحوّلاً جيوسياسياً كبيراً في العلاقات الصينية السعودية، في الوقت الذي يرتفع فيه الرهان السعودي على شراكة استراتيجية مع الصين للتعويض عن التحوّل في الدور الأميركي في الشرق الأوسط والعلاقة مع الحلفاء، وعلى الانخراط بشكل أوسع في ما تستعدّ له قارّة آسيا من دور حاسم في نظام التجارة العالمي واكتساب الممرّات المائية في بحارها ومحيطاتها أهميّة قصوى.
زيارة الرئيس الصيني للمملكة تكتسب هذه المرّة أهمّية خاصة لأنّها تجمع في حقائبه الدبلوماسية العديد من الأوراق ذات الطابع الاستراتيجي
تحدّيات الرهانات السعوديّة
تشهد المملكة العربية السعودية منذ عام 2015 تحوّلاً كبيراً في سياستها الخارجية على خلفيّة التحدّيات الجيوسياسية التي سبق ذكرها. ويشكّل الوعي السعودي لأهمّية بناء الشراكات من خارج الاصطفافات الدولية والإقليمية، عاملاً حاسماً في إعادة هيكلة علاقات المملكة الخارجية لحماية مصالحها وأمنها القومي الذي تعرّض للكثير من التحدّيات، منذ توقيع الاتفاق النووي في عام 2015، مروراً بحرب اليمن وسياسات نظام الملالي في طهران التي تعتبرها السعودية مصدراً كبيراً لزعزعة الاستقرار في المنطقة. هكذا نجح وليّ العهد محمد بن سلمان، الذي تصفه الصحافة الأميركية بأنّه يمسك بيده بمفاتيح السياسة الخارجية للمملكة، في سياسة الانفتاح على الصين، التي تشكّل بنظره نموذجاً يُحتذى في التنمية الاقتصادية والنموّ المستدام. ومن شأن هذا الانفتاح أن يخدم تطلّعاته إلى تحقيق أهداف رؤية 2030 وبناء اقتصاد متنوّع قائم على النموّ المستدام. نجح وليّ العهد أيضاً في العديد من القرارات التي رافقت التوتّرات الجيوسياسية في قطاع الطاقة منذ اندلاع الحرب في أوكرانيا، والتي عزّزت استقلالية المملكة وحمت مصالحها القومية بعيداً عن استرضاء الولايات المتحدة والالتحاق بسياساتها. وممّا لا شكّ فيه أنّ موقف المملكة من الحرب في أوكرانيا الذي أزعج الأميركيين، كما أقلقهم موقفها المؤيّد لخفض الإنتاج في مجموعة “أوبك +” منذ شهرين، قد عمّق أزمة الثقة بين إدارة بايدن والرياض، القلقة من الاستراتيجية الأميركية غير الواضحة اتجاه النظام الإيراني، ومن التنازلات التي كانت إدارة بايدن على وشك القيام بها لإحياء الاتفاق النووي، لولا الضغوطات الكبيرة التي أوقفت هذا المسار على الأقلّ حالياً. في خضمّ هذه التحوّلات والتوتّرات، جاءت زيارة الرئيس الصيني للسعودية لتكرّس نجاح المملكة في رسم معالم سياسة خارجية جديدة تلاقي الإصلاحات الاقتصادية التي يراهن وليّ العهد على استكمالها، من أجل بناء اقتصاد سعودي متنوّع يقلّل من مخاطر تبعية الاقتصاد لموارد النفط، ولا سيّما في الظروف التي أخذت فيها الأسعار تتأثّر بالتقلّبات الجيوسياسية أكثر من تأثّرها بقاعدة العرض والطلب، وجاءت أيضاً لتفتح الطريق نحو تعميق الشراكة الصينية – السعودية، ولا سيّما في مجال الاستثمارات، إذ تراهن المملكة على رفع نسبة الاستثمارات إلى الناتج المحلّي، وهو أحد أعمدة نجاح رؤية 2030، لتصل إلى 100 مليار دولار في عام 2030. بالتأكيد يلبّي الرهانُ السعودي على الشراكة مع الصين حاجةَ المملكة إلى الاستثمار في قطاع التكنولوجيا المتطوّرة، بعدما نجحت المملكة في إطلاق خمس مناطق اقتصادية يُعوَّل عليها أن تشكّل حوافز كبيرة للاستثمارات الصينية، ولا سيّما في قطاع التكنولوجيا المتطوّرة التي تحفّظت الولايات المتحدة الأميركية على فتح الفرص فيها للاقتصاد السعودي. بالطبع، من المهمّ جداً النظر إلى زيارة الرئيس الصيني للمملكة ومشاركته في القمم الثلاث من زاوية تلاقي المصالح الاقتصادية، ولا سيّما توقيع اتفاق الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع المملكة، وتأكيد الرئيس الصيني في كلمته في القمّة العربية الصينية على “علاقات الشراكة الاستراتيجية الشاملة مع 12 دولة عربية، وعلى وثــائــق التــعــاون لـبـنـاء الــحــزام والــــطــــريــــق مـــــع 20 دولـــــــة عـــربـــيـــة، وانضمام 15 دولة عربية إلى البنك الآسيوي لـلاسـتـثـمـار فـــي الـبـنـيـة الـتـحـتـيـة، وإنشاء 17 آليّة تعاون في إطار منتدى تعاون الصين العربي”. لكن من المهم أيضاً النظر إلى التحدّيات التي تواجه التلاقي السياسي الذي ورد في إعلان الرياض، والذي تضمّن العديد من القضايا التي تقلق العالم العربي وتؤثّر في مستقبله وموقعه على خريطة العلاقات الدولية. وأهمّ هذه القضايا حلّ الدولتين والموافقة على المبادرة العربية التي تنصّ على السلام مقابل الأرض لإنهاء النزاع العربي الإسرائيلي، مروراً بإنهاء الحرب في اليمن والتوصّل إلى تسوية سياسية لأزمتَيْ سوريا وليبيا، ووصولاً إلى احترام مبادىء حسن الجوار وعدم التدخّل في الشؤون الداخلية للدول، والتأكيد على أهمّية الجهود المبذولة لمنع انتشار الأسلحة النووية وأسلحة الدمار الشامل الأخرى وفقاً لمعاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية “NPT”، وعلى أهميّة إخلاء المنطقة من الأسلحة النووية. الأسئلة في هذا المجال متعدّدة، وأهمّها يتعلّق بدور الصين وإرادتها السياسية للتأثير في هذه القضايا، ولا سيّما في ضوء الشراكات التي عقدتها في السنوات الماضية إن مع الجمهورية الإسلامية التي تمثّل للصين شريكاً مهمّاً في مجال استيراد النفط وبناء طرق النقل لـ”مبادرة الطريق والحزام”، أو مع إسرائيل التي بلغت الشراكة الصينية معها مداها الواسع على الرغم من معارضة وتحفّظ الإدارة الأميركية. أمّا بالنسبة إلى الشراكة الاستراتيجية الشاملة بين المملكة العربية السعودية والصين، فالأسئلة المشروعة تفترض التساؤل أوّلاً عن قدرة الصين على المواءمة بين ما تمثّله إيران في “مبادرة الطريق والحزام”، وما تمثّله السعودية التي تراهن على ربط رؤية 2030 بهذه المبادرة، مروراً بقدرة السعودية على المواءمة بين متطلّبات الشراكة الاستراتيجية مع الصين وبين استمرار الشراكة مع الولايات المتحدة الأميركية، التي سارع وزير خارجية السعودية بعد إعلان الرياض إلى وصفها بالحليف الأقدم والأكثر أهميّة. وتظلّ الأسئلة ذات الطابع الجيوسياسي تتمحور حول المدى الذي يمكن أن تبلغه الشراكة مع الصين، في ضوء ما تمثّله هذه الأخيرة من تحدّيات للولايات المتحدة الأميركية ولدول مجموعة السبع، وكيف سيكون الموقف السعودي إذا لم تتعامل الولايات المتحدة بمرونة وواقعية مع خيارات المملكة التي تبدو كمن يضع قدماً في بكين وأخرى في واشنطن؟
* أستاذ العلوم السياسية في الجامعة اللبنانية.