لا شيء غير الانتهازية بأقبح نسخاتها جمعت “حزب الله” و”التيار الوطني الحر” في “تفاهم” واحد. لم يجرؤ الطرفان حينها على نعته بالاتفاق. وبدا أنّهما متقزّزان من هذا “الإثم”. استبطن وصف “التفاهم” تواطؤاً عرضيّاً على فعلةٍ لا يمكن أن ترقى إلى تحالف بين حزب وتيار لا مشترَك في تاريخهما وسوابقهما ونصوصهما وأهدافهما.
حزب الله نفسه لم يتوقّع يوماً أن تحتضنه كنيسة مار مخايل مع تيار الجنرال ميشال عون. والأرجح أنّ الحزب في حينه (2006) كان يتوسّل احتضاناً لبنانياً وازناً ذا عبق مسيحي يتدثّر به لردّ التهمة الثقيلة التي بدأت تتسرّب أخبارها عن تورّطه في اغتيال رفيق الحريري. والأرجح أيضاً أنّ التفاهمات التي كُشف أنّها أُبرمت مع “الجنرال” تمهيداً لعودته من المنفى الفرنسي كانت ستسوقه حتماً إلى هذا “القدر”.
نفاق متبادل بين الحزب والتيّار
من يقرأ “التفاهم”، من حيث إنّه لم يتجاوز حدود “الورقة” المحشوّة على عجل ببنود عامّة لزوم الحفل، يستنتج واجهات النفاق المتبادل في إيمان عون وجماعته بـ “المقاومة” التي لم يبخل الجنرال المنفيّ بقذفها بأبشع النعوت حين كان مبعداً في فرنسا، وفي “غرام” الحزب بتشكيل سياسي يقوده من كان يرفع لواء العداء للنظام السوري وتحالفه مع الحزب المسلّح. وبعدما كانت منابر الحزب تتّهم عون والعونيين بالعمالة لإسرائيل، ذهب أمينه العامّ مغتبطاً فخوراً بتوقيع تفاهم أسّس في ثناياه للحال الذي وصلت إليه البلاد.
تغيّر العالم وتغيّرت المرحلة وتغيّرت حسابات الحزب أيضاً، وربّما بات أقلّ حساسيّة من النزوع الابتزازي للجنرال وصهره
قدّمت العونيّة ما لم يكن حزب الله يتوقّعه وقلّما آمن بالتعويل عليه. أفرجت الظاهرة عن ورم غير حميد مثقل بخبث عدميّ. وباتت عنوان عصبيّة مسيحية خُيّل أنّها تقادمت مع انتهاء الاحتراب الأهلي وانتقال اللبنانيين إلى عقد اجتماعي تناسل من اتفاق الطائف.
فتح التيار العوني بوّابات مسيحية كبرى كانت مغلقة أمام حزب الله. بدا الجمهور المسيحي عامّة، ومن بينه ذلك العوني، معادياً لوعد “السيّد” الشهير في الثمانينيات بإقامة دولة إسلامية على “ألا يكون لبنان جمهورية إسلامية واحدة بل جزءاً من الجمهورية الإسلامية الكبرى التي يحكمها صاحب الزمان ونائبه بالحقّ الوليّ الفقيه الإمام الخميني”.
ابتلعت العونيّة هذا العداء، وباتت “المقاومة” بطبعتها الشيعية خياراً معتمَداً، ربّما نكايةً بـ”مقاومة” مسيحية كانت في الوجدان العامّ تقودها “القوات اللبنانية” المكروهة ماضياً وحاضراً من قبل الجنرال وتابعيه.
سرديّة “العذاب الميتافيزيقيّ” تجمع الحزب والتيّار
في أحد التجمّعات الشعبية للحزب والتيار، حين كانت بيارق التنظيمين تملأ الساحة، خرج الأمين العام للحزب السيد حسن نصر الله بصرخته الافتتاحية المعهودة: “يا أبناء الحسين”. لا شيء في تلك الصرخة كان مستهجناً لدى الجمهور المسيحي المحشور داخل حاضنة شيعية كبيرة. وحدةُ حالٍ باتت بين أصحاب “التفاهم” لم تجد لها داخل “القبيلة” العونيّة أيّ نفور مسيحي من إسلامية جامحة. خرج من اللاهوتيين أيضاً من راح يستذكر الحسين ويسوع كمرجعيات واحدة يجمعهما العذاب والاستشهاد.
لاحقاً هناك من حَاكَمَ “قوى 14 آذار” على عدم التنبّه للظاهرة العونية، وحتى التقليل من شأنها وثبوت الجهل بها. وأيضاً هناك من حَاكَمَ العقل السياسي المسيحي على قلّة درايته بالرأي العامّ المسيحي الذي وجد في عون والعونيّة، وحتى التحالف مع حزب الله، ردّاً انتقامياً على ازدراء حصل إثر التحالف الرباعي عام 2005 الذي يؤكّد واجهة جديدة لِما أُطلق عليه “التهميش المسيحي” في مرحلة الوصاية السورية.
نهلت العونية وحزب الله من لحظة مشتركة وجدت في اتفاق الطائف تحوُّلاً مناقضاً لمشروعهما. والواضح أنّ العونية فاجأت نفسها في القدرة على سوق شارعها نحو نقيضه التاريخي، فتشجّع زعيمها وصهره، رئيس التيار لاحقاً جبران باسيل، على الذهاب إلى أقصى الحدود في الجهر بالتحالف مع نظامَيْ طهران ودمشق ودقّ أبواب العاصمتين. فمن كان لا يتصوّر مصالحةً بين عون والنظام السوري الذي أطاح به وطرده من قصر بعبدا في تشرين الأول 1990 وتسبّب في سنوات نفيه الـ 15، بات يرى أنّ من العاديّات زيارة الجنرال وعائلته لسوريا في ضيافة رئيسها، وزيارته للعاصمة الإيرانية والاجتماع بالمرشد الإيراني علي خامنئي.
لم يبخل الحزب في شلّ البلد وحكوماته وتعليق الحياة السياسية والتهويل بالشارع والسلاح صوناً لمصالح زعيم “التيار” وصهره
خدمات عون للحزب
عاد عون من رحلته الإيرانية في تشرين الأول 2008 مبشّراً مناصريه في لبنان بأنّ أموراً كثيرة ستتغيّر في لبنان. كان صفّق بدون حرج لـ “غزوة 7 أيار” قبل ذلك بأشهر. وكان بارك خطيئة “لو كنت أعلم” لعام 2006، واستبسل لاحقاً في الانقلاب على حكومة سعد الحريري عام 2011، وكان دائما للحزب درعاً وذخيرةً ومدداً.
بالمقابل لم يبخل الحزب في شلّ البلد وحكوماته وتعليق الحياة السياسية والتهويل بالشارع والسلاح صوناً لمصالح زعيم “التيار” وصهره.
ليس الحدث في اهتزاز “التفاهم”، وربّما وهن مفعوله. الحدث هو في طول عمر هذا التفاهم الذي قام على نفاقٍ، وتَحَوّل من خلال معموديّة التجارب إلى تحالف يكاد يكون اندماجيّاً لا يختلف فيه الشقّان في أيّ خيارات داخلية، مهما قست دمويّتها، أو خارجية قادت الحزب ووراءه التيار إلى سوريا واليمن وفاقمت القطيعة مع العرب، وخصوصاً دول الخليج.
مع ذلك يبقى أنّ هذا التفاهم انتهازي بامتياز وتنتهي صلاحيّته بانتهاء الحاجة إليه.
الحزب يمكنه أن يُكمل بلا حليف.. التيّار لا يستطيع
تغيّر العالم وتغيّرت المرحلة وتغيّرت حسابات الحزب أيضاً، وربّما بات أقلّ حساسيّة من النزوع الابتزازي للجنرال وصهره. قد يتصدّع التفاهم بانتهاء مهمّة العونيّة في خدمته. غادر الجنرال قصر الرئاسة إلى بيته ولم تعد شروط الرئاسة في لبنان الداخلية والخارجية تسمح بعونيّ آخر على رأس البلاد. لم ينسج الحزب هذا التفاهم إلا من أجل مصالح مؤقّتة ولا يضيره الاستغناء عن تفاهم ما كان إلا ورقة يسهل تمزيقها.
إقرأ أيضاً: نصرالله يشخّص باسيل: ADHD
لن تنتهي علاقة التيار والحزب. لكن يسهل استشراف قدرة الحزب على المضيّ قدماً من دون “تيار” حليف، فيما من الصعب استشراف مستقبل هذا التيار من دون “حزب” حاضن حنون. والأرجح أنّ التحوّلات المتدافعة في العالم والإقليم التي تسهم في اهتزاز التفاهم مع “غطاء مسيحي” سياسي، قد تضطرّ الحزب إلى تفعيل ورشة تهدف، على ما تُسرِّب منابره، إلى تحرّي “تفاهم” مع لبنان كلّه لعلّ ذلك يكون غطاءً أكثر حنكةً وحصافة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: mohamadkawas@
*كاتب لبناني مقيم في لندن