قبل سنوات التقيتُ الرئيس عمر البشير مع الدكتور أحمد زويل في قصر الرئاسة بالخرطوم. تحدّث البشير طويلاً، وكان من بين ما قاله ومن دون أن يحدّد: إنّ هناك توجّهاً لفصل جنوب السودان عنّا، ثمّ يقسّموننا إلى خمس دول: واحدة في الشرق وأخرى في الغرب وثلاث في الشمال والوسط والجنوب، ولن يهدأ لهم بال حتى ينجحوا في ذلك.
كانت تلك الكلمات صدمةً كبيرةً للدكتور زويل ولي، فرئيس الجمهورية يتحدّث كمراقب أجنبي، أو مراسل صحافي مهمّته نقل الأحداث لا إدارتها أو إصلاحها وضبط مساراتها.
في الأيام الفائتة نُشرت عدّة مقالات في الصحف السودانية تتحدّث عن هذا المصير إذا لم يتمّ إنقاذ البلاد من مأزقها الكبير. أحد تلك المقالات تحدّث عن ذلك التقسيم الخماسي الذي سمعته من الرئيس السابق، وتحدّثت مقالات أخرى عن احتمالات تفكّك الدولة وذوبانها داخل محيط جيرانها.
يمتاز الشعب السوداني بثقافة عالية. وإذا كانت الثقافة في السودان ميزة كبرى فإنّها عبء كبير بالقدر ذاته
الاتّفاق الإطاريّ
قبل أن ينتهي عام 2022 توصّل السودان إلى اتفاق إطاري يبدو جيّداً، وهو اتفاق جرى توقيعه بين الفريق أول عبد الفتاح برهان ونائبه محمد حمدان دقلو (حميدتي) قائد قوات الدعم السريع من جانب، و40 من الأحزاب والنقابات والقوى المدنية من جانب آخر.
تضمّن الاتفاق خروج الجيش من السلطة، وتشكيل حكومة مدنية برئاسة رئيس وزراء واسع الصلاحيات لإدارة المرحلة الانتقالية. وحسب الفريق برهان، يسعى الاتفاق إلى تحويل الجيش إلى مؤسسة دستورية غير منحازة لأيّ طرف، وتكون السلطة المدنية هي المسؤولة عن الوطن وقضاياه.
بتوقيع الاتفاق الإطاري 2022 تكون قد انتهت المرحلة الثانية من عصر ما بعد البشير. في المرحلة الأولى قادت حكومة عبد الله حمدوك المرحلة الانتقالية، وفي تشرين الأول 2021 أطاح الفريق برهان بالحكومة وقاد البلاد حتى توقيع الاتفاق الأخير.
في المرحلتين، واجه السودان تحدّيات كبرى، فهناك الفقر والفيضان والمعارك القبلية والجريمة المنظّمة، ولا سيّما المخدّرات، وهناك مئات القتلى وآلاف المصابين، وملايين النازحين واللاجئين.
وقد خلص اجتماع لمفوضية شؤون اللاجئين بالأمم المتحدة في جنيف هذا الشهر إلى أنّ هناك 7 ملايين نازح ولاجئ سوداني وجنوب سوداني، وجميعهم يعانون من أجل مواصلة الحياة. وفي الاجتماع تمّ طرح مبادرة مهمّة باسم “الحلول المستدامة” للنازحين واللاجئين، أي الحلول الدائمة لا المؤقّتة لهؤلاء الملايين الذين انهارت حياتهم بسبب الصراع السياسي والاجتماعي.
خريطة معقّدة
يقع السودان في موقع استراتيجي معقّد، فهناك الوضع القلق في باب المندب والقرن الإفريقي، بالتوازي مع حرب أهلية إثيوبية متقطّعة عند الحدود تسبّبت بتدفّق عشرات الآلاف من اللاجئين من إقليم التيغراي، إضافة إلى الأزمة الكبرى في دول الساحل والصحراء، حيث يتحالف الإرهاب متمثلاً بالقاعدة وداعش، والجريمة متمثّلةً بعصابات تهريب السلاح والبشر وتجارة المخدّرات.
يعاني السودان من نزف مستمرّ في كردفان والنيل الأزرق، فيما يتدهور الأمن الاجتماعي والجنائي في الوسط والشمال، ومن قلق شديد ممّا تسمّيه المعارضة وجود “جيشيْن” في البلاد، أحدهما نظاميّ وهو القوّات المسلحة السودانية، والثاني غير نظامي وهو “قوات الدعم السريع” التي يصعب دمجها، أو حتى لا تقبل بالاندماج.
تحتاج النخبة السودانية في تلك اللحظة الحرجة في تاريخ البلاد إلى أن تكون أكثر مسؤولية، وأكثر عقلانية
موسكو – بكين – واشنطن
أيّد الغرب سقوط البشير عام 2019، لكنّ الصين وروسيا كانتا متحفّظتَيْن. وبينما حاولت حكومة حمدوك التطبيع مع الولايات المتحدة، واصلت القيادة العسكرية توثيق العلاقات مع روسيا والصين.
في الآونة الأخيرة أيّدت الولايات المتحدة والأمم المتحدة الاتفاق الإطاري، الذي يعطي السلطة للمدنيين، فيما ربط مجلس الأمن عودة إرسال المساعدات الاقتصادية إلى السودان بالتوصّل إلى اتفاق نهائي للحكم المدني، وإكمال الترتيبات الدستورية.
هدّدت واشنطن كلّ الذين يعرقلون الاتفاق أو نقل السلطة بفرض عقوبات عليهم، ومن بينها عدم منح تأشيرات دخول إلى الأراضي الأميركية. وفي الرياض استقبل الرئيس عبد الفتاح السيسي الفريق البرهان على هامش القمّة العربية الصينية، وأيّدت مصر الاتفاق الإطاري، واعتبرته خطوة مهمّة لإرساء هياكل الحكم.
ثمّة حرب باردة أميركية – صينية – روسية في السودان. ذلك أنّ واشنطن تتّهم موسكو بالوجود العسكري عبْر مجموعة فاغنر بغرض الاستيلاء على مناجم الذهب في البلاد، وفي الوقت نفسه تحذّر السودان من توثيق العلاقات مع الصين.
وحين صرّح الفريق برهان أنّه تحدّث في الرياض، على هامش القمّة الصينية – العربية، عن إسقاط الديون الصينية على السودان، وأشادت الخرطوم برؤى وسياسات بكين في قضية تايوان، قامت واشنطن بتحذير الخرطوم من بناء أيّة شراكات أمنيّة أو عسكرية مع روسيا أو الصين، ودعتْ إلى مواجهة طموحات الصين في إفريقيا.
تحتاج الخرطوم من الغرب إلى إسقاط الديون، وتطبيع العلاقات، وتقديم مساعدات. أمّا من الصين فتطلب إسقاط الديون، وتسعى لديها إلى تسليح الجيش وضخّ الاستثمارات. وتتطلّع إلى روسيا لإرساء تعاون اقتصادي وعسكري. ومقابل هذا، يريد الغرب ربط مصالح السودان به، والتعاون معاً في مواجهة الوجود المتزايد لموسكو وبكين.
النداء الأخير
يمتاز الشعب السوداني بثقافة عالية. وإذا كانت الثقافة في السودان ميزة كبرى فإنّها عبء كبير بالقدر ذاته. تبدو كلّ الآراء منطقية، ومعظم وجهات النظر تبدو وجيهة. فالذين يرون أنّ الإطاحة بحكومة حمدوك كانت إنقاذاً، قابلهم مَن اعتبر ذلك نقطة تحوّل نحو الانهيار.
إقرأ أيضاً: الجوع والذهب.. السودان عند مفترق الطرق؟
هناك من يرون أنّه يجب الثقة بالاتفاق الإطاري، مقابل الذين لا يثقون بأية وعود أو أية مواثيق واتفاقات. ولدى كلّ منهما ما يعضد رأيه ويعزّز أسبابه. ومن المثير أنّ ما يقوله “الإخوان المسلمون” وما يطرحه الشيوعيون يبدو متقارباً على الرغم من الصراع التاريخي بين الجانبين.
تحتاج النخبة السودانية في تلك اللحظة الحرجة في تاريخ البلاد إلى أن تكون أكثر مسؤولية، وأكثر عقلانية. ذلك أنّ الخرطوم لا تشهد أزمة نظام بل أزمة دولة، والمخاطر المحتملة لا تتعلّق بضعف الاقتصاد أو تراجع الأمن، بل بما هو أكبر وأخطر.
إنّ الاتفاق الإطاري، على الرغم من كل ما عليه من ملاحظات، يبدو وكأنّه النداء الأخير.
* كاتب وسياسيّ مصريّ. رئيس مركز القاهرة للدراسات الاستراتيجيّة. عمل مستشاراً للدكتور أحمد زويل الحائز جائزة نوبل في العلوم، ثمّ مستشاراً للرئيس المصري السابق عدلي منصور.
له العديد من المؤلَّفات البارزة في الفكر السياسي، من بينها: الحداثة والسياسة، الجهاد ضدّ الجهاد، معالم بلا طريق، أمّة في خطر، الهندسة السياسية.
عضو مجلس جامعة طنطا، وعضو مجلس كلّيّة الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Almoslemani@