المونديال.. تحوّل إلى “طلقة” بوجه الخامنئي

مدة القراءة 7 د

بعد 24 سنة على موقعتهما الموندياليّة الأولى، نجح المنتخب الأميركي في تحقيق انتصار ثلاثيّ الأبعاد على إيران في كأس العالم “قطر 2022”.

كان البعد الأوّل في الثأر لخسارته في مونديال “فرنسا 98” بمفعول رجعيّ. أمّا الآخر فقد تمثّل في الفوز بهدف أعطاه ثلاث نقاط ثمينة كفلت له بطاقة العبور إلى الدور الثاني من بوّابة أبناء الهضبة الفارسية بالذات. أمّا البعد الثالث فكان سياسيّاً خالصاً، وقد طغى على كلّ ما عداه. فنظام الملالي الذي يرزح تحت وطأة انتفاضة شعبية منذ مقتل الشابّة مهسا أميني، كان بأمسّ الحاجة إلى انتصار كرويّ على منتخب “الاستكبار العالمي” يحوِّله إلى نصر سياسي.

وأكثر من كان يترقّب هذه المباراة هو المرشد الأعلى علي خامنئي، الذي جرحت الهزيمة كبرياءه، فخرج يتحدّث عن انتصار نظامه على أميركا في 6 دول.

 

النشيد والباسيج

عندما خاض المنتخب الإيراني عام 1998 مباراته مع أميركا كان يحظى بدعم وتشجيع أغلب العرب والمسلمين الذين احتفل بعضهم بهذا الفوز. أمّا بعدما استباحت الميليشيات والأذرع الإيرانية الهويّة، العربية اللسان، العديد من عواصم العرب وحواضرهم التاريخية، فتحوّل المنتخب الإيراني إلى الفريق الأكثر كراهية من العرب والمسلمين لاعتباره ممثّل النظام.

يدور الزمن دورته فيتسبّب حجاب مهسا أميني بمقتلها على يد شرطة الأخلاق، وتندلع انتفاضة شعبية تُظهر تبرُّم الإيرانيين بالهويّة التي حاول نظام الملالي تأطيرهم وحبسهم داخلها

بيد أنّ ذلك لم يحُل دون وجود شريحة لا بأس بها تعاطفت مع اللاعبين الإيرانيين بعدما امتنعوا عن ترديد النشيد الوطني في مباراتهم الأولى أمام إنكلترا في “قطر 2022”. لم تكن المرّة الأولى، بل حدث ذلك في المباريات الودّية التي سبقت المونديال، بما يعكس تأييد شريحة واسعة من اللاعبين للاحتجاجات الشعبية. وهو ما ظهر في تصاريحهم وتغريداتهم. وما عادوا إلى ترديد النشيد إلا تحت ضغط التهديدات التي تلقّوها من أمن نظام الملالي بالتعرّض لعوائلهم. ذاك أنّ “مهر خاوران” أو “شمس المشرق” هو نشيد يُشيد بنظام الجمهورية الإسلامية وقيمها. لكنّ ذلك لم يمنع الجماهير الإيرانية من ترديد نشيد “إي إيران” أو “يا إيران” الذي كان معتمداً أيّام حكم الشاه، والذي يستذكر الوطن وتاريخه وحضارته من دون ذكر السياسة. وتردّد أنّ نظام الملالي أرسل عناصر من “الباسيج” إلى الدوحة للتغلغل بين الجماهير، وذلك بهدف السيطرة على الفضاء العامّ ومساحة الملعب، ولا سيّما مع تقديرات السلطات في طهران أن يحضر 36 ألف إيراني، بينهم الجالية الإيرانية في قطر البالغة حوالي 9 آلاف، و5 آلاف من المنتشرين الإيرانيين، وهؤلاء متحرّرون من ضغوط النظام.

 

قمّة سياسيّة بنكهة كرويّة

من المفارقات التي أحاطت بالمنازلتين الكرويّتين – السياسيّتين أنّهما حصلتا على أرض دولتين اعتادتا لعب دور الوسيط بين واشنطن وطهران.

المباراة الأولى، التي جرت على استاد جيرلاند بمدينة ليون، استوجبت تعزيزات أمنيّة فرنسية هائلة من قوات مكافحة الشغب، للحؤول دون قيام المجلس الوطني للمقاومة الإيرانية بتخريب المباراة كما كان ينوي.

وفق بروتوكولات الفيفا يجب أن يسير الفريق “B” نحو الفريق “A” لمصافحته قبل بدء المباراة. وكان المنتخب الإيراني حسب القرعة هو الفريق “B”. لكنّ خامنئي أصدر أمراً يمنع ذهاب لاعبي المنتخب الإيراني نحو لاعبي أميركا، فهذه إهانة للأمّة الفارسية.

تدخّل الفيفا للقيام بوساطة، فنجح في إقناع المنتخب الأميركي بالسير نحو المنتخب الإيراني ومصافحة لاعبيه إرضاءً لغرور خامنئي. ولأنّ المرشد حريص على الشكليّات، فقد أمر لاعبي إيران بتقديم الورود البيض للّاعبين الأميركيين ليُظهر أمام العالم أنّ نظامه حمامة سلام.

 

هوّة شاسعة بين زمنين

كان ربع القرن الفاصل بين الموقعتين حافلاً بالعديد من المتغيّرات داخل المجتمع الإيراني نفسه. عام 1998 كان الأمل ما يزال متّقداً لدى الشعب الإيراني بنموّ دولتهم وتطوّرها، ولا سيّما أنّ الرئيس حينذاك كان السيّد محمد خاتمي الشخصية الانفتاحية التي أراد الملالي من خلالها تسويق نظامهم داخل إيران وخارجها. أمّا اليوم فقد تراكمت الخيبات وتوالت الانتفاضات، وكلّ واحدة منها توسّع الهوّة بين النظام وشعبه.

بعد فوز “التيم ملّي” أو الفريق الوطني على أميركا عام 98، تجلّى المشهد الموحّد للأمّة في الاحتفالات الصاخبة التي عمّت شوارع طهران، وتخلّلها احتساء الكحول ونزع بعض النسوة الحجاب عن رؤوسهنّ أمام أعين الشرطة و”شرطة الأخلاق”، الذين لم يُبدوا أيّ ردّ فعل سلبيّ، لأنّهم ببساطة كانوا يحتفلون أيضاً.

يدور الزمن دورته فيتسبّب حجاب مهسا أميني بمقتلها على يد شرطة الأخلاق، وتندلع انتفاضة شعبية تُظهر تبرُّم الإيرانيين بالهويّة التي حاول نظام الملالي تأطيرهم وحبسهم داخلها. سبق ذلك العديد من المؤشّرات الكرويّة – السياسية التي تعكس مدى ضيق الشعب الإيراني بحكم الملالي، ومنها ارتداء لاعبي المنتخب الإيراني في بعض مبارياته “السوار” الخضراء المطّاطيّة إبّان الاحتجاجات الشعبية التي عُرفت بـ”الثورة الخضراء” والتي اندلعت عقب تزوير انتخابات عام 2009 الرئاسية، وتغيير اسم النادي الأكثر شهرة وجماهيرية في البلاد ثمّ إعادته تحت ضغط الجماهير إلى مسمّاه التاريخي “برسبوليس” العائد إلى الحقبة الشاهنشاهيّة، وكان النادي قد تحوّل اسمه إلى “بيروزي”، أي “النصر” بالفارسية، مطلع الثمانينيات بأوامر من الملالي.

يدعم أساطين كرة القدم الإيرانيون الانتفاضة الشعبية في وجه النظام القمعي، وخاصة الذين شاركوا في صنع ملحمة الانتصار على الشيطان الأكبر عام 1998

صانعو الملحمة يتمرّدون

علاوة على ذلك، يدعم أساطين كرة القدم الإيرانيون الانتفاضة الشعبية في وجه النظام القمعي، وخاصة الذين شاركوا في صنع ملحمة الانتصار على الشيطان الأكبر عام 1998، الذي كان للمفارقة النصر الموندياليّ الأوّل لإيران.

كان منهم علي دائي، أفضل لاعب في آسيا عام 1999، الذي دخل موسوعة غينيس للأرقام القياسية كأفضل هدّاف في تاريخ المنتخبات الوطنية بـ109 أهداف، إلى أن تجاوزه النجم البرتغالي كريستيانو رونالدو في أيلول 2021. وقد تعرّض دائي، بسبب موقفه الداعم للاحتجاجات الشعبية، لمضايقات من سلطات بلاده، وتمّت مصادرة جواز سفره لبعض الوقت. وعندما ذهب الى مدينة “سقز” للمشاركة في أربعينية مهسا أميني، داهمت قوات الأمن الفندق الذي نزل به واقتادته إلى دار الضيافة الحكومي ووضعته قيد الإقامة الجبرية.

كذلك حصل مع مهدي مهدفيكيا صاحب الهدف الحاسم في الفوز على أميركا، وأفضل لاعب في آسيا في عامَيْ 1997 و2003، الذي عبّر عن معارضته للقمع المفرط للاحتجاجات.

 

والساحر أيضاً

أمّا علي كريمي فحكاية أخرى. هو ليس من أبناء جيل 98، لكنّه أحد أشهر لاعبي الكرة الإيرانية عبر التاريخ، ويُعدّ معشوق الجماهير. كريمي الذي هو أفضل لاعب في آسيا عام 2004، ويُلقّب بـ”الساحر” و”مارادونا آسيا”، أشهَر معارضته لنظام الملالي قبل مقتل مهسا أميني بكثير. إذ كان له موقف لافت اعترض فيه على تبذير الأموال في النذورات التي تُقدّم في اليوم “العاشر من محرّم”. فقد اعتبر أنّ الفقراء والمرضى أولى بها، فتعرّض لحملة تخوينية وتكفيرية شرسة من معمَّمي النظام ، حتّى وصفوه بأنّه “عديم الشرف” و”أحمق” و”جاهل”.

يستخدم كريمي، الذي كان مقيماً في دولة الإمارات، ثمّ انتقل إلى كندا، حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، وبخاصة إنستغرام، للتعبير عن مواقفه المعارضة للنظام ولدعم الاحتجاجات الشعبية ضدّه بعد حادثة مقتل أميني التي وصفها بـ”العار الذي لا يمكن محوه”.

إقرأ أيضاً: درس المونديال السياسيّ: “الفوز أهمّ من الاستحواذ”

عرّض هذا السلوك كريمي لملاحقة قضائية من جلّادي بلاده، فصدر حكم سريع يُجمِّد أمواله ويصادر أملاكه. ولأنّه ذو تأثير واسع على الجماهير الإيرانية فهو ما يزال يتعرّض لحملات شرسة في وسائل الإعلام المقرّبة من النظام. وكان له ردّ عميق الدلالة على حملة قناة “تلغرام” التابعة لفيلق القدس عليه، قال فيه: “إذا كان أمثالكم مسلمين ووطنيّين، فاللهمّ اجعلني كافراً”.

الجدير بالذكر أنّ كريمي ودائي لعبا لنادي بايرن ميونيخ الألماني، أحد أكبر وأشهر الأندية الأوروبية، والملقّب بـ”إف سي هوليوود”.

مواضيع ذات صلة

أميركا مطمئنّة.. ونتنياهو “يسرق الوقت”

عاد الموفد الأميركي آموس هوكستين من زيارته إلى المنطقة، ووصل إلى العاصمة الاميركية أمس. وقبل أن يصل إلى واشنطن كان قد طمأن عين التينة إلى…

مبعوث ترامب إلى الشّرق الأوسط: معجب “بروحانية” نتنياهو..

تشبه الشّخصيّات التي رشّحها الرّئيس الأميركيّ المُنتخب دونالد ترامب شخصيّته الجدليّة. فهو كما فاجأ المراقبين يومَ فازَ في انتخابات 2016، وبفوزه الكبير في انتخابات 2022،…

هوكستين موفد ترامب… فهل يضغط لإنجاز الاتّفاق؟

كثيرٌ من الضبابية يحيط بمصير المفاوضات التي قادها آموس هوكستين بين لبنان وإسرائيل، أو بالأحرى بين “الحزب” وإسرئيل، عبر رئيس مجلس النواب نبيه برّي. التفاؤل…

الاتّفاق Done: إعلانه خلال أيّام.. أو أسابيع؟

بين واشنطن وتل أبيب وبيروت أصبحت شروط الاتّفاق معروفة، ولا ينقصها سوى لمسات أخيرة قد تستلزم يوماً واحداً، وقد تطول لأسابيع، أربعة ربّما. لكن ما…