نجح جبران باسيل في جمع الخصوم والحلفاء ضدّه. اجتمعت حكومة تصريف الأعمال. لم يكن سبب اجتماعها مقنعاً. لكن أصرّ نجيب ميقاتي عليه. شجّعه نبيه برّي. وأمّن الحزب الغطاء له. بالتالي لا يُسأل ميقاتي لماذا جمع حكومته. السؤال: ما هي أهداف الأطراف التي دعمت هذا الاجتماع، ولو أنّ من المحتمل أن يكون اجتماعاً يتيماً؟
1- نبيه برّي يريد “كسر” جبران باسيل الذي يصرّح ويتصرّف وكأنّه لا يزال في بعبدا، من خلال التمهيد لعقد جلسة تشريعيّة للمجلس النيابيّ، في حين أنّ المادة 75 من الدستور واضحة باعتبار “المجلس الملتئم لانتخاب رئيس الجمهوريّة يُعتبر هيئة انتخابيّة لا هيئة اشتراعية ويترتّب عليه الشروع حالاً في انتخاب رئيس الدولة دون مناقشة أو أيّ عمل آخر”. إنّ الاستثناء للضرورة الذي اقتضى اجتماع حكومة تصريف الأعمال يمكن أن ينسحب أيضاً على اجتماع المجلس للتشريع، عملاً بالقول: “الضرورات تبيح المحظورات”.
2- حزب الله ضاق ذرعاً بوريث حليفه ومعاركه “الدونكيشوتيّة” بكلّ الاتّجاهات. وهو أيضاً يريد إيصال رسالة لجبران أنّه لا يمكنه التصرّف وكأنّه يحكم البلد من الرابية بعدما غادر بعبدا. وضاق ذرعاً برفضه المطلق لمرشّحه للرئاسة سليمان فرنجيّة. وهو أراد إيصال رسالة قويّة لجبران الذي يسوّق في الداخل والخارج أنّه مستقلّ عن الحزب في سياساته وقراراته. وآخر هذا الكلام كان من باريس خلال زيارته الأخيرة لها. وبالتأكيد هذا ما يقوله للأميركيين ولأصدقائه في الدوحة.
لم يقُم لبنان على تحالفات ثنائيّة، إنّما على ميثاق وطنيّ بين المسيحيّين (الممثَّلين بالموارنة) والمسلمين (الممثَّلين بالسُنّة). إسقاط السُنّة سياسياً هو إسقاط للميثاق، ويشكّل تهديداً لصيغة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين
اختراع “معركة مسيحيّة”
بعد النكسة، وعلى عادته، سيعتبر جبران أنّه يخوض معركة موقع الرئاسة المسيحيّ. وسيخوّن المسيحيين الآخرين. لن يعترف بأخطاء سياسات تيّاره التي أوصلته إلى هذا الوضع. وهي كثيرة. قد يكون أبرزها هجومه على الطائفة السنّيّة. نستعيد محطّات أساسيّة من هذه السياسة ليس بهدف نكء الجراح وإنّما لتصويب المسار:
1- تطويق حكومة الرئيس فؤاد السنيورة مع حزب الله وحلفائه والإصرار في الدوحة على الثلث المعطّل في الحكومة، وهو ما أضعف رئيس الوزراء السنّيّ.
2- نشر كتاب “الإبراء المستحيل” الذي هو بمنزلة هجوم واضح على “الحريريّة السياسيّة” وتنكّرٍ لكلّ ما قامت به من إعادة بناء للبلاد بعد الحرب وإعادة لبنان على خارطة الدول العربيّة والدوليّة، حتى في ظلّ الوصاية السوريّة.
3- إسقاط حكومة سعد الحريري الأولى من الرابية وقول ميشال عون فيما بعد إنّه قطع “one way ticket” للحريري وإنّه ذهب ولن يعود.
4- اتّهام الـOTV في إحدى نشراتها تيّار المستقبل بـ”الداعشيّة السياسيّة” بالقول: “يذبحون شركاءهم سياسياً، يغتصبون حقوقهم.. يريدونهم أهل ذمّة في إمارتهم الحريريّة، فما الفرق بينهم وبين داعش… فهم مثل التنظيم التكفيري الإرهابي، باقون في السلطة، ويتمدّدون.. ليصبح فعل المقاومة ضدّهم واجباً على كلّ لبنانيّ وطنيّ حرّ”.
5- عرقلة تشكيل الحكومات لأشهر، ووضع العصيّ في دواليب عمل الحكومات الحريريّة والسلاميّة (تمّام سلام) والميقاتيّة.
هيمنة حزب الله على القرار في البلاد فرضت على اللبنانيين، كلّ اللبنانيين ومنهم الشيعة، مفهوماً للدولة يرفضونه. وهو مفهوم يختلف عن فكرة نشوء الدولة اللبنانيّة القائمة على التعايش الفعليّ والتوازن بين كلّ مكوّنات المجتمع
نتائج سياسات جبران
هذا غيض من فيض. كانت نتائج هذه السياسات كارثية استراتيجيّاً على المستويَيْن المسيحي والوطنيّ:
1- لم يقُم لبنان على تحالفات ثنائيّة، إنّما على ميثاق وطنيّ بين المسيحيّين (الممثَّلين بالموارنة) والمسلمين (الممثَّلين بالسُنّة). إسقاط السُنّة سياسياً هو إسقاط للميثاق، ويشكّل تهديداً لصيغة العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين.
2- تحالف ميشال عون مع حزب الله ساهم في فقدان التوازن الذي كان قائماً بين قوّة السُنّة السياسيّة وفائض قوّة الشيعة العسكريّة والسياسيّة بعدما فَقَد المسيحيون قوّة الموازنة، فسهُلت على حزب الله الهيمنة على البلاد وممارسة “الداعشيّة السياسيّة” بإلغاء مفاعيل الغالبية النيابيّة وتعطيل القرارات الحكوميّة بقوّة السلاح.
3- هيمنة حزب الله على القرار في البلاد فرضت على اللبنانيين، كلّ اللبنانيين ومنهم الشيعة، مفهوماً للدولة يرفضونه. وهو مفهوم يختلف عن فكرة نشوء الدولة اللبنانيّة القائمة على التعايش الفعليّ والتوازن بين كلّ مكوّنات المجتمع. وهذا ما أكّده الدستور المنبثق عن اتّفاق الطائف. وهو مفهوم يختلف بالمطلق عن مفهوم الدولة المتعارَف عليه دوليّاً من حيث مركزيّة السلطة السياسيّة والعسكريّة في مؤسّسات الدولة الشرعيّة. وهو لا يتّفق إلّا مع مفهوم الدولة في إيران.
4- ذهب ميشال عون أبعد من ذلك بالتقرّب من النظام السوري الذي مارس هو أيضاً “الداعشيّة السياسيّة” ضدّ السُّنّة والموارنة. فالنظام السوريّ همّش سُنّة لبنان منذ ثمانينيات القرن الماضي، وقضى على الدور المارونيّ منذ تسعينيّاته إلى حين خروجه من لبنان، بالتكافل والتضامن مع قادة الموارنة الذين خاضوا حروباً “قاتلة” للدور المسيحي.
5- كادت سياسات عون أن تضع الموارنة في مواجهة المحيط العربيّ ذي الغالبيّة السنّيّة لولا العلاقة الوطيدة التي نسجتها القوّات اللبنانيّة مع دول هذا المحيط، وفي مقدَّمها المملكة العربيّة السعوديّة.
جبران يتوب عن الحريري؟
منذ حوالي أسبوعين غرّد جبران باسيل عن اعتكاف الحريري قائلاً: “كنّا نتمنّى ألّا يكون هذا الأمر كذلك لأنّ هناك وضعاً غير سليم في الطائفة السنّيّة ويجب معالجته والحريري جزء أساسي من المعالجة وعندما يتّخذ قراراً بالعودة نحن مقتنعون وملزمون بالتعاطي معه كجزء ومكوّن أساسي بالبلد”.
إقرأ أيضاً: هل يردّ باسيل… بإكمال نصاب انتخاب معوّض؟
تغريدة توبة؟
ربّما. لكنّها غير كافية. على التيار الوطنيّ الحرّ إعادة النظر في كلّ سياساته منذ عام 2006. ويجب أن ترتكز إعادة النظر هذه على نقطتين أساسيّتين:
1- إنّ خيار المسيحيين هو خيار الدولة وليس الدويلة. جرّبوها خلال الحرب وأدركوا أن لا مناص من الدولة، ولا بديل عنها. فهي الحامية لهم ولدورهم وحضورهم الفاعل في لبنان والشرق.
2- إنّ المتغيّرات تشير إلى بداية أفول “الإيرانيّة السياسيّة” من داخل إيران. إذ ليس بالأمر العابر قرار الحكومة الإيرانيّة إلغاء “شرطة الأخلاق” ومراجعة البرلمان لقانون الحجاب. والاحتجاجات التي تشهدها إيران منذ أكثر من شهرين ليست عابرة ولو لم تُسقط نظام الملالي. هذا إضافة إلى صحوة عربيّة وقرار عربيّ بالتصدّي لنفوذ إيران في المنطقة حتى لو دعمت واشنطن هذا النفوذ.
* أستاذ في الجامعة اللبنانية