أين الخطأ: مارونيّة الرئيس أم الثقة بـ”مجلس الوزراء مجتمعاً”؟

مدة القراءة 4 د

لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي تلتزم بعرفٍ له قوّة دستورية ينصّ على أن يكون رئيس البلاد مسيحيّاً مارونياً. يشكّل هذا العرف أحد أهمّ الأسس التي يقوم عليها نظامه السياسي، وكذلك رسالته إلى العالم العربي وإلى العالم. ولذلك يمثّل الالتزام بهذا العرف التزاماً وطنيّاً لا التزاماً سياسياً وحسب.

التنافس الحادّ بين الأحزاب والقوى السياسية المسيحية على الرئاسة يؤخّر انتخاب الرئيس، ويؤدّي التأخير إلى فراغ رئاسي. وما نشهده اليوم من فراغ ليس جديداً. عرفناه لدى انتهاء رئاسة الرئيس أمين الجميّل وذقنا مرارة مفاعيله. وتكرّر بعد رئاسة إميل لحّود، ثمّ بعد رئاسة ميشال سليمان. إلا أنّ التعامل مع هذا الفراغ اليوم في ظلّ الانهيار السياسي والاقتصادي الذي يعانيه لبنان، يقتضي مزيداً من الحكمة وبُعْد النظر، وفوق ذلك مزيداً من التعفّف الذي لم يعرف طريقه، مع الأسف الشديد، إلى مؤسّسات الحكم في لبنان.

ملأت الفراغ الرئاسي بعد الرئيس الجميّل حكومةٌ عسكريّة برئاسة الجنرال ميشال عون وعضويّة وزيرين عسكريَّين مسيحيَّين آخرين (بعد استقالة الوزيرين المسلمين العسكريَّين). لم يكن الجنرال الخيار الأفضل. كان خياراً مفروضاً. ولم تكن قوّة الجنرال في ذلك الوقت شرعيّة. كانت قوّة أمر واقع. خضع الرئيس الجميّل لهذا الأمر حتى تبقى السلطة أو حتى يبقى رأس السلطة مسيحيّاً مارونيّاً.

لبنان هو الدولة العربية الوحيدة التي تلتزم بعرفٍ له قوّة دستورية ينصّ على أن يكون رئيس البلاد مسيحيّاً مارونياً

أثبتت التجربة أنّ الالتزام بالعرف الدستوري كان يحتاج إلى ابتداع آليّة دستورية لتجنّب الوقوع مرّة أخرى في المأزق الذي وقع فيه لبنان، الذي عانى طويلاً من انقسامات وصراعات دمويّة وتدميريّة. إلا أنّ ذلك لم يحدث. وها إنّ لبنان يواجه مرّة ثانية الحالة ذاتها بعد انتهاء ولاية الجنرال الرئيس.

الخوف من “مجلس الوزراء مجتمعاً”

لا يخفّف من حدّة القلق المسيحي على الرئاسة المارونية للدولة أن تؤول السلطة إلى مجلس الوزراء مجتمعاً بمسلميه ومسيحيّيه معاً، وليس إلى رئيس المجلس المسلم. ويعكس هذا القلق خللاً وضعفاً في الثقة المتبادلة.

من حيث المبدأ من الخطأ أن لا يكون الرئيس في لبنان مسيحيّاً مارونيّاً. ومن حيث المبدأ أيضاً من الخطأ عدم احترام القلق المسيحي من أيّ احتمال لتجاوز هذه القاعدة المتعارَف عليها، وعدم التعامل معها بتفهّم وإيجابية. لا يعني ذلك أيّ انتقاص من دور المسلمين، سنّة وشيعة ودروزاً، أو من دور المسيحيين الآخرين، أرثوذكساً وكاثوليكاً وإنجيليّين، أو من حقوق أيّ منهم.

إنّ التعدّد في لبنان نعمة تحت سقف التفهّم والتفاهم. غير أنّ هذه النعمة لا تتجلّى إلا في الثقة المتبادلة والاحترام المتبادل، وكذلك في الالتزام الجماعي بأسس وثوابت الوفاق الوطني، ومن بينها مارونيّة الرئيس.

لا ينتقص من هذا الأمر أن يتولّى مجلس الوزراء مجتمعاً المسؤولية الدستورية وبصورة مؤقّتة ومحدّدة إلى أن يتمّ انتخاب رئيس جديد. فكما يجب أن تكون الثقة بمارونيّة الرئيس ثقةً وطنية شاملة، كذلك يجب أن تكون الثقة بمجلس الوزراء مجتمعاً ثقةً وطنية شاملة. الثقة لا تتجزّأ ولا تكون من طرف واحد. الثقة بالرئيس تستمرّ لمدّة ستّ سنوات، والثقة بمجلس الوزراء مجتمعاً قد تستمرّ أسبوعاً أو أقلّ، أو ربّما ساعات، وذلك يتوقّف على إنجاز انتخاب الرئيس الجديد.

إقرأ أيضاً: لبنان أكثر من مسألة دستوريّة

لا يقوم وطنٌ من دون ثقة صادقة ومتبادَلة بين مكوّناته المتعدّدة. ولا يقوم حكمٌ من دون مسؤوليّة هي أهلٌ للثقة.

مرّ لبنان بالتجربة، بل بالتجارب، ودفع ثمنها غالياً جداً، لكن يبدو أنّه لم يتعلّم ما فيه الكفاية لتجنّب الوصول إلى طرق مسدودة هي من صنع يديه. كان ذلك خطأ في السابق، وهو خطأ اليوم أيضاً. والخطأ لا يُصحَّح بخطأ.

مواضيع ذات صلة

الاستكبار النّخبويّ من أسباب سقوط الدّيمقراطيّين

“يعيش المثقّف على مقهى ريش… محفلط مزفلط كثير الكلام عديم الممارسة عدوّ الزحام… بكم كلمة فاضية وكم اصطلاح يفبرك حلول المشاكل أوام… يعيش أهل بلدي…

ياسر عرفات… عبقرية الحضور في الحياة والموت

كأنه لا يزال حيّاً، هو هكذا في حواراتنا التي لا تنقطع حول كل ما يجري في حياتنا، ولا حوار من ملايين الحوارات التي تجري على…

قمّة الرّياض: القضيّة الفلسطينيّة تخلع ثوبها الإيرانيّ

 تستخدم السعودية قدراً غير مسبوق من أوراق الثقل الدولي لفرض “إقامة الدولة الفلسطينية” عنواناً لا يمكن تجاوزه من قبل الإدارة الأميركية المقبلة، حتى قبل أن…

نهج سليم عياش المُفترض التّخلّص منه!

من جريمة اغتيال رفيق الحريري في 2005 إلى جريمة ربط مصير لبنان بحرب غزّة في 2023، لم يكن سليم عياش سوى رمز من رموز كثيرة…