أرسلت الولايات المتحدة وفرنسا إشارات تعبّر عن اهتمامهما بما أُنجز في لبنان، وتستشرفان تعاوناً أو توزيعاً للأدوار في ما قد يُنجَز. وكانت الرسالة علنيّة أثناء المؤتمر الصحافي المشترك في واشنطن في 8 كانون الأول، ضمن تمرين تبادل الشكر على الجهود التي بذلتها كلٌّ منهما لإنجاح التوصّل إلى اتفاقية ترسيم الحدود البحريّة بين لبنان وإسرائيل.
باريس برعاية واشنطن
فاجأنا الرئيس الأميركي جو بايدن بشكر فرنسا على جهودها في المساعدة على إنضاج الصفقة. اغتبط ضيفه الفرنسي إيمانويل ماكرون وثمّن “التواضع” الأميركي مقرّاً بأنّ الولايات المتحدة، وكاد يقول وحدها، هي التي أنجزت المهمّة وما سيليها، مراكمةً ما حقّقه مبعوثوها منذ ما قبل فريدريك هوف إلى ما بعد آموس هوكستين. وفي مضمون الأبجديّة الدبلوماسية المصوغة تتسرّب التوجّهات المنفصلة أو المشتركة للبلدين.
من التبسيط استنتاج دعم الأميركيين لـ”وكالة” فرنسية تتولّى إدارة الجهود لانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان. لأنّ أجندات إقليمية من خلال قوى محلّية لبنانية باتت المحدّد الأوّل وربّما الوحيد لمستقبل التسوية اللبنانية المتوخّاة
يُثبت الواقع يوماً بعد آخر أنّ فرنسا لا تملك في لبنان أن تفرض تحوّلاً من دون أن يحظى الأمر باهتمام الولايات المتحدة أوّلاً، وبرعايتها ثانياً. ولطالما فُسّر التعثّر الفرنسي، منذ “الإنزال” الذي نفّذه ماكرون في بيروت بعد ساعات على انفجار مرفئها عام 2020، بأنّه يعود إلى تعارض أجندات باريس وواشنطن بشأن لبنان، أو إلى غياب تعويل أميركي كبير على همم الرئيس الفرنسي، وربّما عدم اكتراث بها.
يُظهر الواقع يوماً بعد آخر أنّ الدولتين تلعبان داخل ميدان “المُتاح”، وهما تدركان صعوبة اختراق ميادين معقّدة متشعّبة المصالح. وبينما تظهر بوضوح خريطة الطريق التي سلكها الأميركيون منذ سنوات، بمساعدة “مزعومة” من الفرنسيين (من خلال “توتال إينرجي” على الأقلّ)، لإنجاز صفقة الحدود البحرية، تسود ضبابيّة في الطريق التي استسهل ماكرون والفرنسيون سلوكها لتحقيق تقدّم ما على المستوى الداخلي ينتشل البلد من أزمته السياسية وكارثته الاقتصادية التاريخية غير المسبوقة.
من التبسيط استنتاج دعم الأميركيين لـ”وكالة” فرنسية تتولّى إدارة الجهود لانتخاب رئيس للجمهورية في لبنان. ليس فقط بسبب أجندات أميركية ترى البلد من ضمن خارطة واسعة تشمل مصالح واشنطن في المنطقة (ولا سيّما في سوريا والعراق وإيران وتركيا وتلك مع إسرائيل) من جهة، ومسار صراعها مع روسيا والصين في العالم من جهة أخرى، بل أيضاً لأنّ أجندات إقليمية من خلال قوى محلّية لبنانية باتت المحدّد الأوّل وربّما الوحيد لمستقبل التسوية اللبنانية المتوخّاة.
عجز عن إنتاج رئيس
صحيح أنّ مشهد البرلمان اللبناني الذي أنتجته انتخابات أيار يمنع مجلس النواب من توفير أغلبية لهذا المرشّح أو ذاك، وصحيح أنّ حزب الله، بما يملكه من قوّة ونفوذ داخل البلد ونظامه السياسي، عاجز عن فرض مرشّحه على الطريقة التي انتُخب فيها ميشال عون رئيساً عام 2016، لكنّ القوى الكبرى عاجزة أيضاً عن اجتراح صفقة دولية – إقليمية على منوال ما كان يحصل لإنتاج كلّ رؤساء لبنان.
يزعم ماكرون امتلاك الرشاقة التي تساعد في استمرار سفيرته في لبنان ومبعوثيه إلى بيروت بالتواصل مع حزب الله ومن ورائه طهران. ومن جهة أخرى يستثمر الرجل علاقاته الشخصية مع وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، وهي علاقات أمتن وأنقى من علاقات نظيره الأميركي مع السعودية وملكها وأميرها. لكنّ ماكرون، الذي تسوء علاقاته مع طهران بسبب حراك إيران واعتقال سلطاتها مواطنين فرنسيّين، ما يزال يعوّل على صفقة تكون إيران جزءاً منها، ويتوسّل معادلة تكون السعودية أساساً فيها.
قد يكون صحيحاً أنّ الخارج غير مهتمّ هذه الأيام، وربّما بسبب أولويّات ملحّة أخرى، بتلفيق صفقة تنتج رئيساً في لبنان. وقد يكون صحيحاً أنّ الخارج لن يعارض تسوية محلّية يتوصّل إليها اللبنانيون لاختيار شخصية يفتحون لها أبواب قصر بعبدا إذا ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً. غير أنّ جلسات الخميس البرلمانية المتتالية تفضح عجزاً نهائياً عن إنجاز الاستحقاق الرئاسي بقوّة الدفع الذاتيّة.
تدرك كلّ أطراف لبنان هذا الواقع وتبدي موافقة “قدريّة” على احتمال أن يصبح قائد الجيش جوزف عون رئيساً ما دام التوافق على غيره لم يتمّ، حتى إنّ حزب الله أكثَرَ في الأيام الأخيرة من الرسائل التي تشير إلى غياب “الفيتو” عليه رئيساً
الغاز والرئيس
وفق هذا المعطى قد يصدق من يتوقّع فراغاً رئاسياً طويل الأمد. ولن يكون عبثيّاً ربط انتهاء الفراغ بما ستخرج به الحرب في أوكرانيا، وما ستنتهي إليه أزمة الداخل في إيران، وما قد تفرزه ملفّات دولية وإقليمية أخرى (سوريا مثلاً).
في المقابل يقطع توقّف الحوار بين السعودية وإيران الماء عن طواحين أيّ تسوية لبنانية، وخصوصاً أنّ صفقة عون الرئاسية قبل ستّ سنوات استغلّت “زهد” الرياض في ملفّ لبنان، فيما السعودية هذه الأيّام حاضرة بقوّة وحيويّة في شؤون لبنان والعالم أجمع.
وإذا ما كانت اتفاقية ترسيم الحدود البحرية ضرورة للبنان وإسرائيل، فإنّها أيضاً ضرورة لحسن سيْر عمليّات الإنتاج والتوزيع المنتظرة في حقول الطاقة في شرق المتوسط، وبالتالي ضرورة لتوازن جديد في خرائط الغاز والنفط في العالم. هنا فقط قد يدفع أصحاب المصالح العليا عواصم القرار الكبرى إلى نسج “استثناء” توافقيّ يُسقط الترشُّحات الرئاسية الإشكاليّة لصالح من لا اعتراض عليه.
حظّ جوزف عون
تبادل ماكرون وبايدن الشكر بشأن لبنان، لكنّهما ليسا في عجلة للإيحاء لبيروت والعواصم المعنيّة بالتوجّه الذي تفرضه ورش الحقول الغازيّة في مياه المتوسّط، حتى لو استغرق الأمر “فراغاً”. لم تُظهر باريس وواشنطن ميولاً مباشرة إلى مرشّح معيّن. وفيما لم يحظَ المرشّحون المحتملون بتماسّ مع غرف القرار الكبرى، فقد أكثرت واشنطن في السنوات الأخيرة من استضافة قائد الجيش جوزف عون والإشادة به، وحظي الرجل في أيار 2021 باستقبال نادر وغير مسبوق لقائد جيش في الإليزيه حيث التقى ماكرون.
إقرأ أيضاً: “حراك مهسا”: طهران قلقة والمرشد يُنذر بالصدام
تدرك كلّ أطراف لبنان هذا الواقع وتبدي موافقة “قدريّة” على احتمال أن يصبح قائد الجيش جوزف عون رئيساً ما دام التوافق على غيره لم يتمّ، حتى إنّ حزب الله أكثَرَ في الأيام الأخيرة من الرسائل التي تشير إلى غياب “الفيتو” عليه رئيساً.