عاد يتصاعد في الأشهر الأخيرة الخلافُ البحري “المكتوم” بين الكويت والعراق الذي تعود جذوره إلى سنوات طويلة. في الواقع يسهل على الإعلام متابعة “الأخبار البرّية”، وأمّا “البحرية” منها فهي أكثر صعوبة لأسباب مُتشعّبة، وهو ما بدا جليّاً في حوادث السفن “الغامضة” التي شهدتها مياه الخليج وبحر عُمان في السنوات الأخيرة، وبقيت غالبيّة تفاصيلها أسراراً إلى الآن، وإنْ كانت الصورة العامّة تشي بأنّها تندرج في إطار تبادل الرسائل الإيرانية – الإسرائيلية.
للبحر أسرارُه وقواعدُه، وما يخرج من تفاصيل عن حوادثه الأمنيّة يبقى مرتبطاً بشكل أساسي بما تُعلنه الدول أو ما يُستَشفّ من المواقف السياسية المُغلّفة بالدبلوماسية وذات المضمون الحادّ.
هكذا هي الحال مع الخلاف البحريّ “المكتوم” بين الكويت والعراق. في القمّة الخليجية التي عُقدت يوم الجمعة الفائت في الرياض، أكّد البيان الختامي “أهميّة التزام العراق بسيادة دولة الكويت وعدم انتهاك القرارات والاتفاقيات الدولية، وبالأخصّ قرار مجلس الأمن رقم 833، في شأن ترسيم الحدود بين البلدين واتفاقية تنظيم الملاحة البحرية في خور عبدالله، المبرمة بين البلدين والمودعة لدى الأمم المتحدة”.
يرى كثيرون أنّ العلاقات بين البلدين فريدة في المنطقة لأنّها تحوّلت من العداء (إبّان حكم النظام العراقي السابق) إلى حالة من التعاون والاحترام المتبادل
ومن جهته، دعا العراق “إلى استكمال ترسيم الحدود البحرية مع دولة الكويت إلى ما بعد العلامة 162″، معلناً “رفضه القاطع لأيّ انتهاك يمسّ سيادة دولة الكويت واحتفاظها بحقّها في الردّ وفق القنوات القانونية”.
القمّة الخليجية تكشف ما بين العراق والكويت
على الرغم من أنّ ورود فقرات عن العلاقات مع العراق يُعدّ من الثوابت في بيانات القمم الخليجية، لكنّ هذا الموقف غير مألوف ولا كلاسيكي. إذ كشفت القمّة الخليجية بعضاً من تفاصيل الخلافات غير المعلنة القائمة منذ أشهر بين الكويت والعراق بسبب الحدود البحرية.
يتعلّق الأمر بشكل أساسي بـ”المياه الإقليمية” الواقعة بعد النقطة 162 التي تُعدّ بحراً إقليمياً لأنّها ما تزال غير مُرسّمة. ففي مطلع كانون الأول الجاري، قدّمت الكويت عبر سفيرها في بغداد احتجاجاً رسمياً بشأن قيام ثلاث قطع بحرية عراقية بتجاوز مياهها الإقليمية، وطالبت بسحبها فوراً، مشدّدة على ضرورة احترام السيادة ورفضها القاطع لأيّ انتهاك يمسّها، مع الاحتفاظ بحقّ الردّ وفق القنوات القانونية.
وقبل ذلك بنحو أسبوعين، تداولت وسائل التواصل الاجتماعي تسجيلاً صوتياً يتضمّن “حواراً حادّاً” تطالب فيه القوة البحرية الكويتية إحدى الحفّارات العراقية بوقف أعمال الحفر، وقد اضطرّت رئاسة الأركان العامّة للجيش الكويتي إلى إصدار بيان توضيحي يؤكّد وقوع الحادثة في 12 أيلول 2022، ويشير إلى أنّ الحفر كان في المياه الإقليمية من دون التنسيق مع الجانب الكويتي.
وقائع غير مُعلنة.. خور عبدالله هو المشكلة
هذا في الرواية الرسمية، أمّا في الرواية غير الرسمية فقد “حاصرت” الزوارق الكويتية العسكرية الحفّارة العراقية التي كانت تُوسّع مجرى خور عبدالله، لكنّها استمرّت في الحفر لأيّام عدّة.
ولِفهم ما يجري لا بدّ من العودة إلى عام 1993، عندما قامت الأمم المتحدة بترسيم الحدود البرّية بين البلدين، وفق قرار مجلس الأمن رقم 833، وتركت لهما مهمّة ترسيم كامل الحدود البحريّة.
في عام 2012، وقّع البلدان اتفاقية تنظيم الملاحة في خور عبدالله التي جعلته ممرّاً للملاحة بدلاً من أن يكون تابعاً للعراق، مع إعطاء الكويت الحقّ في الإدارة وتسيير دوريات الزوارق فيه.
إثر ذلك، زادت الآمال بقرب ترسيم الحدود البحرية، إذ تعتبره الكويت خطوة أساسية لحماية سيادتها وتطوير منطقتها الشمالية، ويراه العراق ضرورياً بسبب محدوديّة منافذه على البحر وضحالة المياه في الجانب العراقي من خور عبدالله. انطلاقاً ممّا سبق بات “تعميق الخور” ملفّاً دائماً على طاولة التفاوض نظراً إلى منافعه الاقتصادية الكبيرة لكلا البلدين.
لكنّ تلك الآمال لم تتحقّق على الرغم من أنّه لا يوجد ظاهريّاً أيّ عائق أمام حوار جدّي بين البلدين في ظلّ العلاقات الودّية بينهما.
إيران على حدود الكويت
من الناحية العمليّة، تراوح الترجيحات بين عاملَيْن رئيسيَّيْن:
ـ يتمثّل الأوّل في النفوذ السياسي الإيراني في العراق، إذ يدور “همس” عن وضع بغداد شرطاً مسبقاً لترسيم الحدود مع الكويت، وهو الانتهاء من ترسيم الحدود البحرية مع إيران، على الرغم من عدم وجود ترابط بين الأمرين، ولا سيّما أنّ المجاري المائية العراقية المشتركة مع إيران لا علاقة لها جغرافياً بتلك المشتركة مع الكويت، إلا أنّ البعض يرجّح أنّ ربط المسارين مردّه إلى تفكير عراقي في تعويض الخسائر المتوقّعة من أيّ ترسيم مع إيران في شطّ العرب من خلال الترسيم مع الكويت في خور عبدالله وما بعد النقطة 162.
ـ يتعلّق الثاني بالأوضاع الداخلية في العراق، وحالة عدم الاستقرار السياسي التي تحول دون انصراف الحكومة (سواء الحالية أو السابقة) إلى الملفّات الخارجية، وعلى رأسها ترسيم الحدود مع دول الجوار، فضلاً عن عدم قدرتها على السيطرة على بعض الميليشيات التي توجّه تهديدات إلى الكويت بين الحين والآخر.
أصل الأزمة… الهواجس من إيران
على ضفاف خور عبدالله يدور خلاف مرتبط بأصل الأزمة، فالكويت تأخذ على العراق عدم مشاركتها في مستجدّات سير العمل في مشروع ميناء الفاو، وفق ما تنصّ عليه اتفاقية قانون البحار، فيما لا ينظر العراق بعين الرضا إلى بناء الكويت ميناء مبارك الكبير.
يرى كثيرون أنّ العلاقات بين البلدين فريدة في المنطقة لأنّها تحوّلت من العداء (إبّان حكم النظام العراقي السابق) إلى حالة من التعاون والاحترام المتبادل، وخصوصاً بفضل المبادرات الكويتية الإيجابية التي أظهرت حسن النيّة والرغبة في البناء من أجل المستقبل والقطع مع الماضي.
لكنّ هناك مخاوف حقيقية من الانعكاسات السلبية لحالة الاستقطاب الحادّ في المنطقة، وواقع النفوذ الإيراني في العراق، على إمكانية إيجاد حلول لمشكلة الترسيم البحري، ولا سيّما بعدما تصاعدت في الآونة الأخيرة أصوات في العراق تتحدّث عن ضرورة إعادة النظر في اتفاقية خور عبدالله الموقّعة في 2012، باعتبارها “مُجحفة” ووُقِّعت “على حين غرَّة”، وهو ما يرى فيه كثيرون “كلاماً إيرانياً بألسن عراقية”.
إقرأ أيضاً: الكويت: وليّ العهد يُطلق رسائل تقلِب المشهد
يستشهد المراقبون بما جرى الشهر الماضي حين زار رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني الكويت في 23 تشرين الثاني، وتمّ الاتفاق على التهدئة وإحياء اجتماعات اللجنة الرئيسية المشتركة بين البلدين واللجان الفرعية خلال الأسابيع المقبلة، لكن كانت المفاجأة أنّه بعد ذلك بأيام تجاوزت قطع بحرية عراقية المياه الإقليمية للكويت التي ردّت سريعاً بتقديم احتجاج رسمي.
قد تُفسّر الأمرَ الزيارةُ الخارجيةُ التالية للسوداني بعد الكويت والتي كانت لإيران.