دول “تعدّد الانحياز” بمواجهة “نرجسيّة” واشنطن الاستراتيجيّة

مدة القراءة 10 د

على الولايات المتحدة الأميركية أن تتخلّى عن “النرجسية الاستراتيجية”. هذا ما ردّده الباحث في “معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى”، مايكل سينغ في مقال نشرته مجلة “فورين أفيرز” الأميركية. ودعا إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن إلى التخلّي عن رؤيتها للنظام الدولي باعتباره “منافسةً بين الديمقراطيات من جهة والأنظمة الاستبدادية من جهة أخرى”، وإلى وقف التعامل مع قرارات شركائها على أنّها اختبار حقيقي لولائهم للولايات المتحدة، وأن تسعى بدلاً من ذلك إلى تبنّي نهج أكثر ذكاءً، وإلى مقاربةٍ أكثر لكلّ قضية من قضايا النظام الدولي على حدة، بهدف تعظيم نفوذها في عالم بات متعدّد الأقطاب.

هذا المقال كان الدافع إليه ردّة فعل إدارة بايدن على قرار مجموعة “أوبك بلاس” خفض إنتاج النفط بمقدار مليونَيْ برميل يوميّاً في أوائل تشرين الأول الماضي. حينها دعا كبار محلّلي السياسة الخارجية الأميركية هذه الإدارة إلى إعادة النظر في مقاربتها لمفهوم الشراكة مع الدول الأخرى، ولا سيّما “الصديقة والحليفة منها”، ومنها المملكة العربية السعودية بشكل خاص، بعدما اتّهمتها إدارة بايدن إثر قرار “أوبك بلاس” بأنّها تقف إلى جانب روسيا سياسياً، وتدعم حربها في أوكرانيا وتقوّض الجهود الغربية لإنهاء هذه الحرب.

بحسب المجلّة فإنّ خطأ الإدارة الأميركية يكمن في ظنّها أنّ شركاءها المحتملين يرون الأمور من منظارها الأميركي، وتريد منهم أن يتضامنوا بشكل تلقائي مع مصالحها.

على صانعي السياسة في الولايات المتحدة الطلب فقط عند وجود احتمال واقعي بانضمام شركائها إليها وحين تكون مستعدّة لفرض عقوبات إذا رفضوا

سينغ، الذي شغل منصب المدير الأوّل للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي خلال إدارة جورج دبليو بوش، أضاء على فكرة جديدة، هي سعي شركاء الولايات المتحدة إلى تجنّب اختيار جانب طرف دون غيره، ورغبتهم في الحفاظ على علاقات جيّدة مع جميع القوى العظمى في وقت واحد. وأرجع ذلك إلى مرور الولايات المتحدة “بفترة تقلّب في أولويّاتها الدولية”، ما يترك شركاءها في حالة من عدم الثقة باستمرارية حلفها معهم في القضايا الأساسية بالنسبة إليهم. الأمر الذي يدفع هؤلاء إلى البحث عن علاقات جيّدة مع جميع القوى العظمى في وقت واحد.

وأعطى سينغ السعودية مثالاً “التي تعتبر الصين شريكها الاقتصادي الأول ووجهة خُمس صادراتها”. وأشار إلى القمة الصينية الخليجية وزيارة الرئيس الصيني شي جين بينغ المملكة، في ثالث رحلة له إلى الخارج منذ بداية جائحة كورونا (كوفيد-19). وفي الوقت نفسه، يعتبر السعوديون الولايات المتحدة شريكهم الأمنيّ الرئيسي”. ودلّل على أنّه من الصعب وضع الحلفاء أمام خيار العلاقة بدولة من الإثنتين: “لذا تتطلّع السعودية، مثل العديد من البلدان الأخرى المتوسّطة الحجم، إلى الحفاظ على كلتيهما”.

 

الصين بدل “الحلف الأطلسيّ”

ليست السعودية فقط، بل إنّ مصر وقطر والكويت والبحرين والإمارات العربية المتحدة يتشاركون في حوار حالياً مع منظمة شنغهاي للتعاون(SCO) ، وهي مجموعة سياسية واقتصادية وأمنيّة تتركّز في الصين، ويتمّ وصفها أحياناً (وبسخاء شديد) بأنّها قد تكون “بديل حلف شمال الأطلسي”.

أفادت تقارير وصلت إلى “فورين أفيرز” أنّ السعودية ومصر أعربتا عن اهتمامهما بالانضمام إلى منظمة بريكس BRICS، كذللك، وهي مجموعة من دول الأسواق الناشئة تضمّ الهند والصين، إلى جانب البرازيل وروسيا وجنوب إفريقيا. وأبدت تركيا، الدولة الوحيدة في الشرق الأوسط المتحالفة رسمياً مع الولايات المتحدة، اهتماماً بأن تكون عضواً في كلتا المنظّمتين.

هنا يكشف سينغ عن اقتراح قدّمه الأكاديمي بول بواست، من جامعة شيكاغو، لتوسيع مجموعة بريكس BRICS ومنظمة شانغهاي للتعاون كانطلاقة لـ”نظام دولي بديل”. وأكّد أنّ “الدول التي تسعى إلى الإنخراط بشكل أكبر في منظمة شنغهاي للتعاون ودول البريكس لا تنأى بنفسها عن مجموعة الدول السبع أو الناتو أو الأمم المتحدة. وبدلاً من بناء نظام منافس، يرفض عدد متزايد من الدول الانضمام أو على الأقلّ يسعى إلى الهروب من قيود وعواقب نظام عالمي ثنائي. فنجد هذه الدول تحاول الموازنة من خلال إبقاء قدم في المعسكر الذي تقوده الولايات المتحدة وزرع الأخرى في مؤسّسات متعدّدة الأطراف بقيادة روسيا والصين. يبدو أنّ هذه الدول، التي كان معظمها غير منحاز إلى أيّ طرف خلال الحرب الباردة، تفضّل اليوم أن تكون “متعدّدة الانحيازات”.

خطأ الإدارة الأميركية يكمن في ظنّها أنّ شركاءها المحتملين يرون الأمور من منظارها الأميركي، وتريد منهم أن يتضامنوا بشكل تلقائي مع مصالحها

أرباح “التعددية” في الانحياز

تحاول الدول “متعدّدة الانحيازات”، ومنها تركيا والسعودية، “من خلال تبنّي مثل هذه التعدّدية، إلى تقليل كلفة التنافس بين القوى العظمى على حسابها، وتعظيم فوائدها” بالنسبة إلى شعوبها. إذ أنّه مع اشتداد التنافس بين القوى الكبرى، وجدت الدول الصغيرة والمتوسّطة الحجم نفسها “ضحية” هذا التنافس، مثل مطالب الصين دعم سياساتها تجاه هونغ كونغ وتايوان، أو مطالب الولايات المتحدة رفض الاستثمار الصيني في البنية التحتية وتكنولوجيا الجيل الخامس. في المجال “المتعدّد الانحيازات”، يمكن لهذه الدول أن تربح “محاولات الاسترضاء” و”الاستمالة” من هذه الدول، بدل التعرّض لعقوباتها.

هذه الاسترايجية تحمي الدول المذكورة من “ضبابية” مواقف دول كالصين وأميركا من قضايا الشرق الأوسط.

لكن لهذه الطريقة في مقاربة الشؤون الدولية تكاليف قد تكون باهظة. فقرار تركيا عام 2017 أن تشتري نظام الدفاع الجوّي الروسيS-400 ، الذي يمثّل انتهاكاً لالتزاماتها تجاه حلف الناتو، وهي عضو فيه، أدّى إلى طردها من برنامج الطائرات المقاتلةF-35 ،. وحين أحجمت الإمارات العربية المتحدة عن تقليص علاقتها الأمنيّة والتكنولوجية مع بكين تعثّرت صفقة F-35  التي كانت مقرّرة مع الولايات المتحدة. وقد يؤدّي رفض المجر الانضمام إلى العقوبات الأوروبية ضدّ روسيا، إلى تعزيز تصميم الاتحاد الأوروبي على حجب أموال عن بودابست لأسباب تتعلّق باحترام سيادة القانون. حتى إسرائيل، أحد أقرب حلفاء الولايات المتحدة، رأت كيف حلّت علاقاتها مع روسيا والصين بشكل متزايد كنقاط احتكاك وخلاف رئيسية مع واشنطن بدلاً من علاقاتها مع إيران أو القضية الفلسطينية.

حسب سينغ: “قد تميل الولايات المتحدة إلى إصدار إنذار نهائي لشركائها المتردّدين يدعو إلى اختيار أحد الجانبين في صراعها مع روسيا أو الصين. فإذا استمرّوا في التعامل مع الطرفين معاً، يمكن لواشنطن أن تقول إنّها ستضطرّ إلى تقليص علاقاتها الجيّدة معهم”.

لكنّ مثل هذا النهج غير عمليّ، لأنّ العديد من أشكال التعاون بين شركاء الولايات المتحدة وروسيا أو الصين، مثل الجزء الأكبر من تجارة البضائع الواسعة النطاق، لا تشكّل تهديداً كبيراً لمصالح الولايات المتحدة ولا تستحقّ معارضة شديدة.

في ما يتعلّق بالصين، قد يكون من المستحيل أيضاً تنفيذ مثل هذا الإنذار النهائي، نظراً إلى أنّ اقتصادات شركاء الولايات المتحدة متشابكة بشكل وثيق مع اقتصاد بكين، وهو فرق رئيسي بين المرحلة الحاليّة من منافسة القوى العظمى والمرحلة السابقة. ويُرجَّح أن يشجِّع مثل هذا الطلب شركاء الولايات المتحدة على المطالبة بضمانات اقتصادية وأمنيّة أقوى قد تكون واشنطن متردّدة أو غير قادرة على تقديمها.

 

نرجسيّة أميركيّة أقلّ.. تعاون أوسع

يدعو سينغ صانعي السياسة في الولايات المتحدة، بدلاً من السعي إلى تقسيم العالم بشكل منظّم على غرار الحرب الباردة، إلى أن يستبعدوا فكرة أن يؤدّي تجدّد المنافسة بين القوى العظمى إلى نظام ثنائي للدول في كلّ قضيّة، وأن يسعوا إلى زيادة ترغيب الشركاء المحتملين بفرص تدفعهم إلى الاصطفاف مع الولايات المتحدة، حتى لو كان هؤلاء الشركاء منخرطين في الوقت نفسه مع القوى العظمى الأخرى بقدرات مختلفة.

وبدلاً من التركيز على المنتديات الواسعة والمتعدّدة القضايا، مثل مجموعة العشرين أو قمّة الديمقراطيات، فإنّ على الولايات المتحدة بناء وتعزيز الشراكات مع الدول ذات الأجندات الأكثر تركيزاً، مثل المجموعة الرباعية (التي تضمّ الولايات المتحدة والهند وأستراليا واليابان)، و”اتفاقات أبراهام” وما يسمّى بالمجموعة I2U2 من الهند وإسرائيل والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة. تعزّز مثل هذه الائتلافات المصالح المتبادلة ذات الأولويّة العالية، ومن بينها استثمارات الأمن والبنية التحتية، مع تنحية القضايا الدخيلة المثيرة للجدل. ويمكن أن تعمل أميركا أيضاً كقوّة موازنة فعّالة للنفوذ الصيني من دون الحاجة إلى استهداف بكين مباشرة، مع تقليل تكلفة المشاركة المحتملة للشركاء. فعلى سبيل المثال تزيد مبادرة I2U2  الناشئة الاستثمار الهندي في الشرق الأوسط وتقدّم خياراً ثالثاً للدول الإقليمية التي تتردّد في الاختيار بين الولايات المتحدة والصين. في حين زادت اتفاقيات أبراهام تدفّقات الاستثمار داخل منطقة الشرق الأوسط بطريقة قد تقلّل من الحاجة إلى الدعم الخارجي من أيّ قوة عظمى.

في الوقت نفسه دعا سينغ الولايات المتحدة إلى العمل مع الحلفاء الحاليين على ترسيخ القواعد واللوائح المشتركة، مثل خصوصية البيانات وصادرات التكنولوجيا، لتشجيع الشركاء غير المتحالفين على الامتثال لعروض واشنطن. ومن المرجّح أن يستجيب الشركاء للمطالب الأميركية بالتخلّي عن الفرص الاقتصادية التي تقدّمها الصين وروسيا إذا انطوت هذه المطالب على تقديمات ملموسة، منها زيادة الوصول إلى الأسواق الأميركية والأوروبية أو إلى أسواق التكنولوجيا.

وانتقد سينغ عدم أخذ واشنطن في الاعتبار كيفية إدراك الشركاء لمصالحهم الخاصة، إذ يفترض صانعو السياسة فيها أنّ الشركاء يرون الأمور كما تراها الولايات المتحدة أو يشعرون تلقائياً بالتضامن مع المصالح الأميركية، وهي مغالطة مؤسفة وصفها مستشار الأمن القومي السابق إتش آر ماكماستر وآخرون بأنّها “نرجسية استراتيجية”.

وحذّر من أن تؤدّي هذه النرجسية إلى نوعين من الفشل السياسي: تقليل الولايات المتحدة من شأن التزام شركائها بنهج سياسي معيّن والمبالغة في تقدير التزامها بأولويّة سياسية معيّنة، ثمّ إدراك أنّها ليست مستعدّة لفرض عواقب عندما يرفض الشريك طلباً.

إقرأ أيضاً: كيسنجر: الذكاء الصناعيّ يحوّل الحرب إلى لعبة شطرنج..

على صانعي السياسة في الولايات المتحدة الطلب فقط عند وجود احتمال واقعي بانضمام شركائها إليها وحين تكون مستعدّة لفرض عقوبات إذا رفضوا، لأنّ الطلب الذي لا يشمل كلا الأمرين سيساهم في تصوّر أنّ نفوذ الولايات المتحدة آخذ في التضاؤل.

برأي سينغ، ينبغي ألا يكون السؤال المطروح على الشركاء: هل هم مع الولايات المتحدة أو ضدّها، بل مع من سيكونون ومن سيكون معهم في هذا الملفّ أو ذاك، عندما يكون الأمر مهمّاً؟

 *مايكل سينغ: المدير الإداري في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى. شغل منصب المدير الأول للشرق الأوسط في مجلس الأمن القومي خلال إدارة جورج دبليو بوش.

 

لقراءة النص الأصلي: إضغط هنا 

مواضيع ذات صلة

تريليون دولار لعمالقة “وول ستريت”.. بين الرّياض وأبو ظبي

بعدما كان من بين الشخصيات الرئيسية في المؤتمر السنوي لـ”مبادرة مستقبل الاستثمار” في نسخته الثامنة الذي عقد في الرياض في 29 تشرين الأول الفائت، ظهر…

فريدمان لترامب: كانت المرة الأولى أكثر سهولة

العالم هو دائماً أكثر تعقيداً مما يبدو خلال الحملات الانتخابية، وهو اليوم أكثر تعقيداً من أي وقت مضى.. وإذا كان قد تمّ تجاوز الكثير من…

برنامج ترامب منذ 2023: الجمهورية الشعبية الأميركية

“سأحطّم الدولة العميقة، وأزيل الديمقراطيين المارقين… وأعيد السلطة إلى الشعب الأميركي“. هو صوت دونالد ترامب الرئيس 47 للولايات المتحدة الأميركية المنتخب يصدح من مقطع فيديو…

20 ك2: أوّل موعد لوقف إطلاق النّار

في حين أعلن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي هيرتسي هاليفي أنّ إسرائيل تضع خططاً لتوسيع هجومها البرّي في جنوب لبنان، نقلت صحيفة “فايننشيل تايمز” البريطانية عن…