– رياض سلامة لا يريد “الكابيتال كونترول” لأنّه يأخذ منه سلاح التعاميم الذي يذوّب به الودائع.
– تشكيل لجنة السبعة المنصوص عليها في قانون “الكابيتال كونترول” أصعب من تشكيل الحكومة.
ما يهمّ الناس في مشروع قانون “الكابيتال كونترول” الذي تناقشه اللجان النيابية أنّه سيؤدّي إلى إلغاء كلّ تعاميم مصرف لبنان التي تحدّد معايير السحوبات النقدية من الحسابات المصرفية، وسيحلّ محلّها في تحديد قواعد العلاقة بين البنوك والمودعين.
ولذلك تركّز النقاش الأهمّ في طبيعة اللجنة التي ستحلّ محلّ حاكم مصرف لبنان رياض سلامة في تحديد معايير السحوبات ونسب “الهيركت”، ويبقى بيد الحاكم سلاح وحيد سيقاتل للاحتفاظ به، هو تحديد سعر الصرف الذي تتمّ به السحوبات، لأنّه الأداة التي يحدّد بها نسبة “الهيركت” على الودائع، ويتحكّم من خلالها بحجم الكتلة النقدية، ومن ورائها بسوق القطع الأجنبي.
ما يهمّ الناس في مشروع قانون “الكابيتال كونترول” الذي تناقشه اللجان النيابية أنّه سيؤدّي إلى إلغاء كلّ تعاميم مصرف لبنان التي تحدّد معايير السحوبات النقدية من الحسابات المصرفية، وسيحلّ محلّها في تحديد قواعد العلاقة بين البنوك والمودعين
من الواضح أنّ رياض سلامة لا يريد لقانون الكابيتال كونترول أن يمرّ، بل إنّه لم يتردّد من القول صراحة في مقابلته الأخيرة مع قناة “الحرّة” إنّ تعاميمه أفضل للمودعين من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومن قانون الكابيتال كونترول، الذي سيحلّ محلّ التعاميم في تحديد قواعد العلاقة بين البنوك والمودعين. واستند في ذلك إلى جملة مزاعم تتعلّق بما حقّقته التعاميم، وهي:
1- أنّ التعاميم توفّر لكلّ صاحب حساب “ما لا يقلّ عن 1,800 دولار شهرياً من كلّ بنك لديه حساب فيه”.
2- أنّ مصرف لبنان يضخّ لعملاء البنوك ثمانية ملايين دولار “فريش” يومياً.
3- أنّ البنوك سحبت من مصرف لبنان منذ بداية العام 4.7 مليارات دولار “فريش”.
4- أنّ ودائع البنوك تنخفض بمعدّل 600 إلى 700 مليون دولار شهرياً بفعل عمليات الدفع للعملاء.
5- أنّ 200 ألف عميل استفادوا من التعميم 158، من بينهم 70 ألف عميل صفّوا ودائعهم بالكامل.
ما لم يقُله سلامة أنّ الأرقام أعلاه تثبت مدى فداحة مجزرة “الهيركت” التي نفّذها بحقّ صغار المودعين. فمن يسحب أمواله على سعر صرف 8,000 ليرة يتعرّض لهيركت بنسبة 80%، ومن يسحب على سعر 12 ألف ليرة، يتحمّل هيركت بنسبة 70%. وكلاهما لا يستطيع السحب إلا بسقوف متدنّية جدّاً. وفي واقع الحال، تلك هي وسيلة مصرف لبنان لتذويب المطلوبات الهائلة في ميزانيّته وميزانيّات البنوك.
من جانب مجلس النواب، من الصعب أن تفهم سلّم الأولويّات الذي أملى على اللجان النيابية الانكباب على دراسة قانون الكابيتال كونترول، بعدما طار “الكابيتال” وفات أوان “الكونترول”.
يبدو النقاش الحالي في اللجان النيابية منقطعاً عن سياق تلبية الشروط المسبقة للاتفاق مع صندوق النقد الدولي، وإلّا لسبقته أولويّات أكثر إلحاحاً من ضمن تلك الشروط، ولا سيّما خطّة التعافي وقانون إعادة هيكلة المصارف وتقويم موجودات أكبر أربعة عشر بنكاً.
يبقى أنّه إذا نجح مجلس النواب في إقرار قانون الكابيتال كونترول، فإنّ تشكيل اللجنة التي ستحدّد معاييره من سبعة أعضاء (تضمّ إلى جانب حاكم مصرف لبنان قضاة وخبراء اقتصاديين)، سيكون أصعب من تشكيل الحكومة! ولذلك يستطيع سلامة أن يطمئنّ إلى الاستمتاع بنعمة الحكم بالتعاميم حتى نهاية ولايته في تموز المقبل. وبعدها يتم البحث عن مخرج أمن له.
من الواضح أنّ رياض سلامة لا يريد لقانون الكابيتال كونترول أن يمرّ، بل إنّه لم يخجل من القول صراحة في مقابلته الأخيرة مع قناة “الحرّة” إنّ تعاميمه أفضل للمودعين من الاتفاق مع صندوق النقد الدولي ومن قانون الكابيتال كونترول
توحيد سعر الصرف
يأتي التهديد الآخر لسلطة رياض سلامة من رفع سعر الصرف الرسمي. وقد أعطى الرجل لنفسه مهلة شهرين للالتزام بسعر الصرف الرسمي الجديد البالغ 15 ألف ليرة للدولار، في تعاملاته مع القطاع المالي. (قال في مقابلته الأخيرة إنّه سيعتمد سعر الـ 15 ألفاً في التعامل مع البنوك، لكنّه لم يؤكّد بصريح العبارة أنّه سيعيد تقويم موجودات مصرف لبنان على السعر الجديد). وهكذا دخلت البلاد في سابقة جديدة تتمثّل بتطبيق سعر صرف في وزارة المالية يعادل عشرة أضعاف سعر الصرف المطبّق في مصرف لبنان.
لكن لماذا استمهل سلامة حتى مطلع شباط ليطبّق سعر الخمسة عشر ألف ليرة؟
السبب الأوّل أنّ تغيير سعر الصرف سيؤدّي إلى انفجار حقيقي لمطلوبات مصرف لبنان، هذا إذا التزم سلامة باحتسابها على سعر الصرف الرسمي الجديد. ففي ميزانية البنك المركزي ودائع للقطاع المالي بنحو 160 ألف مليار ليرة. وتشير التقديرات إلى أنّ ثلثَيْ هذه الودائع على الأقلّ بالعملة الصعبة، ومسجّلة في الميزانية على سعر الصرف الرسمي، وهو ما يعني أنّ تغيير سعر الصرف سيؤدّي إلى ارتفاع قيمة هذه الودائع بالليرة إلى أكثر من كوادريليون ليرة (ألف تريليون ليرة!).
بالطبع ستقابل ذلك إعادة تقويم الموجودات المقوّمة بسعر الصرف الرسمي القديم، ولا سيّما الذهب والحسابات لدى البنوك الأجنبية ومحفظة الأوراق المالية، لكنّ القفزة في جانب المطلوبات تبقى أكبر بكثير. وسينعكس ذلك على فجوة الخسائر الهائلة في ميزانية مصرف لبنان، المخبّأة ضمن بند “الموجودات الأخرى”، الذي وصل في آخر البيانات إلى 139 ألف مليار ليرة، أي ما يعادل 91.3 مليار دولار على سعر الصرف الرسمي القديم. وهكذا ستقفز فجوة الخسائر من خانة التريليونات إلى خانة الكوادريليونات.
ما يسري على البنك المركزي يسري على البنوك. فودائع العملاء بالدولار التي تقارب مئة مليار دولار، مسجّلة في الميزانيات بالليرة اللبنانية، وتمارس البنوك عملية ليلرة وتذويب ممنهج، بترتيب من مصرف لبنان. وعندما يُضرب سعر الصرف بعشرة ستقفز أرقام المطلوبات الأجنبية في الميزانيات بعشرة أضعاف، من دون أن تقابل ذلك زيادة مماثلة في الموجودات الأجنبية، لأنّ كلّ التوظيفات في اليوروبوندز ولدى مصرف لبنان ميؤوس منها.
كلّ هذه البلوى ونحن لا نتحدّث إلّا عن سعر الـ 15 ألف ليرة، من دون أن نصل إلى مطالبة صندوق النقد الدولي بتوحيد سعر الصرف عند سعر السوق، الذي هو أعلى من سعر الـ 15 ألف ليرة بـ270%!
يدأب رياض سلامة على تكرار مقولة إنّ الأزمة ظلّت قابلة للاحتواء حتى قرّرت حكومة حسان دياب التعثّر في سداد اليوروبوندز، مستدلّاً على ذلك برسم بياني لا يفارقه، يُظهر كيف تسارع انهيار سعر صرف الليرة بعد التوقّف عن السداد
مصرف لبنان المتعثّر الأكبر
ماذا يفعل مصرف لبنان إزاء هذا الواقع؟
يدأب رياض سلامة على تكرار مقولة إنّ الأزمة ظلّت قابلة للاحتواء حتى قرّرت حكومة حسان دياب التعثّر في سداد اليوروبوندز، مستدلّاً على ذلك برسم بياني لا يفارقه، يُظهر كيف تسارع انهيار سعر صرف الليرة بعد التوقّف عن السداد.
الحقيقة أنّ أزمة الماليّة العامّة، على ضخامتها، ليست شيئاً أمام أزمة مصرف لبنان. أزمة المديونية العامّة باتت أمراً واقعاً، وقد ذوّبتها الأزمة عمليّاً. فاليوروبوندز البالغة قيمتها 33 مليار دولار باتت عديمة القيمة في حسابات الداخل والخارج. لكنّ المتخلّف الأكبر عن السداد هو مصرف لبنان. وليس أدلّ على ذلك من عجز سلامة عن الردّ بكلمة واحدة على بيان مجموعة بنك البركة الذي اتّهمه بالامتناع عن الدفع من الحسابات الجارية لبنك البركة فرع لبنان.
مصرف لبنان هو الثقب الأسود الأكبر الذي تضيع فيه ودائع الناس. فهو منذ بداية الأزمة يضرب عرض الحائط بمعايير المحاسبة الدولية (IFRS) ومعايير “بازل 3” للرقابة على المصارف، ولا يطبّق منها شيئاً، سواء على صعيد كفاية رؤوس الأموال أو تجنيب “المخصّصات” مقابل الخسائر المحتملة، أو احتساب أثر انهيار سعر الصرف.
إقرأ أيضاً: حكومة ميقاتي تسطو على الرواتب
والفضيحة الكبرى أنّ المكوّن الأكبر من أصول البنوك عبارة عن شهادات إيداع لدى مصرف لبنان (تراوح بين 70 و80 مليار دولار بالعملة الصعبة)، وهذا الأخير متعثّر ومتوقّف عن السداد، وغارق في فجوة خسائر هائلة، ومع ذلك لا تجنّب البنوك دولاراً واحداً من المخصّصات مقابل تلك الخسارة المتوقّعة.
في المحصّلة لا يمكن حسم مصير ودائع الناس في البنوك إلا بمعرفة مصير ودائع البنوك في مصرف لبنان. وهذا غير ممكن في ظلّ حكم التعاميم واللعب بأسعار الصرف المزيّفة.