في الأيام الماضية استُدعيت سيّدة تقطن في كسروان مرّتين أمام المحقّق في مخفر غزير بعد شكوى بحقّها وادّعاء جارتها عليها، والتهمة: خلاف على ركن سيارة وقيام هرّة عائدة للمدّعى عليها بـ “العربشة” على سيّارة المُدّعية وإحداث خدوش عليها!!
وجدت المدّعى عليها نفسها فجأة أمام قضية “تجرجرت” فيها إلى المخفر، فطلبت “النجدة” من أحد النواب السابقين في قضاء كسروان الذي وعدها بالضغط لـ “لإقفال الملفّ لأنّه ما بيحرز”.
لكنّ القضاء المُعتكف وجد الأمر “محرِزاً”، وتعامل مع الملفّ كشكوى “طارئة”، فأحال النائب العامّ في كسروان القضية إلى المخفر، ثمّ أعطى إشارته بالتوسّع بالتحقيق بعد الاستماع للمدّعى عليها واستجوابها!
هكذا لبّت النيابة العامّة النداء سريعاً، بعد “توصية” مباشرة بالاهتمام بالسيّدة، في ظلّ اعتكاف شبه كامل للقضاة مستمرّ منذ أكثر من ثلاثة أشهر، وهو الأطول في تاريخ القضاء اللبناني.
طوال الفترة الماضية أظهرت الحكومة ووزارة العدل لامبالاة فظيعة باستثناء محاولة التفتيش عن حلول ترقيعية
هذه السرعة في الإحالة إلى المخفر ثمّ إعطاء الإشارة القضائية بالتوسّع في التحقيق تكاد تكون شبه غائبة في عشرات القضايا الملحّة، وبعضها يتّصل بجرائم مشهودة تستدعي سرعة في أخذ الإذن القضائي الذي تطلبه المخافر وقطعات قوى الأمن الداخلي.
تدريجاً تحوّل اعتكاف القضاة إلى تهمة لـ “الجيش الأحمر” (صورة رمزية للقضاة لأنّهم يرتدون المعاطف الحمراء) بالتسبّب بضرر مباشر لمصالح جميع اللبنانيين والأجهزة الأمنيّة وتعريض الأمن الاجتماعي وأمن البلد للخطر، وكسر ميزان العدالة، والحرمان من الحقّ باللجوء إلى القضاء، والمساس بحقوق المتّهمين، ولا سيّما الموقوفين، وعرقلة سير التحقيقات في المخافر، والتأثير السلبي جدّاً على عمل المحامين من خلال تجميد عمل المحاكم ومراكمة الملفّات فيها، والأهمّ تصوير القضاة كـ”جبهات” منقمسة على نفسها في ما يتعلّق باستمرار الاعتكاف وجدواه.
سقوط اقتراح الـ 8 آلاف
منذ آب الماضي تاريخ بدء اعتكاف القضاة لم تتعاطّ السلطة السياسية مع الإضراب بصفته ملفّاً يرتبط بالأمن القومي والاجتماعي لِما لعرقلة مسار العدالة من تأثير مباشر على الاستقرار وحياة المواطنين.
في شهر تموز الماضي سقط اقتراح احتساب رواتب القضاة على سعر 8 آلاف ليرة للدولار الواحد (على أساس أن تحوّل رواتب القضاة إلى الدولار على سعر 1,500 ليرة، ثمّ مجدّداً إلى الليرة على سعر 8 آلاف)، ورفض القضاة الحلّ الترقيعي الذي قُدّم لهم من خلال توقيع وزير المال يوسف خليل على نقل اعتماد من احتياطي الموازنة بقيمة 35 مليار ليرة إلى صندوق تعاضد القضاة، معتبرين أنّ المبلغ يكفي لشهرين فقط. مع العلم أنّ سلّة مطالب القضاة مرتبطة بتحسين أوضاع قصور العدل بعدما تحوّلت إلى صحراء مهجورة من دون مياه ولا كهرباء ولا أعمال صيانة ونظافة، إضافة إلى توفير المستلزمات البديهية للقضاة ومخصّصات البنزين والتعليم.
طوال الفترة الماضية أظهرت الحكومة ووزارة العدل لامبالاة فظيعة باستثناء محاولة التفتيش عن حلول ترقيعية لم ترضِ نحو 400 قاضٍ أعلنوا ما يشبه العصيان من أصل 600 قاضٍ. فقط قضاة النيابات العامة والقضاء العسكري أكملوا مهامّهم ربطاً بما يتعلّق بمنح الإشارات القضائية وبتّ أوضاع الموقوفين.
أمّا الطامة الكبرى فكانت في رصد أقلّ من 1% من قيمة الموازنة لوزارة العدل والمرفق القضائي و12 ملياراً لصندوق تعاضد القضاة، مع العلم أنّ رصد أيّ سلفة خزينة جديدة للقضاة يحتاج إلى مجلس وزراء “ليس في الخدمة” حاليّاً.
يقول مصدر قضائي لـ “أساس”: طوال الفترة الماضية لمسنا عدم وجود رغبة لدى السلطة في الالتزام بأيّ حلّ عادل ومستدام، وكلّ ما يقال عن حلّ عبر الحكومة ووزارة العدل ليس دقيقاً
ثلاث دفعات بالـ “فريش“
“ريّحت” السلفة القديمة لصندوق تعاضد القضاة، التي بلغت 35 ملياراً، القضاة نسبياً من خلال ثلاث دفعات بالدولار “الفريش” تراوحت بين 500 و1,100 دولار بحسب درجة القاضي، ولم تتعدَّ هذه العتبة بحسب ما أُشيع في الإعلام والكواليس.
نتيجة جهد لجنة المتابعة المؤلّفة من قضاة التي تفاوض مصرف لبنان لاح أخيراً في الأفق حلّ مرحليّ قد ينهي أزمة الإضراب ومن ضمن بنوده زيادة الرواتب ودخول “الزيادة” في تعويض نهاية الخدمة من خلال صندوق التعاضد بعكس دفعات الدولار التي توصف بالـ “برّاني”، أي من خارج المعاش ومؤقّتة ولا تُحتسب من ضمن التعويض.
عودة تدريجيّة
يقول مصدر قضائي لـ “أساس”: “طوال الفترة الماضية لمسنا عدم وجود رغبة لدى السلطة في الالتزام بأيّ حلّ عادل ومستدام، وكلّ ما يقال عن حلّ عبر الحكومة ووزارة العدل ليس دقيقاً، فالمفاوضات الأساسية تجري مع مصرف لبنان، والنتيجة بدء حلحلة الاعتكاف تدريجياً”.
لوحظت في الأسابيع الماضية، بضغط من مجلس القضاء الأعلى، عودة بعض القضاة إلى ممارسة مهامّهم، فيما العدد الأكبر قد يلتحق بداية العام بمراكز “خدمته”. وسبق لرئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي أن أعلن في مقابلة تلفزيونية أنّ “وزير العدل أعطاني الحلّ في ما يتعلّق بأزمة القضاة”، معتبراً أنّ الأزمة ستحلّ قريباً.
إقرأ أيضاً: كتاب عويدات: إيضاح الواضحات في مذكرة عثمان
في هذا السياق، يجزم متابعون لملفّ اعتكاف القضاة أنّ “وضع هؤلاء القضاة لا يختلف عن وضع أيّ لبناني تعرّض لأكبر عملية احتيال وسرقة وتنكيل و”تشنيع” بوضعه المالي والاجتماعي. لذلك الثورة الحقيقية لهؤلاء كان يجب أن تكون بوجه السلطة ومافياتها التي أوصلت القضاة إلى توسّل حقوقهم البديهية وضغطت عليهم بوقاحة لإقفال ملفّات وفتح ملفّات وتدخّلت بمسار عملهم… الثورة البيضاء كان يجب أن تكون ضدّ المجرمين الذين منعوا القضاء من أن يكون فعلاً سلطة مستقلّة تحاسب وتضع أكبر الرؤوس في السجون”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: MalakAkil@