مع كلّ شغور رئاسي تعود إلى الواجهة حكاية انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية من خلال نسج تسوية تهرب من الصراعات السياسية المحتدمة، وتخلق توافقاً آنيّاً يُنهي الشغور ويخالف الدستور.
بعيداً عن الحظوظ والرسائل السياسية بين ميرنا الشالوحي وحارة حريك واليرزة، يبحث “أساس” في جذور هذه التسويات. ماذا يقول الدستور؟ ماذا يقول التاريخ؟ كم قائد جيش تربّع على عرش بعبدا قبل الطائف وبعده؟
المادّة 49 وتجاوزاتها
تحدّد المادّة 49 من الدستور اللبناني مدّة ولاية رئيس الجمهورية بستّ سنوات، لا يجوز عند انتهائها إعادة انتخابه إلّا بعد انقضاء ستّ سنوات أخرى. وتنصّ المادّة نفسها على عدم وجوب انتخاب القضاة وموظّفي الفئة الأولى وما يعادلها في جميع الإدارات العامّة والمؤسّسات العامّة إلّا بعد انقضاء سنتين على استقالتهم أو إحالتهم على التقاعد.
ما سبق يعني أنّ انتخاب قائد الجيش وهو على رأس عمله مخالفة دستورية. قال المحامي حسّان الرفاعي لـ”أساس”: “هذا ما أُضيف إلى الطائف، بعد ما فعله ميشال عون في الحرب اللبنانية. أمّا ما قبل الطائف فلم يكن من مانع لانتخاب موظّفي الفئة الأولى رؤساء جمهورية”.
مع كلّ شغور رئاسي تعود إلى الواجهة حكاية انتخاب قائد الجيش رئيساً للجمهورية من خلال نسج تسوية تهرب من الصراعات السياسية المحتدمة، وتخلق توافقاً آنيّاً يُنهي الشغور ويخالف الدستور
لكن كيف تمّ التعاطي مع هذه المادّة في الانتخابات الرئاسية الماضية التي نصّبت قادة جيش رؤساءً في بعبدا؟
يؤكّد الرفاعي أنّه خلال انتخاب ميشال سليمان اجتهد المجلس النيابي في ابتداع فتوى دستورية تعتبر هذه الفقرة من المادّة 49 غير قائمة في تلك الحالة بسبب الفراغ الدستوري، أو الشغور الرئاسي الذي كان يخيّم على بعبدا حينذاك، انطلاقاً من أنّ وقت انتخاب الرئيس قد مرّ ولا داعي لاستقالة قائد الجيش من منصبه قبل سنتين من انتخابه. وبرّروا لأنفسهم ذلك باعتبار أنّ هذه الفقرة لا تمنع قائد الجيش من تبوّؤ منصب رئيس الجمهورية إلا في حال كان الرئيس السابق ما يزال موجوداً. ومتى انتهت فترة الانتخاب وأصبحنا بمرحلة الشغور تصبح هذه الفقرة غير قائمة ولا داعي لتطبيقها. واللافت في هذا الأمر أنّ سليمان حصل على عدد كبير من الأصوات، يفوق ثلثَيْ المجلس، وهي الأصوات التي كانت تخوّل المجلس تعديل الدستور.
أمّا في مرحلة انتخاب إميل لحّود رئيساً، فلم يكن من مخالفة أو اجتهاد دستوري، بل قاموا بتعديل الدستور لمرّة واحدة فقط، ليستطيعوا انتخابه رئيساً خلافاً للمادّة 49. وهكذا عُدِّل الدستور على مقاس شخص معيّن، وهذا ما حصل عند انتخاب لحّود.
لذا ما من مانع لتكرار التجربة نفسها اليوم، إمّا بتعديل الدستور لمرّة واحدة فقط كما حصل مع لحّود، أو عبر اجتهاد دستوري “وزعبرة” كما حصل مع سليمان، لأنّ الشغور وقع ولا أحد يعلم متى ينتهي. وعليه يمكن اعتبار ما حصل مع سليمان سابقة ويمكن إعادة السير بها، وفق رأي الرفاعي.
تعديل الدستور
لا يجد الرفاعي أيّ مانع من تعديل هذه الفقرة بالمطلق، لكنّ الفكرة أنّ المشرّع حين وضعها أراد ضمان عدم وقوع استفادة قائد الجيش أو موظّف الفئة الأولى من موقعه. لكنّهم كلّما حُشروا في انتخاب رئيس يذهبون إلى قائد الجيش، وعندئذٍ يقع خلط كبير بين الوظيفة العامّة والرئاسة وقيادة الجيش تحديداً.
إذا استطاع المجلس التوافق بأكثرية ثلثَيْه على انتخاب قائد الجيش، فهل يمكن تعديل الدستور في الجلسة نفسها؟
لا يمكن أن يتخلّل جلسة انتخاب الرئيس أيّ تصويت آخر، حسب الرفاعي. أمّا آليّة تعديل الدستور فتحدّدها المادّة 77 كالتالي: “في تعديل الدستور يمكن إعادة النظر بالدستور بناءً على اقتراح رئيس الجمهورية، فتقدّم الحكومة مشروع القانون لمجلس النواب. ويمكن أيضاً إعادة النظر بالدستور بناءً على طلب مجلس النواب، ويجري الأمر حينئذ على الوجه الآتي: يحقّ لمجلس النواب من خلال عقد عاديّ وبناءً على اقتراح 10 من أعضائه على الأقلّ أن يبدي اقتراحه بأكثرية الثلثين من مجموع الأعضاء الذين يتألّف منهم المجلس قانوناً بإعادة النظر في الدستور، على أنّ الموادّ والمسائل التي يتناولها الاقتراح يجب تحديدها وذكرها بصورة واضحة فيبلّغ رئيس المجلس ذلك الاقتراح إلى الحكومة طالباً إليها أن تضع مشروع قانون في شأنه. وإذا وافقت الحكومة على اقتراح المجلس بأكثرية الثلثين وجب عليها أن تضع مشروع التعديل وتطرحه على المجلس خلال 4 أشهر، وإذا لم توافق فعليها أن تعيد القرار إلى المجلس ليدرسه ثانية”… بهذه الآليّة لا يمكن تعديل الدستور وانتخاب الرئيس في جلسة واحدة، لكن في حال التوافق يمكن تطبيق ذلك خلال يومين، فكلّ شيء رهن النوايا والتوافق.
يخلُص المحامي زكريا الغول إلى أنّ رئيس الجمهورية في لبنان كان يأتي بناءً على تسوية. فكلّ رؤساء الجمهورية قبل الاستقلال وبعده، وقبل الطائف وبعده، جاؤوا بتسوية دولية
تصرّف مشين
من وجهة نظر أكاديمية ترى الدكتورة ميرنا زخريّا، الباحثة في علم الاجتماع السياسي، أنّ احتمال انتخاب قائد للجيش، سواء أكان الحالي أو من سبقوه، أصبح خبراً “جداليّاً وثابتاً” يبرز عند كلّ استحقاق رئاسي. “وإذا تفحّصنا هذه النقطة من منظار أكاديمي علمي بحجّة مبدئية بدل تلك الحجج التسوويّة، نجد أنّ تعديل دستور بلد من أجل مواطن واحد هو تصرّف غير لائق، ولا سيّما إذا تكرّر. ذلك أنّه يتناقض مع بنود العدالة والمساواة ومع الشرعة الدولية للحقوق السياسية، لا بل هو قرار يشير إلى الشخصنة في مناصب صنع القرار، الأمر الذي يتعارض كليّاً مع خصائص الأنظمة الديمقراطية”.
وتؤكّد زخريّا لـ”أساس” أنّ هناك تضارُباً في الدستور بين المادّتين 7 و49، حيث الأولى تؤكّد أنّ جميع اللبنانيين يتمتّعون بالحقوق السياسية والمدنية من دون تفرقة، فيما الثانية تفرِض استقالة صفوَة الموظّفين قبل عامين من موعد الرئاسة. “لذا حريّ بنا أن نعالج الأمر بدل التخبّط به كلّ ستّ سنوات، خاصةً أنّ المُشرّع اللبناني قد انتخب في فترات الأزمات الحادّة من تاريخ لبنان الحديث ثلاثة عسكريين رؤساء، لحّود وسليمان وعون”. وتشدّد على ضرورة إصلاح التضارب بين تلك الموادّ بهدف تحرير موظّفي الفئة الأولى من قيودٍ لا مبرِّر قانونيّ لها سوى تقديم نصّ دستوري على آخر، وتضيف: “ليتَ المجلس الدستوري يُلغي هذه الفقرة التي تحدّ الحرّية السياسية، وبدل تعديل الدستور كلّ مرّة. فليصحّحوه جذريّاً لمرّة واحدة، كي يعود البُعد القانوني إلى الدستور”.
ماذا يقول التاريخ؟
أمّا تاريخياً، فشهد لبنان انتخاب ثلاثة قادة جيش رؤساء للجمهورية، أوّلهم فؤاد شهاب، قبل الطائف، وثانيهم إميل لحّود، وثالثهم ميشال سليمان، بعد الطائف. ويؤكّد التاريخ أنّ التحوّلات والتغيّرات السياسية في العالم والمنطقة هي التي كانت تفرض مثل هذا الانتخاب.
يسرد المحامي زكريا الغول، المتخصّص في التاريخ الحديث والمعاصر، في حديث لـ”أساس”، الظروف والتحوّلات التي نقلت هؤلاء من قيادة المؤسسة العسكرية إلى رئاسة البلاد.
– فؤاد شهاب: أوّل قائد جيش تبوّأ منصب رئيس الجمهورية في عام 1958. جاء ذلك في سياق تحوّلات دولية كبيرة أدّت إلى ظهور قوّتَين عظميَيْن ربحَتا الحرب العالمية الثانية: الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي، وإلى انهزام القوى الاستعمارية القديمة: فرنسا (عسكرياً) وبريطانيا (اقتصادياً). وفي الخمسينيات شهد العالم العربي تحوّلات كبيرة، مع ثورة الضبّاط الأحرار في مصر (1952) وزعامة جمال عبد الناصر. وفي عام 1956 هُزِم العدوان الثلاثي على مصر وسطع نجم جمال عبد الناصر زعيماً أوّل في المنطقة العربية. تقرّب عبد الناصر من الروس، ونشأ عداء بينه وبين أميركا. وبالتوازي مع العدوان الثلاثي أطلق الرئيس الأميركي دوايت أيزنهاور مبدأه لمنع التمدّد السوفييتي نحو الشرق الأوسط، واستُتبع بحلف بغداد الذي هزّ لبنان وورّطه سنة 1958 في نزاع طائفي بين الرئيس كميل شمعون المقرّب من البريطانيين، والمناصرين لعبد الناصر. ويستذكر الغول كلمة شمعون الشهيرة التي دلّت على الارتباط الوثيق بين بغداد ولبنان: “خلّي عينك عالعراق”. وفي 14 تموز سقط النظام الملكي الهاشمي في العراق، بانقلاب قاده الضبّاط الأحرار الناصريون. ودخل الجيش الأميركي بيروت بحجّة منع تمدّد الاتحاد السوفييتي. وفشل التمديد لكميل شمعون وانتهى الأمر إلى تسوية بين الولايات المتحدة وعبدالناصر قوامها انتخاب قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً.
– إميل لحّود: كان لبنان تابعاً بالكامل لسوريا لمّا جرى التمهيد لمجيء قائد الجيش إميل لحّود رئيساً للجمهورية، إثر التوافق على تعديل الدستور لمرّة واحدة وأخيرة في عام 1998. وأُعيد التمديد للحّود أيضاً بتعديل الدستور لمرّة واحدة وأخيرة في عام 2004، وانتهت ولايته الممدّدة في 2007 ودخلت البلاد فراغاً رئاسياً طويلاً. لم تكن هذه التعديلات الدستورية الوحيدة الهجينة في عهد لحّود والوصاية السورية، بل شملت التعديل – الفضيحة لقانون أصول المحاكمات الجزائية في سنة 2000 مرّتين، خلال أسبوع واحد، بناءً على رغبة لحود، وذلك لإعطاء مزيد من الصلاحيّات للنيابات العامّة والضابطة العدلية لإدارة التحقيقات من دون حضور محامٍ ومن دون مراعاة المبادئ العامّة في توقيف أيّ شخص، وهو القانون الذي أُعيد تعديله أخيراً لصالح العدالة والإنصاف.
– ميشال سليمان: ثالث قائد للجيش يأتي رئيساً للجمهورية، وذلك بعد تسوية الدوحة، وأحداث 7 أيار 2008. لم يتمّ تعديل الدستور لانتخابه، بل انتُخب بفتوى من الوزير بهيج طبّارة، وأعلن رئيس المجلس النيابي نبيه برّي أنّه في حالة الفراغ الدستوري تسقط كلّ المهل، ومنها مهلة استقالة موظّفي الفئة الأولى قبل سنتين من انتخاب رئيس الجمهورية.
– ميشال عون: لا يضع الدكتور الغول ميشال عون ضمن قادة الجيش الذين أصبحوا رؤساء للجمهورية، لأنّه لم يصبح رئيساً رسميّاً يوم كان قائداً للجيش، بل رئيس حكومة مكلّفاً. وحينئذ شهد لبنان تحوّلات كبيرة عندما انتهى عهد أمين الجميّل سنة 1988 من دون انتخاب خلف له، وكانت سوريا في طريقها إلى السيطرة على لبنان. تزامنت تلك المرحلة مع انهيار الاتحاد السوفييتي وحرب يوغسلافيا ومتغيّرات دولية عديدة، وكلّف حينذاك أمين الجميّل قائد الجيش بتشكيل حكومة عسكرية، أدّت إلى تمرّد عون وإقصائه، وانتهت بإهداء لبنان لسوريا مقابل انضمامها إلى التحالف الدولي لمواجهة صدّام حسين.
إقرأ أيضاً: لا انتخابات بلديّة في الفراغ الرئاسيّ
يخلُص المحامي زكريا الغول إلى أنّ رئيس الجمهورية في لبنان كان يأتي بناءً على تسوية. فكلّ رؤساء الجمهورية قبل الاستقلال وبعده، وقبل الطائف وبعده، جاؤوا بتسوية دولية. وهذا طبيعي في دولة تمّ إنشاؤها في عام 1920 بناءً على رغبة خارجية. واليوم تخضع هذه الدولة مثلها مثل باقي الدول للأقطاب الخارجية: أفرقاء ينتمون إلى أحلاف ويجاهرون بذلك. وكما حصل في عام 1958 في زمن تحالف بغداد، يحدث اليوم. لا بدّ أن تنسحب هذه الارتباطات على استحقاقات مثل رئاسة الجمهورية، التي يمكن أن تنتهي بانتخاب شخصيّات مثل قادة الجيش.
فهل الأزمة التي يعيشها لبنان اليوم كفيلة بالدفع إلى التوافق على تسوية تأتي بالعماد جوزف عون رئيساً؟