لم يضِف جديداً كلامُ المرشد الإيراني علي خامنئي عن “الساحات” التي دخلتها إيران لمواجهة المؤامرة الغربية، ومنها لبنان، وتيسّر لها أن تحقّق فيها انتصارات (؟!) في وجه أميركا. لا يحتاج الاحتلال الإيراني، الجزئيّ أو الكلّيّ، إلى أدلّة إضافية، أكان في لبنان أو سوريا أو العراق أو بعض احتلال القرار الوطني في اليمن، بالإضافة إلى محاولات التوغّل السياسي وغير السياسي من حدود الأردن عبر المخدِّرات والكبتاغون، وصولاً إلى قلب الصحراء المغربية عبر تسليح ميليشيا البوليساريو بالمسيَّرات والخبراء!!
ولن يضيف كلامه الكبير ذرّة خجل واحدة إلى نفوس أدواته المحليّة، التي تتبجّح ليل نهار باستقلاليّة قرارها ومرتكزه الوطني الصرف. فهؤلاء الذين يسألوننا كلّ يوم، وعلامات العجب تعلو وجوههم، عن تقديم مثال واحد عن تدخّل إيران في لبنان أو طلبها من أتباعها اللبنانيين شيئاً يخصّ مصالحها، لن يحتاجوا إلّا أن يراجعوا تصريحات “وليِّهم” الأخيرة وما ماثلها وسبقها على لسان رجالاته وإعلامه.
ولكن لندع الكلام الكبير جانباً، بل لندع الأفعال الكبيرة أيضاً التي تراوح بين تهديدات غير مسبوقة لدول الخليج، وفي مقدَّمها السعودية، وبين زيادة وتيرة إرسال السفن المعبّأة بالذخيرة والصواريخ إلى اليمن عبر خليج عُمان، أو ما وردني عن نشر صواريخ أرض جو في منطقة بندر عبّاس، جنوب إيران، ما يمكّنها من تهديد خطوط الملاحة الجويّة في جنوب وغرب ووسط آسيا، أي المعابر الجويّة التي تستخدمها الطائرات المدنية الإسرائيلية والتي تصلها عبر المجالات الجوّية الخليجية.
إيران، التي تقدّمها تصريحات خامنئي ومسؤولي نظامه، على صورة القوّة والاقتدار، لا تحتمل صورة الرفض الشعبي التي تفصح عنها مشهديّات لاعبين رياضيين أو نجوم آخرين
كلّ هذا الكلام وهذه الأفعال الكبيرة، المراد منها تعزيز هيبة الاقتدار الإيراني، ما تلبث أن تتهاوى حين ننتبه إلى ضعف إيران وهشاشة قوّتها المزعومة في الداخل. فإيران الإسلامية التي تواجه المؤامرات وتنتصر عليها وتقاتل غيلان السياسات الدولية، تضعُف وتقلق وتستشرس بإزاء صورة تصدر هنا أو مقطع فيديو يصدر هناك يمتلكان كلّ مقوّمات هتك السرديّة الإيرانية.
كان يكفي أن يتعانق لاعب خطّ الوسط الدفاعي الإيراني سعيد عزت الله ولاعب الهجوم الأميركي جوش سارجنت في نهاية مباراة كرة القدم بينهما ضمن كأس العالم، لينتشر المقطع كالنار في الهشيم حول العالم. مواساة الأميركي المنتصر الذي يكفكف دموع الإيراني المهزوم، هي النقيض الموضوعي لكامل السردية الثورية الإيرانية عن الانتصار والاقتدار والهيبة والشيطان الأكبر. كان سبق هذه الصورة، مشهد لاعبي المنتخب الإيراني يمتنعون عن ترداد كلمات نشيد بلادهم قبل انطلاق أوّل مباراة لهم في كأس العالم، كبادرة تضامن مع الحراك الشعبي داخل إيران ورسالة احتجاج قاسية ومهينة لنظام خامنئي، الذي استدرك متأخراً جداً فكان قراره بحلّ “شرطة الأخلاق”.
ولئن كان النظام لا يحتمل مثل هذه الصور، ويحرص على عدم المغامرة بجعلها تفلت باتّجاهات أكثر جرأة، كشفت شبكة CNN الأميركية أنّ أعضاء في الحرس الثوري الإيراني ممّن يرافقون منتخب بلادهم إلى مونديال قطر، التقوا باللاعبين وهدّدوهم بأنّ أسرهم ستواجه “العنف والتعذيب” إن لم يغنّوا النشيد أو إن انضمّوا إلى أيّ احتجاج سياسي ضدّ النظام الإيراني، وهو ما يفسّر غناءهم للنشيد الوطني قبل مباراتهم الثانية ضدّ ويلز.
سيظهر اسم لاعب خط الوسط الإيراني سعيد عزت الله مجدّداً، حين نشر على صفحته على موقع “إنستغرام”، بعد مباراة بلاده ضدّ منتخب أميركا، أنّ قلبه “يحترق” بعدما علم أنّ أحد أصدقاء الطفولة قُتل أثناء احتفال محتجّين على النظام بفوز الولايات المتحدة على إيران، معتبراً أنّ “الإنسانية تتضاءل يوماً بعد يوم (…) ليس هذا ما يستحقّه شبابنا. ليس هذا ما يستحقّه وطني إيران”. أمّا الأهمّ في ما نشره فقوله لصديقه المقتول: “تأكّد من أنّه في يوم من الأيام عندما تسقط الأقنعة وتظهر الحقيقة، سيدفعون ثمن قلوب عائلتك المكلومة وحزن والدتك”.
وفي سياق مماثل انتشر فيديو هَدم منزل عائلة المتسلّقة الرياضية الإيرانية إلناز ركابي، بعدما تصدّرت الأخبار الرياضية والسياسية قبل أسابيع إثر مشاركتها في إحدى المسابقات في كوريا الجنوبية وهي مكشوفة الرأس، تضامناً مع الحراك الشعبي في بلادها. وكانت ركابي تعرّضت لحملة ضغوط أجبرتها بعد عودتها إلى بلادها على القول إنّها نسيت بالخطأ ارتداء حجابها خلال المنافسة، من دون أن يكفي ذلك لتجنيب عائلتها مصير هدم منزلها!
إلى ذلك اعتقلت السلطات الإيرانية فوريا غفوري لاعب كرة القدم الكرديّ في فريق “فولاد خوزستان” بتهمة “القيام بسلوك مخزٍ ومهين تجاه فريق كرة القدم الوطني، وكذلك التحريض ضدّ النظام”، بحسب وكالة الأنباء “تسنيم” الموالية للدولة، وذلك بعد أقلّ من أسبوع على اعتقال لاعب كرة قدم آخر، هو حارس مرمى المنتخب الإيراني السابق، بارفيز بوروماند، أثناء “تدمير ممتلكات عامّة” في طهران خلال احتجاج في يوم 15 تشرين الثاني الفائت. ومن جهته أعلن لاعب كرة القدم الإيراني السابق الذي يعيش الآن خارج إيران، علي كريمي، دعمه لكلّ من غفوري وبوروماند بعد اعتقالهما، وغرّد كريمي عبر حسابه على منصّة “تويتر” مع وضع صورة لغفوري مرتدياً الزيّ الكرديّ “للشرف الغفوري”.
إيران، التي تقدّمها تصريحات خامنئي ومسؤولي نظامه، على صورة القوّة والاقتدار، لا تحتمل صورة الرفض الشعبي التي تفصح عنها مشهديّات لاعبين رياضيين أو نجوم آخرين، دعك عن استمرار الاحتجاجات واقترابها من الشهر الرابع. وهنا تكمن الأزمة الوجودية الحقيقية لنظام خامنئي، أيّاً تكن المآلات التي سينتهي إليها الحراك الأخطر والأهمّ منذ عام 1979.
إقرأ أيضاً: “كاتالوغ” الملالي في إيران
في إيران ثورتان تتصارعان. ثورة ساعية إلى تصدير قيم النظام ومشروعه إلى الخارج، وثورة ساعية إلى استيراد قيم مناقضة إلى الداخل يختصرها اليوم رفض “الحجاب”. عنوان الحراك الشعبي الإيراني لافتة عريضة تندرج تحتها حزمة عريضة من الحرّيات الشخصية وطرائق العيش التي يريدها الإيرانيون، وينطوي على رفض لأصل النظام الثوري الإيراني.
لقد قرّرت إيران أنّ الحجاب هو نظام الثورة نفسه في بعده الاجتماعي التغييري العميق، ما جعل الحجاب، في المقلب الآخر، هو هدف الحراك الشعبي، بوصفه النظام بكلّيّته. إنّها ثورة ضد نظام الخميني وإعلان طلاق مع عام 1979.
لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@