رحل الشاعر اليمني والعربي الدكتور عبد العزيز المقالح (1937 – 28 تشرين الثاني 2022). لم يكن شاعراً فحسب، بل أهمّ شخصية في المشهد الثقافي اليمني لسنوات طويلة، ونسّاجاً لقماشته وصانعه.
جدّدت وفاة المقالح السجال في أوساط المثقّفين في اليمن وفي المشهد الثقافي العربي حول دور المثقّف بما هو صانع فكر وموقف، ووظيفته، ومثاله، ونموذجه. ويستعيد الجدال علاقة الجذب والنفور الملتبسة التي طالما طبعت علاقة المثقّف بالسلطة. إنّه سجال لن ينقضي، وقد تواتر مديداً عبر التاريخ بين المشتغلين في حقول الفكر والثقافة.
قبائل وعسكر ومثقّفون
في الحالة اليمنية يتّخذ السجال أبعاداً لها خصوصيّتها في بيئة ملغومة وملوّثة سياسياً، وتعيش نخبها الثقافية والأدبية، إن جازت تسميتها نخباً، انقساماً انشطاريّاً بين إنتاج ثقافة مستقلّة وثقافة هجينة تتماهى مع منظومة سلطوية طالما وضعت القيود على المجتمع والثقافة والأدب، وتغنّى المثقّفون بالتمرّد عليها ونشدان كسرها.
جدّدت وفاة المقالح السجال في أوساط المثقّفين في اليمن وفي المشهد الثقافي العربي حول دور المثقّف بما هو صانع فكر وموقف، ووظيفته، ومثاله، ونموذجه
تقاطع المثقّفون في اليمن تاريخياً مع شيوخ الدين والقبيلة والعسكر. ساد هذا بقوّة في أوساط النخبة اليمنية شمالاً، مشكّلاً مشهدية غالبة بعد إعلان الوحدة اليمنية واحتراب سنة 1994 بين الشمال والجنوب وتبعاتهما الفادحة على الجنوب، الذي هُمِّش شعباً وثقافة ومثقّفين وفنوناً ونتاجاً أدبياً. لقد تعمّد نظام الوحدة، نظام علي عبدالله صالح وحلفائه الإسلاميين، كسر أجنحة الجنوبيين، نخباً وأدباء ومثقّفين. دُمّرت مؤسّساتهم الثقافية، وخُيِّر المبدعون بين مباركتهم النظام وموالاته وشرعنة انتهاكاته، وبين تهميشهم وخنقهم وإفقارهم، فخضعت ثلّة منهم وهجر آخرون ملكة الأدب وحرفة الكتابة قسراً وانسحبوا إلى النسيان. هذا بينما تمدّدت وتطاولت النخب المثقّفة في الشمال وسيطرت على المشهد الثقافي العام، بعدما تركّزت المنابر الإعلامية والنشاطات الثقافية ومراكز صناعة القرار الثقافي في أيديهم بدعم من القرار السياسي في صنعاء، فتهمّشت عدن عاصمة الجنوب وحياته الثقافية واختنقت.
المقالح والبردوني
فيما راحت مواقع وصفحات نشطاء التواصل الاجتماعي اليمنية الشمالية تعجّ بالناعين المتفجّعين على رحيل المقالح، أخذت صفحات نشطاء جنوبيين تتناقل منشور الشاعر والباحث العراقي رشيد الخيون لمناسبة وفاة الشاعر المقالح.
قارن الخيون بين المقالح ونظيره الشاعر اليمني الكبير عبدالله البردوني، الذي توفّي عام 1999. فالشاعران هما الأهمّ تأثيراً في ذائقة ومزاج الأجيال الحديثة من الأدباء والكتّاب، وفي تشكيل المشهد الثقافي اليمني المعاصر والحديث.
كان البردوني شاعراً منسجماً مع مواقفه: جاهر بالمسكوت عنه، ناهض جبروت الحاكم وطغيانه غير هيّاب بما يلحق به من عقاب ونبذ. هذا وانتقد الخيون مواقف المقالح بصفته مثقّف سلطة: صمّ أذنيه وأغمض عينيه عن أخطاء النظام، بل تواطأ معه في تسويغ جرائمه ضدّ الجنوب. وهذا ما كان الخيون شاهداً عليه أثناء إقامته في عدن، قبل أن يغادرها بعد حرب صيف 1994.
تماثل الشاعران المقالح والبردوني في المكانة والتأثير الشعريّين والأدبيّين يمنيّاً وعربيّاً، لكنّهما تباينا حدّ القطيعة في مواقفهما من السلطة وممارساتها في الجنوب وفي اليمن عامّة.
وحدة سفك الدم
في مقابلة له على أثير إذاعة “بي بي سي” نفى نفياً قاطعاً وجود يمن جنوبيّ، لشدة التصاقه بسلطة عبدالله صالح. لذا استدرجت وفاته ما كتمته نفوس الجنوبيين سنوات. فاستعاد كثيرون منهم ما قاله حينما كان رئيس جامعة صنعاء عقب حرب 1994 ممجّداً “سفح الدم (دم الجنوبيين حينذاك) ألذُّ سفحه عنوةً من أجل سقيا شجرة الوحدة”! أمّا البردوني فأوّل من صدح برأي يخالف الوحدة الاندماجية الفوريّة بلا تروٍّ، ورأى فيها فعلاً عاطفيّاً يخلو من الحنكة.
وفي عزّ زهو نظام صنعاء بنصره المؤزّر على شريك الوحدة الجنوبي واجتياحه للجنوب، اجترح البردوني رأياً شجاعاً واصفاً ما حدث بـ”جريمة واحتلال ولا يمتّ بصلة للوحدة”. وهذا ما جعله منبوذاً من نظام علي عبدالله صالح ونظامه. ويعتقد البعض أنّ المقالح لم يكن بعيداً عن التواطؤ مع النظام ضدّ البردوني، حسب شواهد كثيرة ساقها المعلّقون على رحيل المقالح. ومن المفارقات أنّ أدباء اليمن وكتّابه أقاموا قبل إعلان الوحدة السياسية بعقود اتّحاداً موحّداً، كان كياناً نقابياً إبداعياً ضمّ الكتّاب والأدباء في الجنوب والشمال، وعقد مؤتمره الأوّل في عدن في سبعينيات القرن المنصرم، ورأسه الشاعر البردوني نفسه، وكان شعار الاتحاد وممارسته مبشّرين بالوحدة وحاملين مشعلها الحلميّ الطوباويّ.
يرى بعض ناعي المقالح، الشاعر ورئيس جامعة صنعاء أنّه كان علماً، وهو كذلك، وواجهة وهّاجة مضيئة استطاعت استقطاب جموع من المثقّفين والكتّاب والأدباء اليمنيين والعرب
حجيج الأدباء العرب
يرى بعض ناعي المقالح، الشاعر ورئيس جامعة صنعاء أنّه كان علماً، وهو كذلك، وواجهة وهّاجة مضيئة استطاعت استقطاب جموع من المثقّفين والكتّاب والأدباء اليمنيين والعرب، وهذا صحيح، لكن من دون الإشارة إلى الوجه الآخر للحكاية: لقد تسابق أدباء وشعراء كثيرون إلى مجلسه وتهافتوا على حظوته والتقرّب منه ليغدق عليهم دعواته التي كان يوجّهها إليهم بصفته مثقّف السلطة المقرّب لزيارة اليمن والمشاركة في فعّاليات ثقافية وأدبية.
أمّا الكلام الكثير عن دور المقالح المحوريّ في مسيرة الحداثة والتنوير في اليمن، فلم يرَ اليمنيون ولا سواهم من ثمارها شيئاً يذكر سوى تلك الدعوات. أمّا احتلال حضوره وشعره محور المشهد الثقافي اليمني فكان نتيجة منصبه الأكاديمي وموقعه المقرّب من السلطة. وهذا ما مكّنه من إنشاء مدرسة تخصّه سنّ قواعدها موزّعاً علامات ودرجات شعرية وثقافية وسلوكية على الشعراء والأدباء، وراح يتماهى معها كثيرون منهم، فكيّف ذائقة فئة كبيرة ومزاجها وصنع من خلال موقعه في جامعة صنعاء ذاكرة جيل منذ تولّيه رئاسة الجامعة في مطلع الثمانينيات ثمّ انتقاله إلى تولّي رئاسة أهمّ مركز يمني للبحوث والدراسات في صنعاء منذ بداية الألفية عام 2001 حتى وفاته قبل أيّام.
المقالح والسقاف
يذهب ناقدو الراحل إلى أنّ تأثيره وحضوره ليسا سوى مرآة لكونه عين السلطة الساهرة على صورة الثقافة اليمينة وعلى استبعاد معارضيها وخنقهم. وهذا ما أصاب المفكّر والمثقّف الذي يعدّ عضويّاً في نظر البعض: البروفسور أبا بكر السقاف القادم من الجنوب والمجايل للمقالح، والذي كان معارضاً صلباً للإسلاميين، حتى إنّه وصف وحدة الشمال والجنوب بـ “الاحتلال الداخلي”. لذا نُكِّل به وتعرّض لمحاولات اغتيال، وخُطف وعُذّب، ثمّ قُطع راتبه الذي كان يتقاضاه عن عمله أستاذاً للفلسفة في جامعة صنعاء التي كان السقاف ضدّ عسكرتها وتحويلها إلى ما يشبه ثكنة للأجهزة الأمنيّة. وهذا ما حدث أثناء رئاسة المقالح لجامعة صنعاء.
أقطاب وهوامش
لكن بعيداً عن مواقفه السياسية المثيرة للجدل يُحسَب للمقالح أنّه أدرك منذ البدء التقسيم “الجيو- ثقافي” غير العادل في إطار مشهد الثقافة العربية. فبينما استحوذت بلدان عربية على نصيب الأقطاب وسُمّيت بالمراكز (بيروت والقاهرة خصوصاً)، تموضعت بلدان أخرى في الهامش والظلّ في موقع المريد الذي عليه الدوران في فلك الأقطاب المكرَّسة والمحتفى بها. وكان نصيب اليمن، الذي أفرغته الأنظمة المتعاقبة من كلّ مقدّراته وإمكاناته ونكّلت بنخبه، أن يقبع في زاوية جعلته أكثر توارٍ وتهميش من سواه.
خيمة ومقيل
ميزة أخرى للمقالح: دماثة وحضور خاصّ وقدرة على نسج العلاقات. واستطاع بذلك أن يصنع حراكاً ثقافياً على مقاس تكريس اسمه وحضوره ودوره. وهذا جعل العديد من الشخصيات والرموز في الثقافة العربية يحجّون إلى صنعاء التي سمّاها بعضهم من طلّاب قربه: صنعاء المقالح. وكان مجلسه الشهير الذي غالباً ما يتصدّر بهوه محاطاً بمريديه يمنيّين وعرباً وبعضاً من الأجانب، حتى إنّ بعض المتخابثين شبّه ذاك المجلس بخيمة أو سرادق تستهدفه قبائل الكتّاب والمثقّفين، وسُمّي صاحبه شيخ مشايخ الثقافة. والبعض شبّه المجلس بـ”بيت أبي سفيان: من دخله أصبح آمناً ثقافياً وأدبياً”.
هذا ما مكّن المقالح من المساهمة الكبيرة في كسر شيء من عزلة الثقافة اليمنية وأدبائها المنسيّين في هوامش مشهد الثقافة العربية المنطوي على التفاضل (الأقطاب والمريدين).
شهدت جامعة صنعاء في عهد المقالح تعاقد أساتذة وأكاديميّين عرب معها، كان للعراق ومصر النصيب الأوفر منهم. وهذا جعل جامعة صنعاء مكاناً يجمع كثرة من النقّاد والكتّاب، فانعكس ذلك مثاقفة وبحوثاً ودراسات نقدية وأدبية سلّطت الضوء على الأدب اليمني ورموزه وأجياله، قديمها وحديثها، خصوصاً من قبل النقّاد والأكاديميين العراقيين الذين قدّموا الكثير للمشهد اليمني أثناء وجودهم في الجامعة.
إقرأ أيضاً: عبد العزيز المقالح: حارس الحداثة.. يرحل وصنعاء في العتمة
على الرغم من شدّة الخلاف والجدال في ما يتّصل بشخصيّة الشاعر عبد العزيز المقالح، لا يمكن إنكار موقعه شاعراً وأديباً ومثقّفاً وصانعاً لمشهد ثقافي، ليس فقط في اليمن، بل في الثقافة العربية بوصفه أحد رموزها في تاريخها المعاصر.
وفي مقام رحيله نتذكّر بيتاً من قصيدة مغنّاة له يقول فيه: “الحبّ أسمى من رماد الفلوس”.
غادر المقالح حزيناً، فيما اليمنيون يحتطب بعضهم بعضاً حتى غدوا رماداً.
* كاتبة وباحثة وناشطة حقوقيّة يمنيّة من جنوب اليمن – حضرموت.