يحار المرء من أين يقارب نتاج الكاتب والمُترجم سماح إدريس (1962 – 2021) اللبناني ـ البيروتي، العلماني الذي تشكلت هويته السياسية من كل القضايا العربية، وأغناها بانحيازه إلى قضايا التحرر الوطني حتى في أميركا الجنوبية.
تلميذ إدوار سعيد
الراحل عن ستين عاماً، وفي الذكرى السنوية الأولى لوفاته، لا بد من التنبيه إلى أنه خاض في كل ميادين الثقافة والكتابة، صاباً جُهده على فضية فلسطين وشعبها، وعلى اللغة والرواية العربيتين. وهذا الثالوث السياسي ـ الثقافي يجعل من التعريف بسماح إدريس أمراً يحتاج إلى تبصر. وتنطوي الكتابة عنه على مغامرة من نوعين: المديح الذي ما أحبه يوماً. أو القصور عن إيفائه حقه، وهذا يُعد نقصاً فادحاً.
لم يترك سماح إدريس كبيرة أو صغيرة في عالم الثقافة والسياسة والشعر إلا وتناولها نقداً وبحثاً. لكنه ومع “الآداب” بقي حارساً لفلسطين واللغة والرواية
المفارقة التي تُسجل له ككاتب فكري وثقافي، هي أنه كتب 7 قصص للأطفال، وأربع روايات للفتيات والفتيان. وإلى ترجمته عشرات المقالات، و4 كتب (بينها اثنان مع أيمن حداد)، فقد كتب مئات المقالات في السياسة، والأدب، واللغة، وأدب الأطفال.
كان سماح إدريس قد حاز شهادة الدكتوراه من جامعة كولومبيا في نيويورك، بإشراف صاحب كتاب “الاستشراق” إدوار سعيد، وقبلها الماجيستير والبكالوريوس من الجامعة الأميركية في بيروت. وله كتابان في النقد الأدبي: “رئيف خوري وتراث العرب” و”المثقف العربي والسلطة: بحث في روايات التجربة الناصربة”، فتناول فيه علاقة المثقف العربي بالسلطة، متخذاً من روايات “التجربة الناصرية” نموذجاً. وعرض تاريخ علاقة الرئيس عبد الناصر بالمثقفين.
قلقه من السياسة عكسه في ما استطاع إليه سبيلاً في الثقافة. فكانت فلسطين القضية القومية التي طبعت كتاباته بين حديّن: قومي ويساري. حبه وشغفه باللغة العربية جعلاها هماً يومياً والتزاماً عكسه في “رفعة ودقة” تحريره مجلة “الآداب” الورقية ومنذ العام 1992. وهي المجّلة التي أسّسها والده سنة 1953، كأبرز المجلّات الثقافيّة في بيروت والعالم العربي، وكانت رافعة رايات التيارات القومية واليسارية ونافست مجلة “شعر”.
المنهل العربي الكبير
سماح أدريس، نجل الناشر والروائي سهيل ادريس والمترجمة عائدة مطرجي، اسم علم في الحياة الثقافية اللبنانية والعربية، وتوجَ جهده في مشروع معجمي ضخم هو “المنهل العربي الكبير” الذي لم يكتمل، إذ خطفهُ مرض السرطان الذي تغلب عليه. أراد لعمله هذا أن يكون علامة فارقة في الحياة الثقافية واللغوية، فما ترك فرادة في اللغة إلا وبحث فيها وعنها. كانت اللغة عنده كائناً حياً يتطور بواقع مجتمعاتها وعلى مثاله. وعمله هذا كان مشاركةً وتتمة لجهود والده سهيل إدريس وبمشاركة الشيخ الراحل صبحي الصالح، والذي سيصدر عن “دار الآداب” كأكبر وأشمل معجم عربي – عربي، ويتألف من ثلاثة أجزاء.
اهتمامه باللغة كان حاضراً على الدوام في مجلة “الآداب” التي أسسها والده عام 1953 وسعى جاهداً ليواصل إصدارها ورقياً من العام 1992 وحتى العام 2012، إذ صدّرها الكترونيا تحت شعار “أكثر حداثة أشدّ التزاماً”. وفتح صفحاتها لكل جديد وحديث في الشعر والنص السياسي. تجاسر على ميادين السياسة والأدب والرواية. وبدا على الدوام أنه يمارس انتماءه السياسي الأول إلى الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين في كل ما هو ثقافي.
ظُلم سماح إدريس من نقاد كثر يوم خلطوا في مقاربتهم مضمون المجلة بين مرحلتي الأب والإبن وما بينهما من اختلاف ظروف سياسية وثقافية. وكذلك ما فيهما من تغيّر للوعي بعد هزيمة المشروعين القومي واليساري لصالح التيارات الدينية. كانت الهزيمة يوم سقطت بيروت في القبضة الإسرائيلية عام 1982، وصولاً إلى العام 1992 يوم بدأت “مفاوضات” مدريد مع إسرائيل، وهو العام نفسه الذي أعاد فيه سماح إدريس نشر مجلة “الآداب”.
يحار المرء من أين يقارب نتاج الكاتب والمُترجم سماح إدريس (1962 – 2021) اللبناني ـ البيروتي، العلماني الذي تشكلت هويته السياسية من كل القضايا العربية، وأغناها بانحيازه إلى قضايا التحرر الوطني حتى في أميركا الجنوبية
“الآداب” والترجمة
وإذ كان الراحل الابن الثقافي لإدوارد سعيد، فهو جعل من صفحات مجلة “الآداب” منبراً لكل المُبدعين الذين كسروا التقليدي والكلاسيكي على طريق محاولة ربط القضايا العربية بالحداثة وما انتجته من مفارقات حضارية. فخصص أعداداً ومحاور ثقافية وأدبية عن شخصيات عربية ويسارية من أمثال: غسان كنفاني، إدوارد سعيد، زياد الرحباني (الذي خصص له 3 أعداد لتحليل ظاهرته الفنية) وغالب هلسا، والكثير الكثير عن رواد الفنون المعاصرة. وانتقد مرة موقف الشاعر أدونيس الذي اعتبر الإمام محمد بن عبد الوهاب ضمن “فكر النهضة”، رغم تحريمه أنواعاً من الموسيقى، وتسويغه الحجاب. ثم إنه “أفتى بما لا يحصى من الممارسات الرجعية”.
يوم اضطر إدريس إلى النشر الكتروني كتب بقلق عن عصر جديد تلجه المجلة: تصدّع عالم النشر التقليدي لصالح وسائل جديدة لا تضمن قراءً ثابتين، وفي وقت راح عدد القراء والمثقفين يضمر ويتضاءل لأسباب شتى. آنذاك فقدت دار الآداب قدرتها على طباعة المجلة ورقياً. وفي الوقت عينه كانت اللحظة الثقافية حينها تشهد تصدعاً في توليد مثقفين جدد. وما عادت المجلة جاذبة أو حاضنة لمثقفي في العالم العربي الذين تشرذموا. لكن بقي لدار ومجلة “الاداب” جهد استثنائي في تنشيط الترجمة من اللغات الأجنبية إلى العربية، وخصوصاً في مجال الرواية. وكانت “الآداب” أول من قدم الفكر والأدب الوجودين من أمثال جان بول سارتر كولن ويلسون إلى العرب.
اليساري والقومي الذي اشتغل بقضايا العالم كله على معناها الفكري لم ترك يوماً معضلة النظام اللبناني الطائفية خارج تناوله إياها تشريحاً ونقداً وأسئلة معرفية.
وألمت بسماح إدريس الأزمات المتصاعدة التي حاصرت لبنان من كلّ حدب وصوب، “لكنّه تمسّك برسالة الثقافة والكتابة والنشر”، على ما قال في رثائه الشاعر عبده وازن. وكتب في مجلة “الآداب” التي صدر عددها الأخير في تموز 2021 افتتاحية عنوانها “ترف الانتاج الثقافي المستقل”. فتطرق فيها إلى عوائق الانتاج الثقافي والنشر في ظروف لبنان المتهالكة، خاتماً بما يبدو اليوم مثابة وصية: “نحن لا نملك مهنةً غيرَ الكتابة والنشر المستقلّيْن. وسنواصل هذه المهنة، مهما صعبت الظروف، ومهما تعثّرْنا أو تأخّرْنا أو كبوْنا. وسنكون إلى جانب كلِّ من يعمل، بكدّ وتفانٍ وحبّ، على الخلاص من سارقي أحلام شعبنا في الحياة الكريمة الحرّة”.
سوريا لا تحيا بالممانعة
كان الهم الدائم والمستمر لسماح إدريس “الهوية العربية”، فحرص على الإعلان دوماً عن انتمائه إلى العروبة والعلمانية والالتزام الشامل بالقضية الفلسطينية. مقولته الثابتة: “كيف لنا أن نسيقظ ولا تكون وجهتنا فلسطين”، و”إذا تخلّينا عن فلسطين تخلّينا عن أنفسِنا”. كان من أبرز الناشطين البارزين في “حملة مقاطعة داعمي إسرائيل” في لبنان. كان أيضاً صادقاً وواضحاً في التزامه اليساري. وسواء اتفقت معه أو اختلفت يبقى له حق احترام قضاياه التي ما حاد عنها، ولا بدل فيها كما الكُثر من “مناضلي اليوم” الذين تنطبع نضالاتهم بالوظيفة لا بالدور والقيّم.
إقرأ أيضاً: روميو لحّود.. الفرح في زمن الحرب
أكثر ما أصاب سماح إدريس من سهام النقد، كان بسبب مواقفه من سوريا والثورة التي تعسكرت. في البدء انتصر للنظام على أساس أن الهم هو “محاربة إسرائيل”. ثم كتب نقداً شديدًا لهذا النظام على خلفية اعتقال بعض المثقفين والكتّاب السوريين قائلاً: “ليس بالممانعة وحدها تحيا سوريا”. ثمة من قال إن هناك التباساً في العلاقة بين إدريس والمثقفين السوريين، بحجة أن الصورة الحقيقية للثورة لم تصل إلى إدريس، بزعم أحد المدونين. في المقابل ثمة مقالات شنيعة تشتم دار الآداب لمجرد أنّها نشرت كتاباَ للروائية سمر يزبك المحسوبة على الثورة.
لم يترك سماح إدريس كبيرة أو صغيرة في عالم الثقافة والسياسة والشعر إلا وتناولها نقداً وبحثاً. لكنه ومع “الآداب” بقي حارساً لفلسطين واللغة والرواية.