بدا صادقاً جبران باسيل في كلامه الباريسي، حين نطق بتلك العبارة: “أكثر الأمور صعوبة أن تقبل بما لست مقتنعاً به”.
تنطبق هذه العبارة على ذلك المثلّث من العلاقة الملتبسة المأزومة والمأزقيّة بين الماضي والحاضر، بين المعلن والمضمر، بين سليمان فرنجية وجبران باسيل وحسن نصرالله.
نبدأ من فرنجيّة
فرنجيه بدايةً مشروعٌ له ومنطقيٌّ أن يفكّر ويقول التالي:
“ها قد أمضيت نيّفاً وثلاثين سنة في هذا الخط. ليست مصادفة ولا تفصيلاً أنّ أوّل إطلالة لي على الشأن العامّ، كانت لمّا انتفضت على عمّي روبير، في 20 آب 1990، لصالح سوريا الأسد. ولمجرّد أنّه قيل حينها إنّ عمّي كان قد تناغم أو تقرّب من رئيس الحكومة العسكرية يومها ميشال عون، وماشاه في مغامرة إقفال المرافئ غير الشرعية. يومها كان عون يعلن أنّه يريد تكسير رأس حافظ الأسد. وظلّ السيّد حسن بعدها يؤكّد لنا طويلاً أنّ عون حالة إسرائيلية صداميّة تدميرية.
ليس السيّد مؤسّس شركة تعهّدات رئاسية. ولا مدير مؤسّسة حملات انتخابية. هو رأس مشروع كبير. أكبر من كلّ الأشخاص والأسماء. وربّما أكبر من البلد
تلك كانت خطوتي الأولى.
بينما أوّل إطلالة لجبران باسيل على الشأن العام، كانت حين وقف في مهرجان 7 آب 2002، في أنطلياس، يقرأ برقيّة السيناتور الأميركي إليوت أنغل، عرّاب قانون محاسبة سوريا، الذي كان يسمّي حزب الله إرهابياً والأسد مجرماً.
ومرّت الأيام… اثنتان وثلاثون سنة على وقفتي تلك. وعشرون سنة على وقفة جبران هذه. حتى صار معنا في خط واحد. وانتصر خطّنا المشترك. انتصر من بيروت إلى الشام. فجأة بعد انتصاره وانتصارنا، صرت أنا مضطرّاً إلى حيازة موافقة جبران باسيل لآخذ حقّي؟؟”.
وطبيعي أكثر أن يستعرض فرنجية مساره في العقدين الأخيرين:
– سنة 2004، كان هو المرشّح الطبيعي لرئاسة الجمهورية. لكنّهم تركوه وحده. لم يزكِّه أيٌّ منهم لدى بشار الأسد. حتى عندما ذهب إيلي الفرزلي للقاء الرئيس السوري، وعرض عليه مطالعته بأن “عيِّن لنا أيّ رئيس، إلا التمديد لإميل لحود. لماذا لا تجرّب فرنجية؟”، أجابه الأسد، كما روى الفرزلي في مذكّراته: “ليس وقت تجارب الآن…”.
– سنة 2005، تركه حلفاؤه وحده مجدّداً. وذهبوا ليعقدوا “التحالف الرباعي” مع أعدائهم وخصومه. حتى سقط في نيابة زغرتا معقله ومسقط رأسه. اكتفوا بزيارة شرح للظروف وتفسير لموجبات الخطوة القومية الكبرى.
– سنة 2015 جاء إليه سعد الحريري طوعاً بكامل إرادته ووعيه القانونيَّين والسياسيَّين. قال له: أنت رئيس للجمهورية. فقالوا له: “لا. عون هو الرئيس”. وقَبِل والتزم. حتى إنّه لم ينزل إلى المجلس ليؤمّن نصاب انتخابه شبه المضمون.
في كلّ تلك المراحل سكت سليمان فرنجية. لا بل استمرّ يخوض معارك “الخطّ” كلّها:
– يوم كان المطلوب مواجهة الحريري والسعودية، وحده قال لابن الشهيد: “أنا شربان من ميّة إهدن. مش ميّ محلّاية متلك”.
– لمّا كان المطلوب مواجهة بكركي، نقلت عنه جريدة الأخبار جزمه: “أنا بطركي الرئيس الأسد”.
– حين توهّج انتصار تموز 2006 وبدا أنّ التغيير الشامل ممكن، كان أوّل من قال: “آن الأوان لتغيير الطائف”.
– وصولاً إلى حرب سوريا. وحتى مستنقع اليمن، حين لم يتردّد في القطع بأنّه “مع السيّد نصرالله في موقفه من الحرب السعودية على اليمن أيّاً يكن”.
– اجتاز صحراء عهد عون – باسيل ستّة أعوام. حتى بلغ هذا التشرين. فإذا به مضطرّ إلى توسّل إيماءة باسيل!
أيّ ظلم أكبر من هكذا علاقة؟!
ماذا عن جبران باسيل؟
في الضلع الثاني من مثلّث التراجيديا، ليس إحساس باسيل بالظلم الواقع عليه أقلّ. فبمعزل عن اتّهامه بتورّم “الإيغو” المزعوم لديه، أو التنظير زوراً لوضعه الحرج جدّاً بعد خروجه من بعبدا، وبعيداً عن تلهّف خصومه كيداً لمعاينة مستقبله المفتوح على كلّ الخناجر التي يزعمون أنّه زرعها، وها قد لاح موسم حصادهم… طبيعي جدّاً أن يتدافع في رأس جبران تفكيرٌ كالتالي:
“يا سيّد حسن، هل من لزوم للإعلان أو التذكير بأنّني أنا من جاء بميشال عون إليك؟! كان عائداً لتوّه من عند إليوت أبرامز في خريف 2005، يوم أقنعته. أنا وحدي. راجع وثائق ويكيليكس. تخبرك كيف أنّ رفاقي كلّهم، نوّاباً ووزراء، كانوا قد عبّدوا مسالك عوكر للتحريض على التفاهم. أو التبرّؤ منه والتنصّل في أدنى الوشايات. أنا وحدي من صنع التفاهم معك.
أخذت ميشال عون إلى الضاحية. ميشال عون صاحب أوّل تسمية وتوقيع باسم القوات اللبنانية إبّان معركة تل الزعتر. يوم كان اسمه الحركي “رعد”. ميشال عون عين الرمّانة وسوق الغرب وحرب التحرير… ميشال عون “قانون تحرير لبنان” و”قانون محاسبة سوريا” والشهادة أمام الكونغرس الأميركي في أيلول 2003 والقرار 1559… أنا أخذته إليك يا سيّد.
وأنا من وقف معه في خوض كلّ معاركك. في حرب تموز صارت المسيّرة الإسرائيلية نجماً ثابتاً في سماء الرابية. وبمواجهة المحكمة الدولية صار ضدّ الشرعية الدولية كلّها لأجلك.
يوم قتل الضابط سامر حنّا، قال للناس: “شو رايح يعمل ضابط من الجيش اللبناني بالجنوب؟”، دفاعاً عنك. وحين نبشوا تاريخ الرهائن الأجانب في بيروت الثمانينيات، خرج مدافعاً: “ومن قال لكم إنّ هؤلاء كانوا سيّاحاً؟!”. ولمّا ذهبتم قبل عشرة أعوام للقتال في سوريا، قال لناسه: هذه مقاومة استباقية مشروعة. “واسألوني الثلاثاء المقبل إذا لم تكن قد انتهت الحرب”.
جاء إليك عون ومعه 70 في المئة من المسيحيين. وراح يخسرهم تدريجياً بسبب تموضعه هذا. حتى انتهينا في الانتخابات الأخيرة قبل شهور بأقلّ من 20 في المئة ممّن اقترعوا. أو ممّن بقي في لبنان من شعبنا العظيم. كلّ ذلك كرمى للتفاهم معك يا سيّد.
وعلى دروب تلك الجلجلة الطويلة، تعرّضت أنا لاغتيال سياسي يوميّ. بل لحظيّ. من كلّ الناس. من بيتي أوّلاً ومن كلّ بيت في لبنان. وصولاً إلى اغتيال أميركي قانونيّ. بحجج وذرائع مغشوشة، مثل فيول سوناطراك.
وبعد كلّ هذا العذاب، يُطلب منّي أن أرمي خلفي كلّ شيء وأن أذهب لأنتخب سليمان فرنجية رئيساً؟!
ماذا أقول للناس؟ ماذا أقول لناسنا وناسي؟ إنّني قرّرت الانقلاب على نتائج الانتخابات التي لم يجفّ زيفها بعد، وتزكية من فاز بمقعد نيابيّ صافٍ واحد، على حساب المقاعد العشرين غير الصافية؟ أو إنّني اكتشفت أنّ نظرية الرئيس الأقوى في بيئته كانت خطأ؟! أو إنّني أقرّ وأعترف بأنّ السيّد هو من نصّب ميشال عون رئيساً قبل ستّة أعوام، وعليّ الآن احترام “موازاة الصيغ” والرضوخ للقاعدة نفسها، والإذعان لاختياره الرئيس المقبل، من نفس الموقع والقدرة الكليّة التي ساهمت في منحها له؟!
ماذا سيقول الناس عنّي وعنّا؟! إنّ دولة عائمة اشترتنا بالجملة؟! أو إنّ مليارديراً ما خارج لبنان، مليء الجيب خاوي الرؤية، اشترانا بالمفرّق؟! أو إنّني تحوّلت مجرّد مأمور في تركيبة نسجتها بيدي، أو منسّق سرايا المقاومة فرع البترون؟!
ظلم كبير أن أقبل بكلّ هذا. والظلم الأكبر أن يمشي المرء بما ليس مقتنعاً به.
تراجيديا نصرالله
يبقى الوضع التراجيدي الثالث عند السيّد حسن نصرالله. يعرف هو كلّ ما سبق. لكن ما العمل؟
لا شكّ أنّه يبتسم بعينيه الاثنتين لِمن هما بمنزلة عينيه الاثنتين. حرصاً وودّاً.
بدا صادقاً جبران باسيل في كلامه الباريسي، حين نطق بتلك العبارة: “أكثر الأمور صعوبة أن تقبل بما لست مقتنعاً به”
لكن في النهاية، أو هي منذ البداية، ليس السيّد مؤسّس شركة تعهّدات رئاسية. ولا مدير مؤسّسة حملات انتخابية. هو رأس مشروع كبير. أكبر من كلّ الأشخاص والأسماء. وربّما أكبر من البلد. وهو وكلّ مَن معه في خدمة المشروع. ولا أحد يكون المشروع في خدمته.
وعلى فرنجية وباسيل إدراك ذلك، أكثر من سواهما وقبل غيرهما. وعليهما أن يتبصّرا في أوضاع هذا المشروع الكبير اليوم. من قلب طهران إلى قلوب غالبية اللبنانيين الكاظمين “حبّهم”. في المنطقة غليان كثير وكبير. ولا شيء يطمئن. والمشروع نفسه بات شبه محاصر اليوم في لبنان. الشارع السنّيّ معروف التوجّه. البيئة الدرزيّة أكثر. حتى داخل الشارع الشيعي بدأت ظواهر غريبة. إن لم تكن غربيّة. ها هما حسين قاووق ومحمد الدايخ مثلاً. ليسا مجرّد اسمين. هما رمزان لحالة شيعية تدّعي أنّها معنا في المقاومة. لكنّها ضدّنا في “المشروع”.
التغييريّون صاروا أكبر كتلة اقتراعية. وهم خطر علينا جميعاً. ها هو جمرهم تحت رمادكما الضحل. على الرغم من كلّ ما فعلناه من تهويل وتخوين وتعميل (عمالة) وتسفير (سفارات)، نجونا منهم في الانتخابات الأخيرة، بأن تفرّقوا، أو أوصلوا من ليس مؤهّلاً لتجسيد آمال ناسهم. لكن ماذا لو أفادوا من هذا التعثّر بعد أربع سنين وتعلّموا من أخطائهم واتّعظوا وأوصلوا ثوّاراً أكثر وأقدر؟!
إقرأ أيضاً: كلّهم كانوا ضدّه… وخطران اليوم عليه
في ظلّ هذا المشهد المأزوم برمّته، تريدان منّي أن أقسّم ما لديّ وأن أبعثر ما تبقّى لكما ولنا في بيئتكما؟
رجاءً أوقفا هذه المهزلة. ولنهدأ كلّنا. ولننتظر. ثمّة مآزق يحلّها الوقت. لنأمل أن يكون هذا المأزق واحداً منها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: JeanAziz1@