مع نهاية ولاية الرئيس ميشال عون، طوى لبنان صفحة سوداء من تاريخه المعاصر لعهد كانت سنواته الستّ انقلاباً مستمرّاً على الدولة والدستور والطائف. بيد أنّ الانقلاب لم يبدأ بانتخاب عون رئيسًا في 31 تشرين الأول 2016، بل قبل ذلك بكثير.
انقلابيّ عتيق
فالجنرال المارونيّ الذي وُلد في حارة حريك لأسرة على الخطّ الفاصل بين الطبقة الوسطى والفقر، هو انقلابيّ بطبعه مذ كان صغيراً. تحدث مرّة عن حرمانه أيّام الدراسة من منحة كان يستحقّها أعطاها “السلطان” سليم، شقيق الرئيس بشارة الخوري، لأحد أزلامه. فحفرت هذه الحادثة عميقاً في نفسه، ربّما كانت وأمثالها من العوامل الرئيسية في كراهيته الطاغية للسياسيّين على اختلاف فئاتهم.
تصدّر اسمه أبرز الأحداث المثيرة للجدل: من الصدامات الأولى مع الفدائيّين الفلسطينيّين بعد اتّفاق القاهرة عام 1969، إلى معركة خلدة واقتلاع مخيّم الضبيّة إبّان الحملة العسكرية التي شنّها الجيش عام 1973 على المخيّمات وتنظيماتها بهدف إخضاعها، والتي توقّفت بقرار عربي، وصولاً الى القوّة العسكرية التي وُجّهت إليها أصابع الاتّهام في اغتيال النائب معروف سعد عام 1975. بعد ذلك ظهر النَفَس الانقلابيّ لدى عون في تحريضه زملائه الضبّاط على الانقلاب. طار الخبر إلى رئيس الجمهورية سليمان فرنجية، فأمر بلجنة تحقيق مع الضابط خلُصت إلى أنّه يطرح أفكاراً غير مقرونة بأفعال، أي كلام بكلام.
أراد تقديم نفسه المخلّص الذي يبحثون عنه، واعتبر أنّه هو القضية وأنّها تجلّت فيه وحده
كان عون أحد مخطّطي عملية اقتلاع نخيم “تل الزعتر” المأساوية وضابط أركان حربها. وجد في بشير الجميّل ضالّته لتحقيق أهدافه الانقلابية، فتقرّب منه منذ سنوات الحرب الأولى عن طريق صديقه أنطوان نجم منظّر العقيدة القواتية، لكنّه آثر الحفاظ على سرّية علاقته بزعيم القوّات متستّراً باسم “جبرايل”. وثِقَ به الجميّل وكلّفه مع صديقه نجم إعداد دراسة للاستيلاء على الحكم (نضع خطّاً تحت الاستيلاء)، فصاغا تقريراً خلُص إلى طريقين لا ثالث لهما، أحدهما القيام بانقلاب مكتمل الأركان.
اعتمد عون على بشير للحصول على قيادة موقع جبل لبنان، وكان يعدّ نفسه للوصول إلى رأس الهرم العسكري بدعم منه أيضاً. لكنّ اغتياله أجّل الموضوع، إلى أنْ تكفّل به الرئيس أمين الجميّل، من دون اعتراض من أفرقاء الصراع المحلّي، وبمباركة السوريين، بل حتّى تمّ تعديل سنّ القائد لذلك. كانت كلمة السرّ لدى الأميركيّين الذين ارتبط بهم بعلاقات وثيقة فدعموه وأحاطوه بفريق من المستشارين أقام في ربوع اليرزة في أروقة القيادة للمساعدة اللوجستية والمشورة العسكرية.
أثار التعيين وسلاسته قلق القوّاتيّين، فطمأنهم عن طريق صديقه القديم أنطوان نجم قائلاً: “أنا أحارب القوّات؟! أنا أوجّه بندقيّتي إلى صدر مسيحي؟!”،. لكنّه فعلها وانقلب على كلامه كعادته. لم تكن قيادة الجيش بالنسبة إليه سوى خطوة على درب الحلم. لذلك قام بتركيب الألوية والوحدات بما يناسب أهواءه، محوّلاً ولاء الجيش لشخصه، متحيّناً اللحظة المناسبة للانقضاض على الرئاسة التي بدأت تلوّح له من بعيد.
الفشل بتقليد بشير الجميل
أصدر بياناً يرفض فيه اتّفاق مورفي – الأسد الذي قام على أساس “إمّا الضاهر وإمّا الفوضى”، فقاد حركة انقلابية على القيادة السياسية على قاعدة “إمّا أنا وإمّا الفوضى”. وعده السوريّون بأنْ يكون رجل عهد سليمان فرنجية الأوّل، إذا ساعد في انعقاد جلسة انتخابه سنة 1988 (بما يذكّركم هذا الوعد؟). لكنّه فضّل تلبية طلب الأميركيّين عرقلة الجلسة، منقلباً على مبادئه التي كان يلهج بها، وذلك بأنْ تعاون مع ميليشيا القوّات وسمح لها بإقامة حاجز قرب المتحف لعرقلة وصول النوّاب، فطارت الجلسة.
هدّد الجميّل بتنفيذ انقلاب عليه إذا استبعده من الحكومة الانتقالية التي كان يعدّ لها في نهاية عهده الرئاسي. فكلّفه الأخير في آخر لحظات ولايته برئاسة حكومة عسكرية، رامياً القوّات والجيش بسهم واحد. وكان عون قد خطّط سلفاً لهذه الخطوة، ومهّد لها باتّفاق أبرمه مع الضبّاط المسلمين، لكنّ استقالاتهم السريعة فاجأته وأثارت غضبه، إلّا أنّه استمرّ في طريق حلمه.
بدأ بعقد المؤتمرات الصحافية لعرض مشروعه للحكم في انقلاب على المهمّة التي جيء به من أجلها. وهي محصورة بتأمين انتخاب رئيس جديد للجمهورية المتداعية. كان مولعاً بالإعلام ومهجوساً بصورته فيه، لذلك ضمّ وزارة الإعلام إلى خزانة حقائبه. ومن الحكايات التي تشي بمدى تعلّقه بكرسي الرئاسة أنّه أدخل أحد العمداء من أصدقائه إلى غرفة نومه في القصر الجمهوري لإطلاعه على البدلة التي سيرتديها يوم تنصيبه.
استغلّ بذكاء تبرّم المسيحيّين من الانحرافات الميليشياوية، واشمئزازهم من صراعاتها التي باتت تشكّل عبئاً ثقيلاً على حياتهم اليوميّة، وقام بتوظيف ذلك في مشروعه السلطويّ، مستعيراً تجربة الرئيس بشير الجميّل في استنهاض المجتمع المسيحي، لكنْ عبر الجيش كرمز للشرعية.
أراد تقديم نفسه المخلّص الذي يبحثون عنه، واعتبر أنّه هو القضية وأنّها تجلّت فيه وحده. وعلى طريقة بشير أعلن الحرب على حافظ الأسد، وسعى إلى توحيد البندقية المسيحية في حرب الإلغاء فما جنى إلّا خُسراناً. دعاه العاهل السعودي الملك فهد إلى لقائه في الطائف كي يجعل منه عرّاب الميثاق فأبى. واعتصم بقصر بعبدا وأقفل أبواب الحلّ ما خلا الاعتراف به رئيساً.
عطّل البلد مرّتين لانتخابه رئيساً وفق الدستور الذي عارضه. ناصر الميليشيات على حساب الدولة في “7 أيّار” وغيرها
انقلابات العودة
لم ييأس من حلمه بعد نفيه، واستمرّ في البحث عن الصفقات والانقلابات. من منفاه الفرنسي بدأ اتّصالاته السرّيّة مع السوريين مطلع الألفية الثالثة عقب تنصيب بشّار الأسد وريثاً لأبيه. وكان النظام السوري وأزلامه في لبنان يرومون إعادة الجنرال الانقلابي لتقويض زعامة رفيق الحريري التي كانت تشكّل كابوساً لهم. حتّى اعتقالات 7 آب 2001 الشهيرة، ثمّة شهادة عونية تشير إلى أنّها تمّت بالاتّفاق معه لنفخ شعبيّته عند المسيحيّين، وتمهيد الأرضيّة لعودته. وقد اعترف عون في آذار 2008، في لحظة غضب أمام بعض الكوادر المؤسِّسة لتيّاره، أنّ عودته لا فضل لهم فيها، وأنّها لم تكن ثمرة نضالاتهم.
عطّل البلد مرّتين لانتخابه رئيساً وفق الدستور الذي عارضه. ناصر الميليشيات على حساب الدولة في “7 أيّار” وغيرها، بعدما كان يستخدم مجلّة الجيش في سنوات قيادته له لشنّ هجوم على الثنائية الميليشياوية، حزب الله والقوّات اللبنانية، ويشدّد أمام ضبّاطه أنّها سبب خراب لبنان، فقبض الثمن رئاسة وصل إليها بـ”بندقية المقاومة” واتّفاق “أوعا خيّك” مع القوات، وموافقة سعد الحريري.
لا ينبع كرهه الشديد لاتّفاق الطائف، الذي عمل على اغتياله بكلّ ما لديه من قوّة وحيلة، من كونه شذّب صلاحيّات رئيس الجمهورية فحسب، بل لأنّه حرمه من حلمه بأنْ يكون رئيساً سلطاناً. يشهد بذلك تشبيه نفسه بالعظماء مثل الأمير فخر الدين تارّة، وشارل ديغول. وأيضاً بضربه المتكرّر على طاولة اجتماعات مجلس الوزراء وقوله إنّه هو من يحدّد مصلحة لبنان، وإنّه هو الآمر الناهي بكلّ شيء، وليس لأحد أنْ ينازعه في سلطانه، سواء كان وزيراً أم رئيس وزراء أم رئيس مجلس نوّاب.
من البنود التي سعى إلى تعديلها في اتفاق الطائف منذ إقراره، صلاحيّة رئيس الجمهورية حلّ البرلمان عندما يخرج عن طاعته. كان هذا حلمه الدائم. ولكُم أنْ تتخيّلوا كم مرّة كان سيُقدم على حلّ البرلمان لو بقيت هذه الصلاحيّة في جيب الرئيس. وبالتأكيد كان سيفعل ذلك في اللحظات الأخيرة لولايته، ويُرفقه بقرار آخر يعيّن فيه وريثه السياسي على رأس حكومة انتقالية، مستنسخاً تجربته. وهذا واحد من التحصينات الكثيرة التي نصّ عليها الطائف لحماية الدولة من نزق ونرجسية البعض. لكنْ في النهاية رحل عون وبقي الطائف، وهذا هو المهمّ.
إقرأ أيضاً: ميشال سليمان: جامع مجد المعادلتين.. “الخشبيّة” و”الذهبيّة”
* ملاحظة: المعلومات الواردة في النصّ مأخوذة من الكتب التالية:
1 – “أقنعة المخلّص”، محمّد أبي سمرا ووضّاح شرارة.
2 – “لعنة القصر”، غسّان شربل.
3 – “حرب لبنان”، الجزء الأول، آلان مينارغ.
4 – “ميشال عون حلم أم وهم”، سركيس نعّوم.
5 – “من ميشال عفلق إلى ميشال عون.. تجارب في علاقة مستحيلة”، فايز القزّي.