التسوية الرئاسيّة على وقع الاقتراع  الإيراني بالأقدام..

مدة القراءة 5 د

تخوض الوصاية الإيرانية على لبنان عبر حزب الله تجربتها الثانية في فرض رئيس جديد للجمهورية على اللبنانيين، في محاولة لاستنساخ تجربة انتخاب العماد ميشال عون.

الحزب الذي تفرّد دون سواه على لسان أمينه العام بالتعبير عن اطمئنانه للرجل ولطريقة حكمه، معتبراً أنّه لم يطعن المقاومة في الظهر، يدرك أنّ عون طعن لبنان واللبنانيين في الصميم مع كلّ إشراقة شمس على امتداد عهده، من دون أن يأبه بتكرار التجربة.

إنّ انتخاب العماد عون في حينه، الذي يحلو لحزب الله توصيفه أنّه أتى نتيجة تسوية بين الفرقاء السياسيين، لم يكن في الحقيقة سوى نتاج لتوهّم بعض قادة القوى السياسية، دون جماهيرهم ومحازبيهم، أنّ الطبيعة السلطويّة لعون ونرجسيّته ستحولان دون المساومة على السيادة الوطنية وتطبيق القانون، وأنّ الشقاق مع الحزب سيقع لا محالة. خاب رهان المراهنين ونُسب ما حصل في لبنان إلى عدم التزام عون بالاتّفاقات التي بُنيَت عليها التسوية، لا إلى الخطيئة التي ارتُكبت في إعطاء الفرصة لمن اختُبر سابقاً في أكثر من موقف.

في عام 2016 عبّر حزب الله عن ميزان القوى القائم في حينه متوجّهاً إلى جميع الأحزاب والقوى السياسية، من دون مراعاة أيٍّ منهم، بالإعلان أنّ هناك مرشّحاً وحيداً اسمه ميشال عون

يُستعاد اليوم البحث عن تسوية مماثلة على الرغم من الاختلاف في الظروف المحلّية، وقبلها الإقليمية والدولية، التي ساهمت في تمرير التسوية/الكارثة في عام 2016، ويُستهلك الوقت الضائع في تعطيل جلسة انتخاب الرئيس باجتهادات دستورية تتناقض بالدرجة الأولى مع مهمّة أيّ دستور في العالم، وهي إنتاج السلطة، وتتعارض مع القيَم الأخلاقية والمسؤولية الوطنية التي يجب أن يتحلّى بها أيّ مواطن قبل أن يحظى بوكالةٍ لتمثيل الشعب اللبناني.

في عام 2016 عبّر حزب الله عن ميزان القوى القائم في حينه متوجّهاً إلى جميع الأحزاب والقوى السياسية، من دون مراعاة أيٍّ منهم، بالإعلان أنّ هناك مرشّحاً وحيداً اسمه ميشال عون، إذا شئتم أن يكون للبنان رئيس، فإمّا ميشال عون أو الفراغ.

في حينه كانت إيران شريكاً مع مجموعة “5+1” في الاتّفاق النووي الذي اعتبرته الدول الغربية إنجازاً يجب الحفاظ عليه، على الرغم من أنشطة الأذرع الإيرانية وتهديدها للاستقرار في دول المنطقة. وفي حينه أيضاً لم يكن الاتّفاق الإبراهيمي قد أبصر النور (بتوقيعه في 13 آب 2020 أصبحت الإمارات ثالث دولة بعد مصر والأردن توقّع اتّفاق سلام مع إسرائيل)، ولم تكن الحرب في أوكرانيا قد انطلقت وأضحى معها التزوّد بالطاقة هاجساً تعيشه أوروبا برمّتها.

سقوط الاتّفاق النووي

يعبّر عن ميزان القوى الجديد اليوم انسحابُ الولايات المتّحدة من الاتّفاق النووي، وتعذّر إحيائه من قبل المجموعة الأوروبية على الرغم من المحاولات الإيرانية المتكرّرة، ويعبّر عنه نجاح المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات في التموضع الدقيق على تقاطعات المصالح الدولية ووضع قدراتهما في خدمة المصالح الوطنية، وهو ما ألزم القوى الغربية بإعادة النظر في سياساتها حيال مسائل الاستقرار الإقليمي والتعامل معها كجزءٍ من الأمن العالمي.

يصعب على حزب الله التأقلم مع الواقع الجديد، ويبدو أنّ خيار المراوحة والرهان على الوقت لن يؤدّي إلى تعديل في ميزان القوى ولن يعيد للجمهورية الإسلامية المترنّحة في سوريا والعراق والبحر الأحمر جبروتها

دخل على الخط عامل جديد، يمكن تلمّس خطورته من خلال تصريح رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين خلال الأسبوع المنصرم: “لقد استغرق الأمر وقتاً طويلاً لمعرفة حقيقة بسيطة للغاية، وهي أنّه بينما نعمل على منع إيران من تطوير أسلحة نووية، يجب علينا أيضاً التركيز على أشكال أخرى لانتشار الأسلحة، من الطائرات دون طيّار إلى الصواريخ الباليستية. إنّه خطر أمني ليس فقط على الشرق الأوسط، لكن علينا جميعاً”.

فلنذهب إلى تصريحات الجنرال مايكل كوريلا، قائد القيادة المركزية الأميركية، الذي أعلن التزام بلاده الشراكة في الاستقرار مع السعودية لمواجهة الخطر الإيراني في منطقة الخليج العربي والممرّات البحرية.

يعبّر هذان الموقفان عن توبة أوروبية وأميركية حيال ما يتعلّق بالاستقرار الإقليمي وعودة عن كلّ ما اتُّخذ من مواقف وإجراءات في السابق.

“أصوات” الإيرانيّين في لبنان

يلقي اليوم ميزان القوى الجديد بثقله على طهران ويترجَم في لبنان بامتناع حزب الله عن تسمية مرشّحه لرئاسة الجمهورية ليقينه الأكيد باستحالة تحويل مرشّحه إلى “مرشّح تسوية” يُفرض على من شاء وعلى من أبى.

يصعب على حزب الله التأقلم مع الواقع الجديد، ويبدو أنّ خيار المراوحة والرهان على الوقت لن يؤدّي إلى تعديل في ميزان القوى ولن يعيد للجمهورية الإسلامية المترنّحة في سوريا والعراق والبحر الأحمر جبروتها.

إقرأ أيضاً: “الخارج” للمرّة الأولى: دبّروا رئيسكم بأنفسكم

تعلم طهران جيّداً أنّ النجاح في التوصّل إلى مرشّح تسوية يستلزم النجاح في تقديم تسوية للإقليم بكلّ تعقيداته ومستجدّاته لا يقتصر استجماع عناصرها على خيارات محلّية. وتعرف أنّ نجاعة التموضع الوطني والإقليمي المرتجى للبنان، وأوّل مظاهره انتخاب رئيس حقيقي للبنان، لا يمكن التعبير عنها بتوليفة على مقاس طموحات محلية، ولا سيّما بعد نجاح الحشود المتجمهرة في المدن الإيرانية في إظهار افتقاد النظام للشرعية وبعدما أثبتت هذه الجماهير أنّ التصويت “بالأقدام” التي يتردّد صداها في مدن الإقليم والعالم هو أصدق من التصويت في صناديق الاقتراع.

* مدير المنتدى الإقليمي للإستشارات والدراسات

مواضيع ذات صلة

إيران “تصدّر” أوهامها إلى الحزب..

ما يدعو إلى القلق والخوف على لبنان قول نعيم قاسم الأمين العامّ الجديد لـ”الحزب” في خطابه الأخير إنّ “خسارة طريق الإمداد عبر سوريا مجرّد تفصيل”….

“العقبة” تكشف عقبات المشهد السّوريّ

يليق بمدينة العقبة الأردنية الواقعة على ساحل البحر الأحمر والمشهود لها بخصوصيّاتها في استضافة وتنظيم العشرات من المؤتمرات الإقليمية والدولية ذات الطابع السياسي والأمنيّ والاقتصادي،…

سرديّة جديدة: سلاح “الحزب” للحماية من مخالفات السّير؟

.. “عفكرة توقيف سحر غدار هو عيّنة كتير صغيرة، شو رح يصير فينا كشيعة إذا سلّمنا سلاحنا. طول ما سلاحك معك هو الوحيد يلّي بيحميك….

نخبة إسرائيل: خطاب نعيم قاسم “خالٍ من الاستراتيجية”

منذ تعيينه أميناً عامّاً لـ”الحزب” بعد اغتيال سلفه نصرالله، وخليفته السيّد هاشم صفيّ الدين، سيطر الإرباك على خطب الشيخ نعيم قاسم، فتارة حاول تبرير حرب…