هل كان بشير الجميّل استثناءً بالنسبة إلى لبنان وأهله؟ وهل كان على شَبَه ما بلبنان؟ لكنّه أليس أيضاً من قماشة نادرة في السياسة اللبنانية؟
صعد من قيادة الميليشيا إلى رئاسة الجمهورية صعوداً صاروخياً أو ناريّاً، فألهب مشاعر المسيحيين “الخلاصيّة” في أحلك أوقاتهم. كان يحمل حلماً كبيراً للمسيحيين، فقتله حلمه شابّاً. قد لا تتعلّق المسألة بمضمون حلمه أو وجهته. فمن يحملون أحلاماً خلاصيّة، مهما كان نوعها، غالباً ما يُقتلون في الأساطير البطولية القديمة وفي الوقائع المعاصرة.
بصرف النظر عن تداعياته المباشرة أمنيّاً وأهليّاً، شكّل اغتيال بشير الجميّل مفصلاً أساسيّاً في تاريخ المسيحيين ولبنان. ثمّة الكثير ممّا يُقال عن خيارات الجميّل غير الصائبة والموتورة. وثمّة كثيرون يأخذون عليه جموحاً لم يكن مناسباً للبنان. لكنّ الجميّل الابن هو ابن لبنان الحرب وليس ابن لبنان التوازن والتسويات. وما لا نستطيع لومه عليه أنّه كان يحلم ببلد مستقلّ ومزدهر، ركيزته المسيحيون. وعلى أيّ حال لقد قضى بشير الجميّل ضحيّة أحلامه.
لذا ربّما من الأنسب في هذه المناسبة أن نلقي نظرة على الأخطار التي تحفّ بالكيلومترات الـ10,452 كلم مربّعة التي كانت شعار بشير الدائم، فنقول: لعلّ وعسى تتحسّن أحوال هذه الكيلومترات. ولربّما مثل بشير الجميّل آخر تداعيات الحلم اللبناني المسيحي الموروث من عهد الاستقلال. مثّله في لحظة حروب أهليّة مئة في المئة وخارجيّة مئة في المئة في الوقت نفسه.
بشير الجميّل أفرزته الحرب وأنهته في آن معاً. لكنّ تجربته بقيت أكثر أسطورية من تجربة شمعون
ورثة مركب وسط إعصار
والحقّ أنّ ورثة الحروب الأهليّة سلّموا أسلحتها. لكنّهم حتى اليوم لم يسلّموا أسلحة الحروب الخارجية. لكنّ الحروب الأهليّة الداخلية كانت دائماً خارجية أيضاً. ومعنى الحروب الخارجية أنّ البلد الصغير حكمت عليه الجغرافيا والتاريخ أن يجاور دولة كبرى تسلّطيّة الحكم والمطامع الخارجية، ودولة أخرى احتلاليّة قويّة ومدعومة عالميّاً. لذا استمرّ لبنان عرضةً للرياح الخارجية تهبّ عليه من كلّ حدب وصوب، واستمرّ مهتزّاً مرتعشاً كما لو أنّه قارب وسط إعصار. وهكذا كانت سيرة بشير الجميّل ومسيرته.
ما زالت الحروب الخارجية تهدّد البلد في مستقبله وسلمه وأمنه واستقراره على تسوية ممكنة. وما زال اللبنانيون يختمون جروح حرب لتبدأ أخرى. فها حزب عسكري – أمنيّ يستمدّ جبروته كلّه من الخارج. كان ثمّة خيارات أمام من مثّلهم بشير الجميّل ومن يمثّلهم: إمّا نقل البندقية من كتف إلى كتف، وإمّا الخروج من منطق البندقية الأهليّة إلى الأبد. اختار بعضهم الخيار الثاني. وقد يكون هذا نصّاً مُستعاداً. وواقع الأمر أنّ ثمّة بين الذين يدّعون وراثته مَن نقل البندقية من شعار إلى آخر، وثمّة مَن اختار إنهاء الدور الماروني.
ابن النقائض والمفارقات
يحار المواطن اللبناني المولود والناشئ في خضمّ الحروب اللبنانية المتمادية، من أيّ وجهة يقارب ظاهرة بشير الجميّل الشخص والقائد والرئيس وصاحب المقولة الشهيرة “نحن قدّيسو هذا الشرق وشياطينه”. بشير الجميّل خلال مسيرته السياسية مثّل قطبَيْ النقيض في كلّ المسائل: قائد ميليشيا ورجل دولة لأيام معدودة، في بلد مشرّع على احتمالات مفاجئة وعاصفة. بهذا المعنى يشبه بشير الجميّل لبنان على وجوه كثيرة.
حين أراد صهر العهد العوني النائب جبران باسيل إلقاء خطاب شعبوي، قال لمسيحيّين في أستراليا: “سأُنسيكم كميل شمعون وبشير الجميّل”. كان يريد إيقاظ ذاكرة مسيحية أهلية ما لبثت تتكرّر. ما رامهُ باسيل من هذا اللقاء هو شيء من الشعبوية في مديح نفسه واعتبار أنّه نابغة زمانه في السياسة وحقوق المسيحيين، معتمداً على الرئيسين الأكثر تأثيراً في المجتمع المسيحي.
بشير الجميّل أفرزته الحرب وأنهته في آن معاً. لكنّ تجربته بقيت أكثر أسطورية من تجربة شمعون. وإذا تأمّلنا المشهد السياسي المسيحي اليوم، نرى أنّه وليد إفرازات “أطول انقلاب سياسي (قاده بشير) في تاريخ لبنان”، حسب تعبير السياسي والمحامي المتقلّب كريم بقرادوني. سمير جعجع الذي يقود “القوات اللبنانية” اليوم يعتبر نفسه وريث بشير الذي كان القائد الأوّل لميليشيا القوات اللبنانية. ولا جدال في أنّ “قوات” جعجع تستمدّ أيديولوجيّتها من أثر البشيريّة، وإن كان لدى جعجع شيء من “التمايز” الشخصي المناطقي والعائلي. فبشير ابن عائلة سياسية متجذّرة في النخبة المسيحية، وجعجع ابن عائلة متواضعة من الأطراف. في المقابل ليس غريباً أن يذكر الصحافي والسياسي جان عزيز في إطلالة تلفزيونية أنّ “رئيس الجمهوريّة العماد ميشال عون هو مَن أسّس “القوّات اللبنانية”، والكثير من الناس لا يعرفون هذا الأمر”.
أشاع بشير انطباعاً بأنّه يريد أن يبني دولة فعليّة وقويّة. في خطاباته بعد انتخابه وفي جولاته ولقاءاته أعرب بوضوح عن إرادته الانتهاء من “دولة المزرعة”
خطّة الاستيلاء على السلطة
حسب كتاب “أسرار الحرب الأهليّة” لآلان مينارغ، طلب بشير الجميّل من لجنة الدراسات الاستراتيجية (القوّاتية) التفكير في إمكان تطوير عمله السياسي، وعقد أوّل اجتماع سرّيّ في 6 آب 1980، وكان ميشال عون حاضراً. يومذاك أوضحت النقاشات بصورة جليّة استحالة القيام بأيّ عمل خارج الحدود المفروضة في صيغة 1943 اللبنانية، واستنتجت اللجنة أنّ هناك حلّاً واحداً فقط لا غير: الثورة من أجل تغيير الأنظمة والقواعد المعمول بها.
يومئذٍ قرّر بشير الاستيلاء على السلطة، وفي عام 1982، عام الانتخابات الرئاسية المقبلة، حدّاً أقصى. إلا أنّ ما بقي مجهولاً، حسب مينارغ، هو معرفة كيفيّة تحقيق ذلك. لذا كلّف بشير اثنين من أعضاء لجنة الدراسات الاستراتيجية، “نبتون”، لقب منظّر الفدرالية أنطوان نجم، و”جبرايل”، لقب العماد ميشال عون، أن يدرسا في جوّ من السرّية الفائقة جميع إمكانات وصول بشير إلى السلطة. وعلى امتداد خمسين يوماً أمضى الرجلان فترات بعد الظهر وأمسياتها في عزلة بين جدران مكتب أنطوان نجم. توصّلا إثر جهد متواصل إلى وضع التقرير الذي حمل عنوان “دراسة لاستيلاء بشير على السلطة”.
حسب مينارغ كان بشير مذهولاً بفاعليّة المقاومة التي أبدتها الوحدة التي قادها ميشال عون أثناء معركة خاضها الجيش اللبناني ضدّ الفلسطينيين في خلدة عام 1973.
لكنّ قوّة بشير السليطة والهائجة مستمدّة من أنّه الابن الأصغر للزعيم المسيحي بيار الجميّل مؤسّس ورئيس حزب الكتائب اللبنانية اليميني. وما “حلم الجمهورية”، كما يسمّونه، الذي “لا يولد مثله إلّا كلّ مئة سنة”، حسب سجعان قزي، إلا وليد نقل حزب الكتائب والمسيحيين وسياسة والده من زمن السلم إلى زمن الحرب. وهناك أساطير كثيرة حيكت حول شخصيّة بشير وصعوده وعلاقته بالناس وأحلامه ولبنانيّته وعلاقته بالعرب والسوريين والإسرائيليين. وحتى معاركه تنطوي على كثير من المبالغات. وبطولاته تكاد تشبه روايات عنترة بن شدّاد الحكائية.
مجازر توحيد البندقيّة المسيحيّة
وُلد نجل مؤسّس حزب الكتائب بيار الجميّل في 10 تشرين الثاني سنة 1947 في بكفيا. تلقّى دروسه الابتدائية والثانوية في مدرسة سيّدة الجمهور. حاز شهادة في الحقوق عام 1971، وشهادة في العلوم السياسية عام 1973 في الجامعة اليسوعية، وكانت حياته الطلابية صدامية وعاصفة. صار الكتائبيون القواتيون بعده يعتبرونها جامعته، فكانوا يحشدون في الانتخابات الطالبية على هذا الأساس. بدأ ظهوره الميداني في هذه الجامعة حين قاد حملة ضدّ مجموعة يسارية أواخر الستّينيّات. اختطفه عام 1970 مسلّحون فلسطينيون وأُطلق سراحه بعد 8 ساعات، بتدخّل أو وساطة من كمال جنبلاط.
أصبح بشير نائباً لرئيس حزب الكتائب في منطقة الأشرفية عام 1973. وبدأ صعوده السياسي والميليشياوي عام 1976 حين تسلّم القيادة العسكرية لميليشيا حزب الكتائب، بعد مقتل قائدها وليم حاوي خلال حصار مخيّم تل الزعتر.
تدرّج بشير صعوداً عبر محطّات دموية عدّة تحت مسمّى “توحيد البندقيّة المسيحية” و”أمن المجتمع المسيحي فوق كلّ اعتبار”. أبرز تلك المحطّات: مجزرة إهدن ضدّ طوني فرنجية وعائلته عام 1978. تصفية مقاتلي نمور الأحرار عام 1980: عشرات الجثث نقلتها الشاحنات قبل طمرها في البحر الذي يسمّيه أهل الصفرا “نبع الحسّون”. يروي المؤرّخ فوّاز طرابلسي أنّه بعدما ارتكب جوزف سعادة مجزرة السبت الأسود التي راح ضحيّتها 50 مسلماً انتقاماً لابنه، تولّى بشير الجميّل “التغطية” على جوزف سعادة فعيّنه مسؤولاً عن المكتب الرابع (التجهيز) في التنظيم العسكري للحزب. وعدا عن المجازر التي فتكت بالمسيحيين والخصوم، أقام بشير نظاماً صارماً في مناطق سيطرته: أفرغها من اليساريين والشيوعيين والسوريين القوميين. أقام علاقات واسعة مع إسرائيل أدّت إلى عواقب وخيمة على لبنان. اجتمع بشير بهاني الحسن (ممثّل منظمة التحرير الفلسطينية) وأخبره أنّ إسرائيل ستغزو لبنان سنة 1982 لإبادتهم، ونصحه أن يغادروا لبنان بسلام قبل فوات الأوان، حسب رواية جوزف أبو خليل في “قصّة الموارنة في الحرب”.
سؤال خلاصيّ: ماذا لو حكم؟
في 6 حزيران 1982 اجتاح الجيش الإسرائيلي الأراضي اللبنانية بالتنسيق مع بشيرالجميّل، فانسحبت القوات السورية الأسديّة إلى البقاع، وانكفأت منظمة التحرير الفلسطينية من الجنوب، قبل أن تغادر قوّاتها بحراً إلى تونس من بيروت. أشاع بشير انطباعاً بأنّه يريد أن يبني دولة فعليّة وقويّة. في خطاباته بعد انتخابه وفي جولاته ولقاءاته أعرب بوضوح عن إرادته الانتهاء من “دولة المزرعة”. في 23 آب انتُخب رئيساً للجمهورية في ثكنة الجيش اللبناني العسكرية في الفيّاضية.
كان الانقسام عمودياً في تلك المرحلة. النواب بين نار التهديدات البشيريّة ونار الامتناع أو الغياب عن الجلسة. تغيّر خطاب بشير بعد انتخابه: حاول أن يقدّم نفسه قائداً لبنانياً لا مسيحياً فحسب. نُسجت أقوال عجائبية حول دوره في ضبط الدولة في الأيام القليلة التي تلت انتخابه، وقبل تسلّمه السلطة.
إقرأ أيضاً: الياس سركيس: مجدٌ من رماد الجمهوريّة
في 14 أيلول 1982 انفجر المركز الرئيس للقوات اللبنانية في الأشرفية، حيث كان بشير موجوداً. قُتل قبل أن يتسلّم سلطاته الرئاسية. وبعد اغتياله بيومين اقتحمت مجموعات من القوات اللبنانية بقيادة إيلي حبيقة مخيّمَيْ صبرا وشاتيلا ونفّذت تلك المجزرة المهولة.
حتى اليوم، ما زالت فكرة “خلاصيّة” تتردّد بحسرة في صيغة سؤال: ماذا لو حكم بشير؟
غداً: أمين الجميّل: سقوط المسيحيّين وصعود الطائف.
المصادر:
*آلان مينارغ، “أسرار الحرب الأهليّة”، الدار الدولية.
*مقالات متفرّقة عن سيرة بشير الجميّل.
*جوزف أبو خليل، “قصّة الموارنة في الحرب”، شركة المطبوعات.
*فوّاز طرابلسي، “لا أبرياء في الحرب”، السفير 26/01/2013.