فرض مونديال قطر حضوره الطاغي على الاهتمام الشعبي وحتى الإعلامي على مستوى الكون كلّه، وفي عالمنا العربي تضاعف الاهتمام لأسباب منطقية، منها التنظيم المتقن من جانب قطر بدءاً من جودة البنى التحتية، ومنها الملاعب، والافتتاح المبهر، ثمّ الفوز السعودي على أهمّ المرشّحين للبطولة الأرجنتين، من دون إغفال ارتفاع مستوى الأداء العربي في مباراتَيْ تونس والمغرب.
هذا الذي تحقّق في الأيام الأولى للمونديال وضع الاهتمام السياسي في مرتبة ثانية، حتى إنّ الكتّاب والمحلّلين، وأنا منهم، تحوّلوا إلى معلّقين رياضيين مؤجِّلين الاهتمام بالهمّ السياسي إلى ما بعد المونديال، شريطة أن يتواصل الأداء العربي المميّز في المباريات التالية.
البارومتر الأكثر دقّة لقياس منسوب الاهتمام هو بارومتر الفلسطينيين، الذين شاءت أقدارهم أن ترتبط كلّ تفاصيل حياتهم بالأخبار والسياسة. فهم يتابعون التطوّرات أينما وقعت، ويفتّشون في ثنايا الأحداث عن خيط يتّصل بقضيّتهم.
هم يتابعون التطوّر الإسرائيلي الذي تزامن مع المونديال، ألا وهو تشكيل حكومة يمينية جامعها المشترك وهدفها التنكيل بحياتهم وإسالة المزيد من دمائهم وتقويض ما أمكن من حقوقهم.
فرض مونديال قطر حضوره الطاغي على الاهتمام الشعبي وحتى الإعلامي على مستوى الكون كلّه، وفي عالمنا العربي تضاعف الاهتمام لأسباب منطقية
قبل المونديال تابع الفلسطيني الانتخابات النصفية الأميركية كما لو أنّها تجري في بلاده، يحدوه ما تعوّد عليه: المفاضلة بين السيّئ والأكثر سوءاً، بين بايدن السلبيّ وترامب الكارثيّ، بين يائير لابيد المائع وبنيامين نتانياهو المتنمّر.
غير أنّ السياسة لم تؤثّر على المتابعة المتحمّسة للمونديال…
مونديال 1982 في بيروت
لمن لا يزال يذكر، حدث في بيروت إبّان الاجتياح الإسرائيلي في عام 1982 الذي تزامن مع المونديال الذي فازت فيه إيطاليا، أن كان الواقفون خلف المتاريس يتناوبون على الحراسة لمتابعة المباريات عبر الراديو إثر انقطاع الكهرباء بحيث لم يعد ممكناً مشاهدتها عبر الشاشات إلا لمن تمكّن من تشغيل مولّد بما يتوافر لديه من “مازوت”. كان ذلك قبل عشرات السنين حين لم تبقَ فوهة بندقية صامتة بعد الفوز الإيطالي الصديق، إذ أُطلقت مئات آلاف الطلقات من الرصاص ليس نحو أهداف آدميّة، وإنّما في الفضاء فرحاً وابتهاجاً.
ولأنّ الفرح الشحيح في عالمنا العربي يذكّر به الفرح المباغت، فقد وجد الفلسطينيون كباقي العرب متّسعاً لأخذ إجازة عابرة من الحزن والألم، فتجاهلوا توعّدات “الأزعرَيْن” إيتمار بن غفير وبتسلئيل سموتريتش، وشاركوا أمّتهم فرحتها بما حدث في قطر، فجلسوا أمام الشاشات وتابعوا نشرات الأخبار التي أفادت بوقوع عمليّتين متزامنتين في قلب القدس، وسقوط عدّة شهداء على أرض مونديال الصمود الأسطوري فلسطين، وتشكّلت تجمّعات لمشاهدة السامبا البرازيلية.
للحزن على الشهداء من أعزّ الأبناء وقت، ولانتظار موعد زيارة سجين يقضي عدّة مؤبّدات وقت، ولإحياء عرس للشباب والشابّات وقت، وللفرح بفوز فريق عربي وقت، وللحياة كلّ الوقت.
وهل بغير هذا بقي شعب وبقيت قضيّة وبقي أمل بالحرّية والكرامة والاستقلال؟
إقرأ أيضاً: أغلى حفظ ماء وجه في التاريخ!
عندما نفرح نقول بصورة تلقائية بفعل إدمان الحزن: “اللهم اجعله خيراً”. وهأنذا أضع يدي على قلبي خوفاً من السياسيين الذين احترفوا إهدار الإنجازات، حتى الرياضية منها، ذلك أنّ الفرح اجتاح النفوس منذ دقّت ساعة مونديال قطر وانطلقت صافرات البداية والنهاية في مباراة السعودية والأرجنتين، وعلى نحو قريب في تعادلات المغرب وتونس، وكأنّه مطر هبط على أرض شقّقها العطش. إلا أنّني أخشى دائماً، ومثلي كثيرون، معادلةً مجرّبة: “ما يحقّقه الناجحون يبدّده السياسيون”.
ولنرَ كيف سيكون الحال بعد المونديال.