كرّر يفغيني بريغوجين في الآونة الأخيرة إطلاق مواقف أخرجت الرجل من العتمة، وسط تساؤلات عن إمكانات خروجه من كنف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. ومن هذه المواقف الانتقادات التي وجّهها لجنرالات الجيش بسبب أدائهم في حرب أوكرانيا على منوال ما فعل حليف بوتين الرئيس الشيشاني رمضان قاديروف. اعترف أيضاً بأنّه هو من أنشأ مجموعة “فاغنر” التي تنشر المرتزقة في أوكرانيا وسوريا وليبيا وإفريقيا، وأنّ روسيا من خلال مؤسّساته تدخّلت وستتدخّل في الانتخابات الأميركية والغربية.
أسال خروج “طبّاخ بوتين”، كما يُطلَق عليه، من الصفوف الخلفيّة إلى الواجهة، حبراً كثيراً تناول ما يجري في موسكو وما يدور في كواليس الحكم هناك وما يُتَداول عن استعداد بريغوجين لدور سياسي ما، برعاية بوتين أو من دونها، في وقت تُرشّحه بعض التكهّنات لخلافة بوتين نفسه في الكرملين.
وضعت العواصم الغربية بريغوجين وغيره من “رجال بوتين” تحت مجهرها لرصد أيّ تحرّكات تشي باحتمالات تغيّر ما في رأس السلطة في موسكو
في عهد الاتحاد السوفييتي عرف بريغوجين السجن لتسع سنوات (1981-1990) بسبب أعمال خارجة عن القانون. لم يكن للرجل سجلّ في الحزب الشيوعي ومؤسّسات البلاد على عكس بوتين سليل الحزب وأجهزة الدولة، سواء في عمله مع جهاز الـKGB السوفييتي أو مع وريثه الـ FSB في عهد الرئيس الأسبق بوريس يلتسين. تعايش بريغوجين مع انهيار الدولة فركب موجة الرأسمالية المفرطة التي كان يطمح إليها يلتسين، فأنشأ أكشاك الـ “هوت دوغ” وبنى إمبراطورية من المطاعم نالت لاحقاً عقد “إطعام” الكرملين في عهد بوتين، ومن هنا جاء لقب “طبّاخ الكرملين”.
مثل بوتين ينحدر بريغوجين (61 عاماً) من مدينة لينينغراد، التي أُعيد إليها اسمها الأصليّ سان بطرسبرغ. تعرّف على بوتين كباقي رجال الأوليغارشية التي تراكمت ملياراتها وظهرت بعد انهيار النظام الشيوعي في البلاد. والرجل من أشدّ القوميين المتشدّدين وذهب في أنشطته إلى ما يتجاوز البزنس ويتّسق مع عقائده ومصالحه في حماية النظام. أقرّ في أيلول (سبتمبر) بجهوده التي بذلها في الدفاع عن مصالح روسيا عسكريّاً من خلال إنشاء في عام 2014 مجموعة “فاغنر” التي تحرّك المرتزقة من كلّ حدب وصوب للنيل من خصوم بلاده والدفاع عن مصالحها، وتمثّل أسلوباً ميليشياوياً غير قانوني في روسيا وغير معترف به رسميّاً.
صورة “البطل” الحربيّ
نُشرت في الأسابيع الأخيرة فيديوهات عن توجّه بيرغوجين إلى سجناء في أحد سجون روسيا لإبلاغهم بشروط “فاغنر” للالتحاق بالمجموعة ومهامّهم القتالية المقبلة في أوكرانيا. والأرجح أنّ هذا التسريب لم يجرِ من وراء ظهره، بل إنّه، من ضمن سياق إطلالاته، أراد تعريف روسيا والعالم بما يمثّله داخل البلاد بالقرب من رأس السلطة في موسكو. ولئن تستخدم “فاغنر” عسكريّين روساً وأجانب سابقين، فإنّ “فيديو السجن” يؤكّد تقارير عن استخدام المجموعة لخدمات أصحاب السوابق ونزلاء السجون السابقين.
تعامل بوتين والكرملين دائماً مع “فاغنر” بصفتها شأناً لا علاقة رسميّة لموسكو به. حتى عندما أنزلت المقاتلات الأميركية خسائر بشرية كبيرة بمقاتلي “فاغنر” شرق الفرات في سوريا في شباط (فبراير) 2018، أكّدت موسكو أنّ القصف لم يستهدف مواقع روسيا ولم ينَل من جنودها. غير أنّ أنشطة “فاغنر” التي باتت علنيّة في السودان وليبيا وإفريقيا إلى درجة رفع صور بوتين في باماكو في مالي، بعد انسحاب القوات الفرنسية من هناك، تكشف عن نجاحات “فاغنر” في المساعدة على تمدّد نفوذ موسكو حتى لو لم تنَل غطاء رسمياً من روسيا ورئيسها.
تتصاحب إطلالات “طبّاخ بوتين” مع أنباء كشفها موقع Meduza الروسيّ تحدّثت عن خططه لإطلاق حزبه السياسي. وإذا ما كان هذا التوجّه العلني يشكّل إقراراً بأنّ لبريغوجين طموحات سياسية، فإنّ خبراء الشؤون الروسية الغربيين يعترفون بأنّهم لا يملكون معطيات كافية لكشف طبيعة الصراعات بين منابر السلطة في روسيا ويدعون إلى عدم التسرّع في إطلاق الأحكام على مناعة بوتين في الكرملين.
كرّر يفغيني بريغوجين في الآونة الأخيرة إطلاق مواقف أخرجت الرجل من العتمة، وسط تساؤلات عن إمكانات خروجه من كنف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين
صحيح أنّ الكرملين لم يعلّق على تأكيد بريغوجين أنّ روسيا تدخّلت في الانتخابات الأميركية عام 2016 في وقت كان الرئيس الأميركي السابق دونالد ترامب ينفي الأمر واضطرّ مكرهاً إلى دعم هذا الاحتمال بعد إجماع مؤسّسات الأمن الأميركية على ذلك، لكنّ ذلك قد يؤكّد أيضاً رعاية الكرملين لاعترافات بريغوجين ويرفع عنه تهمة الخروج عن طوعه. غير أنّ مراقبين يتساءلون: هل يهدف أساساً عرض بريغوجين لعضلاته في خدمة “النظام” إلى استمالة “حرس” النظام ورجالاته؟
وضعت العواصم الغربية بريغوجين وغيره من “رجال بوتين” تحت مجهرها لرصد أيّ تحرّكات تشي باحتمالات تغيّر ما في رأس السلطة في موسكو. وما يروّج لهذا الاحتمال هذه الأيام هو أنّ الطبقة السياسية الراهنة المتحلّقة حول بوتين التي لا تنافسها أيّة معارضة قد تكون مضطرّة إلى الانقلاب على نفسها وترشيق أدائها وتحديث واجهاتها. وتؤكّد التقارير أنّ “حرس” النظام هم جميعهم من القوميين المتشدّدين الذين قد يذهبون أكثر باتجاه التصعيد في أوكرانيا وليس سلوك معابر التسويات.
الحروب و”تغيير السلطة” في روسيا
يكشف تاريخ روسيا دائماً عن تحوّلات في طبيعة مَن يحكم روسيا كلّما مُنيت البلاد بنكسة عسكرية خارجية أو أمنيّة داخلية. فقد عجّلت حرب القرم (1853-1856) بثورة الإمبراطور ألكسندر الثاني الليبرالية من أعلى. وأدّت الحرب الروسية اليابانية (1904-1905) إلى اندلاع الثورة الروسية الأولى. وأدّت كارثة الحرب العالمية الأولى إلى تنازل الإمبراطور نيكولاس الثاني عن العرش والثورة البلشفية. وأصبحت الحرب في أفغانستان عاملاً رئيسياً في إصلاحات الزعيم السوفييتي الراحل ميخائيل غورباتشوف. وساهم الانسحاب السوفييتي من كوبا في الإطاحة بنيكيتا خروتشوف.
إضافة إلى بريغوجين تبرز أسماء أخرى وجب تسليط المجهر عليها وعلى حركتها المقبلة وموقفها من تطوّر أداء “طبّاخ بوتين” وآفاقه. من تلك الأسماء مَن هو معروف مثل سيرغي شويغو، وزير الدفاع، وسيرغي لافروف، وزير الخارجية. لكنّ اللائحة تطول لتشمل نيكولاي باتروشيف، سكرتير مجلس الأمن الروسي، وإيغور سيتشين، قطب النفط الملقّب بـ “ريشيليو الروسي”، وألكسندر بورتنيكوف الذي تولّى قيادة الـFSB في عام 2008.
إقرأ أيضاً: نقاش الهويّة في الإمارات: حاجةٌ لا ترف!
صحيح أنّ من الصعب معرفة ما يجري حول الكرملين من داخل روسيا بسبب غياب أيّة شفافيّة في هذا الصدد هناك، إلا أنّ من الأفضل الحذر من دقّة التقارير الغربية التي لطالما يعترف أصحابها بتشوّش المعلومات في هذا الأمر وتشوّهها. غير أنّ حراك “الطبّاخ” قد يشي بأنّ شيئاً ما يُطهى في موسكو قد تفوح روائحه ولو بعد حين.