كأنّ شعار “وحدة المصير والمسار” بين سوريا ولبنان (رفعه رجال النظام السوري أواخر التسعينيات، أيام بلغت سيطرة المنظومة اللبنانية – السورية المشتركة على مفاصل السلطة في لبنان أشدّها، وكان قبلها يقتصر على وحدة المصير) كأنّه بات يتجسّد اليوم في تطابق مظاهر المأساة في كلّ من البلدين.
فالاحتجاجات في محافظة السويداء في 4 كانون الأول الجاري ضدّ تردّي الأوضاع المعيشية (أسفرت عن سقوط قتيلين من المحتجّين عند اقتحامهم مقرّ المحافظة) بيّنت وجوه التشابه بين البلدين، وتشابه الوضع السياسي المأزوم في بلاد الشام. هذا إضافة إلى ترابط المرحلة الراهنة من “وحدة المسار” مع تأثير ما يجري داخل إيران منذ اهتزاز موقعها الإقليمي بعد توسّع الحركة الاحتجاجية التي انطلقت إثر مقتل الفتاة الكردية الإيرانية مهسا أميني في 16 أيلول الماضي.
تقويم الأجهزة: تشابه في وتيرة الاحتجاجات؟
وعلى الرغم من اختلاف المواقع وأسباب القلق من التطوّرات في الداخل الإيراني، وتحديداً لدى “حزب الله” وسوريا، يقوم التشابه بين هذه الساحات على الحسابات المتعلّقة بنفوذ طهران في لبنان وسوريا.
في طهران سعى الحكم إلى الاستعانة بجزء من القيادات الإصلاحية للتوسّط مع المحتجّين، مع تلميحات باتّخاذ إجراءات لإرضاء مطالبهم، لكن لم يفلح
على الرغم من المكابرة التي تعاملت بها قيادة الحزب مع الاضطراب الذي سبّبه تمدّد التظاهرات في الداخل الإيراني، أقلقت السياسةُ الإيرانية القمعية هذه القيادةَ التي تعرف عن قرب تفاصيل ما يجري، لأنّها توقّعت أن تسبّب السياسة المتّبعة توسّعاً في الاحتجاجات بسبب درجة الفقر التي تعانيها شرائح واسعة من الإيرانيين حاضرة للتمرّد على نظام الملالي. أمّا المسؤولون السوريون، ولا سيّما ضباط كبار في أجهزة الأمن، فقد رأوا أنّها تشبه مرحلة انطلاقة الانتفاضة السورية في منتصف آذار 2011 من محافظة درعا، واعتبروا أنّ هناك تردّداً في أسلوب التعامل بحزم مع التحرّكات الاحتجاجية، مثل ذلك التردّد الذي يعتقدون أنّه تحكّم بردّ الفعل لدى القيادة السورية، التي كانت تراهن عام 2011 على قدرتها على استيعاب تحرّكات الشارع بمزيج من القمع ومحاولة إرضاء السوريين ببعض التدابير المسكِّنة، بعد الوساطات التي تحرّكت في حينها (حركة حماس والجامعة العربية) والتي أفشلها تصلّب النظام، فيما نصح قادة أجهزة الأمن بسحق التحرّكات من البداية ودفعة واحدة مهما كلّف الأمر من دماء.
في طهران سعى الحكم إلى الاستعانة بجزء من القيادات الإصلاحية للتوسّط مع المحتجّين، مع تلميحات باتّخاذ إجراءات لإرضاء مطالبهم، لكن لم يفلح.
وافقت دمشق بعد أشهر على مبدأ إلغاء قانون الطوارئ، ثمّ جاءت نسخته اللاحقة، تحت عنوان قانون محاربة الإرهاب، أشدّ قمعاً واستبداداً، فحفّزت المتظاهرين على مواصلة تحرّكاتهم ضدّ حكم آل الأسد وتحكُّم أجهزة الأمن بحياتهم اليومية.
في طهران استصدر النظام قراراً من القضاء بالاستعداد لتعديل قانون شرطة الأخلاق في شقّه المتعلّق بإلزامية ارتداء النساء الحجاب. وهو أمر شكّل اعترافاً من المرشد السيد علي خامنئي بأحقّية المطالب النسائية والشبابية، لكنّ هذا التعديل بقي حبراً على ورق، من دون أن يوقف تحرّكات الشارع.
أمّا “حزب الله” فردّ بمزيد من التشدّد في انتخابات الرئاسة، من خلال الإصرار على “الرئيس الذي نريد”، واتّهام أيّ مرشّح خصم بأنّه يخدم أهداف أميركا وإسرائيل، بالتزامن مع أفول أكثر العهود الرئاسية انسجاماً مع سياسة الحزب، بانتهاء ولاية الرئيس ميشال عون.
الخشية السوريّة من إطالة التأزّم الإيرانيّ
أطلقت احتجاجات إيران، في الأسابيع الأولى، مخاوف داخل بطانة نظام بشّار الأسد من أن تضعف طهران جرّاء ما يجري، وأصابت خيبة كبرى بعض المراهنين في القيادة السورية على قدرة طهران على مواجهة الصعوبات. النتيجة بالنسبة إلى الجانب السوري هي الخشية من أن تطول الأزمة الإيرانية الداخلية مثلما طالت في سوريا، وأن يستنسخ هؤلاء في إيران تسلسل الأحداث عينه الذي حصل في سوريا.
كانت قراءة هؤلاء السوريين، قبل اندلاع الحركة الاحتجاجية، تقول إنّه ليس أمامهم سوى العودة إلى خيار تمتين علاقتهم مع القيادة الإيرانية نتيجة الضعف الذي أصاب ويصيب روسيا جرّاء انخراطها في حرب أوكرانيا، وتراجع المساعدات الاقتصادية التي تقدّمها لدمشق. فإذا بالانتفاضة الإيرانية تُحبط هذه المراهنة. وتحوّل التنقّل بين المراهنة على الانحياز إلى روسيا لدى بعض القيادة السورية، وبين الالتصاق بإيران لدى البعض الآخر، الذي طبع التكتيكات السورية في السنوات الأخيرة، إلى خشية من خسارة دعم أيّ منهما، لأنّ الضيق يصيب كلتا الدولتين الحليفتين نتيجة العقوبات والحصار، في مواجهة أزمة اقتصادية سورية غير مسبوقة. وهذا ما عزّز تلك المخاوف.
أطلقت احتجاجات إيران، في الأسابيع الأولى، مخاوف داخل بطانة نظام بشّار الأسد من أن تضعف طهران جرّاء ما يجري
تراجع الوعود الإيرانيّة المنافسة لروسيا والعرب
باندلاع الحرب في أوكرانيا في 24 شباط الماضي أضافت طهران سبباً جديداً لاجتذاب الجانب السوري من أجل الاعتماد عليها اقتصادياً، إلى جانب السبب الأول، الذي تمثّل في موجة انفتاح بعض الدول العربية والخليجية على دمشق، والذي كان برز مع نهاية عام 2021 (زيارة وزير خارجية الإمارات الشيخ عبد الله بن زايد للرئيس بشار الأسد) وبداية العام الحالي، في محاولة لإغرائها للابتعاد عن طهران. وتردّد حينها أنّ أموالاً دُفعت لتأمين رواتب بعض التشكيلات العسكرية السورية. لم تترك طهران المناسبة تمرّ، فأرسلت وفوداً سياسية اقتصادية وعدت الجانب السوري بالمنّ والسلوى: لا تتّكلوا كثيراً على الانفتاح الخليجي. اصمدوا ونحن سنساعدكم، ومحادثات فيينا سترفع العقوبات، وعندئذٍ سنوظّف أموالاً كثيرة في سوريا. فتحت القيادة الإيرانية بعد زيارة الأسد لها خطّ ائتمان جديداً بقيمة مليار دولار، خُصّص الجزء الأكبر منه للمحروقات، التي تستورد سوريا زهاء 300 مليون برميل منها شهرياً. وفي المقابل كسبت طهران مزيداً من حرّية الحركة لتعزيز نفوذها، وانكفأت نتيجة ذلك المراهنة على ثمار الانفتاح الخليجي.
لكنّ الوعود عاكسها فشل فيينا وتصاعد العقوبات بسبب قمع الاحتجاجات. في الآونة الأخيرة زار وفد من وزارة الصحة السورية طهران على جاري عادته، للحصول على مساعدات من الأدوية على أن يدفع ثمنها وفق الخط الائتماني المالي، فقوبل بنوع من الزجر لأنّه لم يقدّر الظروف التي تمرّ بها بلاد فارس، فاستنجد الوفد السوري بـ”قيادة الحرس الثوري” الذي صرف لوزارة الصحّة من ميزانيّته.
المهمّ في معاينة الوقائع الانتباه إلى أنّ شحنات النفط تعرّضت للتقنين، لأنّ دمشق لا تسدّد الديون السابقة. لا داعي لذكر تطابق كلّ هذه الوقائع مع استجداء لبنان الفيول العراقي، من دون قدرة على الدفع، والآن الجزائري، فيما يحصل على القمح بتمويل من البنك الدولي، بينما ديون دمشق لموسكو جرّاء إرسالها المادّة الاستراتيجية وتقديم أسلحة تتراكم منذ سنوات. ولا تتردّد دمشق بالمطالبة بها بين الحين والآخر، من دون وضوح أرقامها، التي تتباين حسب الامتيازات التي يحصل عليها الروس بالاستحصال على أصول واستثمارات في النفط والفوسفات. كذلك الأمر بالنسبة إلى ديون إيران التي يتردّد بين الحين والآخر أنّها بلغت 20 مليار دولار، بينما يرفع المحتجون في الشارع شعار استردادها من ضمن مآخذهم على حكم خامنئي و”الحرس الثوري”.
حفلت السنوات القليلة السابقة بصور وأخبار طوابير الانتظار على محطّات الوقود ومراكز بيع الغاز في المناطق السورية، تماماً كما في لبنان
التقنين والتردّي الاجتماعيّ
حفلت السنوات القليلة السابقة بصور وأخبار طوابير الانتظار على محطّات الوقود ومراكز بيع الغاز في المناطق السورية، تماماً كما في لبنان قبل أن يُرفَع الدعم عن المحروقات، إلى أن أعلنت دمشق، التي كانت تقنّن التوزيع وفق بطاقات تحدّد أسعاراً عدّة للمستهلكين وفق الكمّية والتوقيت، وعلى أساس أنّه “مدعوم” أو “حر”، شهري أو أسبوعي أو كلّ أسبوعين. هذا فضلاً عن أسعار السوق السوداء، بالتزامن مع وصول شحنة من إيران، وفي ظلّ انخفاض جديد في السعر الرسمي للّيرة السورية. خضعت موادّ غذائية أساسية للقاعدة نفسها (الخبز والسكّر والزيوت…)، والوزارات المعنيّة تردّد أن لا اعتمادات لتأمين تدفّق اعتيادي لهذه المواد. أمّا الكهرباء فتخضع للتقنين في العاصمة، وغائبة كلّياً في مناطق غير خاضعة لسيطرة النظام.
الدروز موقف وانتشار
إذا كانت الاحتجاجات التي شهدتها محافظة السويداء حصلت نتيجة تراكم توتّر العلاقة مع النظام منذ بداية الأزمة السورية لأسباب عديدة، أهمّها رفض أعيان الدروز وإجماع رجال الدين تجنيد شباب المحافظة للقتال إلى جانب النظام، والتردّي المعيشي، فإنّ القادة الأمنيين تعاطوا معها بصلف وجلافة خوفاً من انتقال العدوى إلى محافظات أخرى. لكنّ تمادي اللغة التهديدية للناشطين، ولا سيّما تنظيم “رجال الكرامة” المسلّح، يُبقي على إمكان تجدّد الصدامات، ولا سيّما أنّ الدروز موجودون في غير السويداء: قرب دمشق، وفي مناطق أخرى. وثمّة من يعتقد أنّ هاجس منع شبكات النظام من تهريب المخدّرات والكبتاغون من الجنوب السوري ومحافظتَيْ درعا والسويداء إلى الأردن ودول الخليج، وهو ما سبّب مزيداً من التراجع في علاقة عمّان ودول أخرى مع دمشق، حفّز هذه الدول على تمويل تسليح مجموعات مقابل وقفها خطوط التهريب، ما دام النظام يمتنع عن ضبطها ووضع حدّ للتشكيلات الإيرانية التي ازدهر نشاطها في هذا المجال.
البارز في انعكاسات التدهور الاقتصادي المتصاعد في سوريا أنّ شرائح من البيئة الحاضنة للنظام أخذت تنفكّ عنه، وأخذ بعضهم يبحث عن الهجرة، فقد تبيّن أنّ بين المهاجرين غير الشرعيين الذين قضوا في قارب الموت الذي انطلق من طرابلس في أيلول الماضي سوريين علويّين، وتردّد أنّ بينهم سوريين مسيحيين.
إقرأ أيضاً: “الاهتزاز” الإيراني.. هل آن أوان رحيل الأسد؟
كثير من العلويين يعتاشون من وظائفهم في دوائر الدولة، التي باتت رواتبها التي تساوي بضعة دولارات لا تقيتهم وعائلاتهم. من ناحية أخرى، هرّب بعض قادة الفصائل في جيش “الدفاع”، الميليشيا الموالية للنظام، أموالهم التي جنوها من اقتصاد الحرب إلى الخارج. وحوّل كثر من بطانة النظام الذين استشعروا الخطر مدّخراتهم وأموالهم إلى مصارف في روسيا، حيث فُرض تقييد السحوبات والتحويلات بعد حرب أوكرانيا (كابيتال كونترول).
لا حصر لأوجه التشابه بين سوريا لبنان: قبل أربعة أيام نشرت سفارتا سوريا في الإمارات والكويت أنّهما قد تعجزان عن تسليم جوازات جديدة لمن تقدّموا بطلبات للحصول عليها.
لمتابعة الكاتب على تويتر: ChoucairWalid@