كان رسّام الكاريكاتور بيار صادق يعتمد في رسمه لرؤساء الجمهورية اللبنانية لباساً يعكس شخصيّة كلّ رئيس، فرَسَم الرئيس سليمان فرنجية ببذلة القبضاي الزغرتاوي مرتدياً سروالاً ومعتمراً لبّادة وحاملاً بارودة قديمة. والحال أنّ العراضة الزغرتاوية العشائرية، الغاضبة المسلّحة والفرحة والهائجة، التي شهدتها ساحة النجمة في وسط بيروت في 17 آب 1970، يوم انتخاب سليمان فرنجية رئيساً خامساً للجمهورية في عهد الاستقلال، كانت مرآةً لِما أسفرت عنه السنتان الأخيرتان من عهده الرئاسي: حرب أهليّة – إقليمية شاركت فيها الميليشيا العشائرية الزغرتاوية…
وُلِد سليمان فرنجية عام 1910 في زغرتا، معقل العشائر المارونية، وتلقّى علومه الأوّلية في طرابلس ثمّ في مدرسة عينطورة سنة 1924. برز اسمه في عام 1957 متّهماً بمجزرة كنيسة بلدة “مزيارة”، التي ذهب ضحيّتها العشرات من آل الدويهي، وكتب عنها الروائي اللبناني الراحل جبّور الدويهي روايته “مطر حزيران” (2006)، بتشجيع من السياسي الراحل سمير فرنجية (ابن حميد فرنجية شقيق سليمان فرنجية)، وقد أعاد جبّور رواية الأحداث بمسمّيات مختلفة وأماكن متخيّلة.
في المقابل، بدا كأنّ المجزرة كانت بداية سليمان فرنجية في السياسة، فهو لجأ إلى سوريا ثمّ عاد في عام 1960 بموجب عفو عامّ أعلنته السلطة الشهابية. وفي سوريا يُقال إنّه بنى صداقة مع آل الأسد، استمرّت مع ابنه طوني (الذي كان على صداقة مع رفعت الأسد) وحفيده سليمان الذي يقوم بزيارات عائلية لبشّار الأسد وقبله باسل الأسد الذي فارق الحياة قبل أن يصل إلى الرئاسة.
بفطرته استشعر فرنجية أنّ المحيط العربي ليس شأناً عارضاً أو يمكن اعتباره لزوم ما لا يلزم. لذلك انتصب ليدافع عن القضية الفلسطينية في خطابه الشهير بمجلس الأمن عام 1970
أصبح سليمان فرنجية نائباً عن زغرتا، وبات الوريث المحلّي للزعامة الزغرتاوية الريفية المارونية الشمالية عن أخيه الدستوري حميد فرنجية (مرشّح الرئاسة في عام 1952، وقد أُصيب بعارض صحّي أقعده مديداً، وكان له حضوره في الصالون السياسي البيروتي منذ بدايات عهد الاستقلال). وعُيّن فرنجية وزيراً للاقتصاد في الحكومة الأخيرة من عهد الرئيس شارل حلو. في انتخابات الرئاسة عام 1970 كان مرشّح “الحلف الثلاثي” للزعماء المسيحيين الموارنة الأقوى (ريمون إدّه، بيار الجميّل، وكميل شمعون)، وفاز بصوت واحد على منافسه إلياس سركيس مرشّح “النهج الشهابي”، فكتب الصحافي غسان تويني “ديموقراطية الصوت الواحد”، وقيل إنّ الانتخابات كانت تُدار من مكتب تويني (الكاره للعسكر) في “النهار”. بعدئذٍ خاطب سليمان فرنجية اللبنانيين في مستهلّ عهده قائلاً: “ناموا وأبوابكم مفتوحة”. ويُقال إنّه قال لأنصاره: لا أريد أن أرى معوِزاً منكم بعد اليوم.
كان الرئيس فرنجية الذي تسلّم منصبه في 23 أيلول 1970، يعيش خطر تداعيات اتفاق القاهرة مع الفلسطينيين، والصراع السياسي – الاجتماعي جرّاء توسّع أحزمة البؤس حول بيروت. لم يكن فرنجية سهل القيادة، ولم يعمل بمشيئة الجميّل وشمعون، وعلى الرغم من أنّه كان مناوئاً لجنبلاط والفلسطينيين، كان يجرؤ على تحدّي الفلسطينيين “من دون أن يشكّك أحد في وطنيّته وعروبته” (بتعبير كمال ديب).
بفطرته استشعر فرنجية أنّ المحيط العربي ليس شأناً عارضاً أو يمكن اعتباره لزوم ما لا يلزم. لذلك انتصب ليدافع عن القضية الفلسطينية في خطابه الشهير بمجلس الأمن عام 1970. ربّما لأنّه كان يتعذّر على موارنة الشمال أن يديروا ظهورهم لجيرانهم السُنّة في طرابلس وعكار. وممّا ميّز زعامة آل فرنجية عن القوى المسيحية الأخرى في جبل لبنان وبيروت هو خوف هذه القوى من سوريا ورعبها من السلاح الفلسطيني الذي حالفته الحركة الوطنية بقيادة كمال جنبلاط.
كان حميد فرنجية قد سبق أخاه في الانتباه إلى الجغرافيا السياسية والديمغرافيّة لزغرتا، فتحالف مع عبد الحميد كرامي ضد إميل إدّه الذي كان “يُقاتل” لبقاء الانتداب الفرنسي. في مقلب آخر، وحين كانت القضية تتعلّق بضغط من الحركة الوطنية لإجراء إصلاحات دستورية، كان فرنجية يعود إلى مارونيّته.
في 17 أيلول، وقبل أسبوع من تسلّم فرنجية الرئاسة، اندلعت اشتباكات في الأردن بين الجيش الأردني والمسلّحين الفلسطينيين، فدعا عبد الناصر إلى قمّة عربية في القاهرة في 23 من الشهر نفسه، وقبل يوم واحد وفي آخر يوم من ولاية شارل الحلو. والاخير اقنع الرئيس المُنتخب بالذهاب الى الاجتماع كونه صار الرئيس الفعلي. يومها راجت نكتة ان فرنجية آخر من ودع الزعيم عبد الناصر وتسبب بموته جراء “قبلة يوضاص” في اشارة إلى غلاظة شفتيه. وعاد في اليوم التالي إلى لبنان ليتسلّم الرئاسة . ثمّ توفّي عبد الناصر في 28 أيلول. وفي 16 تشرين الثاني قام حافظ الأسد بانقلاب في سوريا وسيطر البعث على السلطة، وبدأ الأسد يفكّر في وجوب الهيمنة على لبنان لأنّه الخاصرة الرخوة لسوريا.
لم يطُل الوقت حتى بدأ عهد فرنجية يتعرّض للانتقاد، حتى من الذين اقترعوا له، وعلى رأسهم العميد ريمون إدّه الذي وصف عهد فرنجية بـ”عهد كول وشكور”، مختصراً بذلك ما كان يتردّد عن أنّ الزغرتاويين اجتاحوا إدارات الدولة وأصبحوا أقوى النافذين فيها. فقد سهّل وصول أفراد عائلته إلى مناصب مهمّة، فعيّن ابنه طوني وزيراً للاتصالات (كانت تسمّى وزارة البرق والبريد والهاتف)، وهو الذي أسّس “لواء المردة” الزغرتاوي الذي شارك إلى جانب الكتائب والأحرار في بدايات الحرب الأهلية سنة 1975، وأصبح صهره عبدالله الراسي نائباً وعيّنه طبيباً خاصاً في القصر الجمهوري، إضافة إلى كثر غيرهما.
كان حميد فرنجية قد سبق أخاه في الانتباه إلى الجغرافيا السياسية والديمغرافيّة لزغرتا، فتحالف مع عبد الحميد كرامي ضد إميل إدّه الذي كان “يُقاتل” لبقاء الانتداب الفرنسي
سلاح فلسطينيّ ومطالب
نُظّمت أوّل انتخابات نيابية في عهد فرنجية عام 1972، فعكست نتائجها تحوّلات ما بعد الشهابية، وأتت بأكثرية تدور في فلك العهد الجديد، فيما كان المجتمع اللبناني يراكم ما يمكن تسميته “خروج الأهل على الدولة” (حسب عنوان كتاب لوضّاح شرارة عن تلك المرحلة) في المخيّمات الفلسطينية وضواحي بيروت والمناطق، مع تصاعد نفوذ اليسار، وبدء تسلّح اليمين المسيحي و”اليسار” الذي انطبع بعضه بشيء من “الأسلمة”.
بعدما خسر الياس سركيس الانتخابات الرئاسية في عام 1970، فُتِح المجال للسياسيين التقليديين (سليمان فرنجية وصائب سلام تحديداً) “للانتقام” من ضبّاط المكتب الثاني الشهابي وضبّاط آخرين. أوّلاً، تمَّت تنحية الضبّاط عن مراكزهم. في عام 1972، تمّ استدعاؤهم لمحاكمتهم أمام مجلس عسكري تأديبي بتهمة “سوء استخدام السلطة وسوء السلوك واختلاس الأموال”. وأُبعد عدد منهم إلى الخارج كملحقين عسكريين. هذه الكيدية انعكست على نفوس كبار ضبّاط المؤسّسة العسكرية. في المقابل تزايدت تحرّكات المنظمات الفلسطينية وعمليّاتها انطلاقاً من لبنان، وقوي التأثير الفلسطيني في الشأن اللبناني، بعدما صار لبنان مقرّاً لمنظمة التحرير الفلسطينية. هذا التعقيد انعكس في جرّ اعتداءات إسرائيلية على القرى الجنوبية، فيما كانت تتوسّع التظاهرات المطلبية في الشارع اللبناني على وقع كثرة المشاريع اليسارية المطالِبة بالتغيير.
في عام 1973 لاح ما بدا وكأنّه نهاية عهد القوة والازدهار اللبناني: عمليات فلسطينية وخطف طائرات، وعملية ميونيخ التي ردّت عليها إسرائيل في لبنان بعنف يوم 10 نيسان 1973، فاغتالت ثلاثة من قادة المقاومة الفلسطينية في فردان. اتّهمت القوى القومية واليسارية والإسلامية التقليدية الجيش اللبناني بالتقصير، وطالبت بإقالة قائده إسكندر غانم. رفض فرنجية، فاستقالت حكومة صائب سلام، فدخلت البلاد في أزمة سياسية وأمنيّة.
عندما اندلعت الاشتباكات بين الجيش والمقاتلين الفلسطينيين في أيار 1973، واجه الحكم اللبناني ضغوطاً سياسية عربية. وفي اجتماع بقصر بعبدا دعا إليه فرنجية لمصارحة قائدَيْ المسيحيين كميل شمعون وبيار الجميّل، قال إنّه لم يعد بالإمكان التعويل على الجيش لكبح جماح السلاح الفلسطيني.
نهاية عهد واستمرار الحرب
في 13 نيسان 1975، حصلت مقتلة عين الرمّانة. كان الرئيس فرنجية في المستشفى يخضع لجراحة، ولمّا خرج من المستشفى وتلقّى التهاني بالشفاء، كان لبنان ينزلق سريعاً إلى الحرب.
اتّهمت “الحركة الوطنية” بقيادة كمال جنبلاط حزب الكتائب بارتكاب المجزرة، فطالبت بعزل الحزب المسيحي الأقوى من الحياة السياسية، واشتعلت الجولة الأولى من الحرب بين الشيّاح وعين الرمّانة. عندئذٍ دخل لبنان النفق والمتاهة ومنطق “حروب الآخرين على أرضنا” (مقولة غسان تويني). وفي 24 كانون الثاني 1976 وقّع 66 نائباً عريضة تطالب باستقالة فرنجية، فرفضها مصرّاً على البقاء حتى اليوم الأخير من ولايته. تدخّل النظام السوري لتعزيز نفوذه في لبنان وإمساك الورقة الفلسطينية، فتوافق الأسد وفرنجية على “الوثيقة الدستورية” في شباط 1976، وهي مجموعة من الإصلاحات رفضتها الحركة الوطنية.
إقرأ أيضاً: شارل حلو: راهب الشهابيّة الملتبس
في 11 آذار 1976 حدث “انقلاب” عزيز الأحدب شبه المسرحي والفارغ والتلفزيوني. في اليوم التالي احتلّ مسلّحون من أحزاب الجبهة اللبنانية، التي تمثّل اليمين المسيحي والمدعومة من فرنجية، ثكنة الفيّاضية، وبدأ الجيش بالتفكّك والتصدّع والانشقاقات وعودة العناصر إلى طوائفهم. في 15 آذار بدأ قصف قصر بعبدا، فغادره فرنجية، ودعا القوات السورية إلى التدخّل العسكري بعدما سيطرت قوات الحركة الوطنية اللبنانية – الفلسطينية المشتركة على حوالي 80 في المئة من الأراضي اللبنانية. لاحقاً نسّق مع النظام السوري من أجل تعديل الدستور لانتخاب رئيس للجمهورية قبل ستّة أشهر من انتهاء ولايته. ووسط ضراوة الحرب وعمليات التهجير ووصول القوات الفلسطينية وميليشيات الحركة الوطنية إلى مشارف بكفيّا معقل آل الجميّل واليمين المسيحي في جبل لبنان، حصل تحوّل كبير في الموقف السوري: انقلب من دعم الفلسطينيين وحلفائهم إلى دعم خصومهم. في هذا الجوّ وافق فرنجية على إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، فانتُخب إلياس سركيس، منافسه السابق في عام 1970، رئيساً جديداً في 8 أيار 1976. وفي 28 أيلول 1976، يوم غادر فرنجية السلطة، سلّم سركيس كرة النار، فحملها في طريقه نحو قصر مهجور وجمهورية متشظّية. لكنّ الصراع على السلطة ظلّ محتدماً، ولغة العنف بقيت سائدة ومتجذّرة. ففي 13 حزيران 1978 قُتل طوني فرنجية مع أسرته في مجزرة إهدن (المصيف الزغرتاوي) نتيجة العسكرة والعصبويّات والثارات المناطقية التي ألمّت بالمجتمع اللبناني في زمن الحرب، واتُهم حزب الكتائب بارتكاب هذه المجزرة. لم ينجُ من تلك المجزرة سوى طفله الذي يحمل اسم جدّه سليمان، فلُقّب سليمان الصغير. وهو اليوم (2022) مرشّح لرئاسة الجمهورية.
غداً الحلقة السادسة: الياس سركيس: مجدٌ من رماد الجمهوريّة
المصادر:
*كمال ديب، “أمراء الحرب وتجّار الهيكل”، دار الفارابي.
*منشورات مؤسسة فؤاد شهاب.