يوم الأحد 6 تشرين الثاني أنهى قداسة البابا فرنسيس الثاني زيارته للبحرين. قضى فيها أربعة أيّام. ألقى فيها عدّة خطابات حملت الكثير من المعاني والرسائل المرفقة بالمحبّة والسلام. وصف ملك البحرين الزيارة بـ “التاريخيّة”. وهي كذلك. لدى البعض رأي مخالف. لا عجب. فالعديد من الأحداث التاريخيّة لا تبدو كذلك إلاّ بعد مضيّ سنوات وعقود عليها. ربّما هي حال زيارات البابا لـ”بلاد الإسلام” (أعني بها الدول ذات الغالبيّة المسلمة)، وزيارة البحرين هي العاشرة لدولة إسلامية، والسابعة لدولة عربيّة (بعد الأردن وفلسطين والمغرب ومصر والإمارات والعراق). كلّها زيارات تؤسّس لواقع جديد في العلاقات بين الإسلام والمسيحيّة وبين الشرق والغرب، بعد مرحلة الصراع والتطرّف والإرهاب.
لكلّ بابا ميزة تطبع حبريّته. التجديد الكنسيّ من خلال المجمع الفاتيكاني الثاني طبع حبريّة البابا يوحنا الثالث والعشرين. وعُرف البابا بولس السادس ببابا الحداثة. وطبع سقوط الاتحاد السوفياتي والزيارات الرعوية لمختلف بلدان العالم حبريّة البابا القدّيس يوحنا بولس الثاني. وما يطبع حبريّة البابا الحالي تطوُّر الحوار واللقاء مع الإسلام، إضافة إلى اهتمامه بـ”الإنسان الفقير”. ونشدّد على كلمة “تطوّر” لأنّ الحوار بين الديانتين لم يبدأ مع البابا الحالي. فهو قديم. وهناك العديد من المؤسّسات ومراكز الدراسات وحتى المعاهد التي أُنشئت لهذا الغرض.
تكمن أهميّة الدعوات التي تُوجّه إلى البابا لزيارة دول الخليج العربيّ في أنّها تُسقط الأفكار النمطية الغربيّة عن العالمين الإسلامي والعربيّ
في العقود الماضية طغى الصراع على العلاقة بين الشرق والغرب، وترافق مع تطرّف دينيّ حمل مشاريع سياسيّة وأعمالاً عسكريّة إرهابيّة. برز هذا التطرّف في العالم العربي، أو انطلاقاً منه، وأدّى إلى الكلام عن “الإسلاموفوبيا” في الغرب “المسيحيّ”. وأنا أضيف إليه “العربوفوبيا” من خلال تجربتي، أنا اللبناني – العربيّ، وحياتي في الغرب (ولو أنّ العديد من أبناء طائفتي يرفضون هذا الانتماء). فقد تزامنت بداية إقامتي في فرنسا مع هجوم 11 أيلول 2001 الذي خطّط له أسامة بن لادن، السعوديّ الأصل، وشارك في تنفيذه 11 سعوديّاً (من أصل 18 نفّذوه). وقد عايشت تطوّر “الإسلاموفوبيا” و”العربوفوبيا” في أوروبا. فكانت عامّة الناس تعتبر أنّ كلّ عربيّ هو مسلم، وكلّ مسلم هو متطرّف، وكلّ متطرّف إرهابيّ أو مشروع إرهابيّ. وأذكر ذات مرّة سألني أحد المدرّسين في مدرسة كاثوليكيّة (وكنت الكاهن فيها): “كيف يمكن أن تكون عربيّاً ومسيحيّاً؟! وهل في العالم العربيّ مسيحيون؟!”. سؤال أثار دهشتي لسببين: الأول هو جهل أحفاد نابليون للعالم العربيّ، وعدم معرفة أحفاد إرنست رونان لتركيبة لبنان الطائفيّة! والسبب الثاني أنّ الفرنسي بدأ يسأل عن الانتماء الدينيّ! وكنت قد نبّهني أحد أصدقائي اللبنانيين إلى عدم طرح ثلاثة أسئلة على فرنسيّ: ما قيمة راتبه؟ لمن يصوّت؟ ومن يعبُد؟
الكنائس المسيحية البحرينية
تكمن أهميّة الدعوات التي تُوجّه إلى البابا لزيارة دول الخليج العربيّ في أنّها تُسقط الأفكار النمطية الغربيّة عن العالمين الإسلامي والعربيّ. أثارت الزيارة بحدّ ذاتها فضول الصحافيين للبحث عن تاريخ المسيحيّة في البحرين. عادوا إلى وجودها في القرون التي سبقت نشوء الإسلام. واكتشفوا أنّ اسم مدينة “القلالي”، في منطقة سماهيج في جزيرة المحرق البحرينيّة، مشتقّ من كلمة “القلّاية” (مكان سكن الراهب)، وأنّ هناك مدينة اسمها “الراهب” فيها “مسجد الراهب”! وعادوا إلى الحضور المسيحي في المملكة في التاريخ الحديث ووجدوا أنّ أوّل كنيسة في الخليج العربيّ بُنيت فيها عام 1906، وكانت الكنيسة الإنجيليّة والوطنيّة، وأنّه بُنيت فيها أيضاً أوّل كنيسة كاثوليكية في الخليج عام 1939، وكانت كنيسة القلب الأقدس، وأنّ أصغر بلد في الخليج يحتضن أكبر كاتدرائيّة فيه، وهي “كنيسة سيّدة العرب”.
سياسة الانفتاح غير المسبوقة في العديد من الدول العربيّة، وفي مقدّمها السعوديّة. ليست مسألة عابرة وبسيطة
تكتسب زيارة البابا للبحرين أهميّة كبيرة في التلاقي بين الشرق والغرب، وبين المسيحيّة والإسلام. صحيح أنّ الغرب “المسيحي” يضمّ دولاً علمانيّة، لكنّه ذات خلفيّة مسيحيّة في تاريخه وقِيمه وأنظمته ومجتمعه وآثاره. هذا النوع من اللقاءات يُظهر للعالم الغربيّ أنّ العالم الإسلامي ليس أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وأبا بكر البغداديّ. إنّه إمام الأزهر الشيخ الدكتور أحمد الطيّب والمرجع الدينيّ السيّد علي السيستاني والعلامّة السيّد علي الأمين وغيرهم. هؤلاء يمثّلون الإسلام الحقيقيّ وليس الإخوان المسلمون ولا نظام الملالي في إيران، وأنّ العالم العربيّ اليوم، بأنظمته وحكّامه وشعبه، يرفض التطرّف، لا بل يحاربه، ولديه إرادة حقيقيّة وثابتة للانفتاح الدينيّ والثقافيّ والحضاريّ. وهناك العديد من البراهين على ذلك، أبرزها:
1- الحرب التي شنّها النظام المصريّ بالتعاون مع الأزهر الشريف ضدّ جماعة الإخوان المسلمين، وهي “الجماعة الأمّ” للتطرّف الدينيّ في القرن العشرين.
2- سياسة الانفتاح غير المسبوقة في العديد من الدول العربيّة، وفي مقدّمها السعوديّة. ليست مسألة عابرة وبسيطة أن يتغيّر واقع المرأة في “بلاد الوهابيّين”، وأن تُنظَّم الحفلات الموسيقيّة وتُفتَح دور السينما وتُعرَض الأعمال المسرحيّة…
3- إعطاء الأذونات لتشييد الكنائس، وتقديم أراض لها على شكل هِبات، ولإقامة الشعائر الدينيّة في بلدان إسلاميّة. وإزالة اللثام عن آثار مسيحيّة في شبه الجزيرة العربيّة “قلب الإسلام”. وآخرها الإعلان عن آثار دير في دولة الإمارات العربيّة يعود تاريخه إلى الفترة الممتدّة بين القرنين السادس والثامن الميلاديَّين بحسب وكالة الأنباء الإماراتيّة.
في هذا السياق أتت دعوة الملك حمد بن عيسى آل خليفة للبابا فرنسيس. لا شكّ أنّ للنظام في البحرين مصلحة تقوم على حجز مكان له على خارطة الحوار الإسلاميّ – المسيحيّ في المنطقة والعالم. وهذا مشروع. وربّما للتأكيد أنّ مواجهة المعارضة الشيعيّة المدعومة من إيران، منذ عام 2011، هو سياسيّ وليس اضطهاداً دينيّاً. فكلّ نظام يسعى إلى الحفاظ على استقراره ويرفض التدخّلات الخارجيّة فيه. مهما كانت مصلحة المنامة، تشكّل الزيارة خطوة إلى الأمام في مسار الانفتاح بين الشرق والغرب. ولا يزال هناك خطوات أخرى كثيرة أثار بعضها البابا في خطاباته في المنامة، مثل ديمقراطيّة النظام، والحريّة الدينيّة، و”ترسيخ مفهوم المواطنة الكاملة”، والعمالة الأجنبيّة التي “تشكّل انتهاكاً لكرامة الإنسان”.
إقرأ أيضاً: البابا في البحرين: غاب لبنان وحضرت أوكرانيا
بالأمس كان البابا في البحرين التي تشكّل الحديقة الخلفيّة الجيوسياسيّة للمملكة العربيّة السعوديّة “مركز الإسلام”. وقد نُظّمت رحلات لانتقال العمّال المسيحيين من السعودية إلى المنامة للمشاركة في القدّاس الذي أُقيم لمناسبة زيارة البابا. فهل يأتي يوم تكون فيه السعوديّة وُجهة بابا الفاتيكان؟ من المُبكر الإجابة على هذا السؤال. ولكنّ سياسة الانفتاح السياسيّ والدينيّ والاقتصاديّ والاجتماعيّ التي تنتهجها الرياض تؤكّد أن لا شيء مستبعد.
*أستاذ في الجامعة اللبنانية
لمتابعة الكاتب على تويتر: Fadi_ahmar@