لماذا لم يتضامن اللبنانيّون مع طهران؟

مدة القراءة 5 د

باستغراب يصل إلى حدود الاستنكار يسأل الصديق الإيراني عن غياب اللبنانيين عن دعم الحراك الشعبي في إيران. “ألا يشعر اللبنانيون أنّهم معنيّون بالخلاص من النظام الذي يحتلّ بلدهم عبر ميليشيا حزب الله حتى لو كانت هويّتها لبنانية؟”.

يُنبّهك السؤال غير المتوقّع إلى مقدار تغيُّر الأحوال في لبنان. تتسابق المبرّرات إلى ذهنك، محاولاً أن تشرح هذا الغياب، لنفسك قبل الصديق، لتصل إلى خلاصات في غاية الخطورة:

1-  تبدأ شرحك طبعاً، من السبب البديهي. فهمُّ اللبنانيين الاقتصادي والمعيشي تجاوز منذ زمن كونه أزمة رفاهية أو مشكلة قلّة، إلى كونه همّاً وجوديّاً يطال أساسيّات الحاجات المعيشية للمواطن. المسألة باتت مسألة حياة أو موت، لِمَن لم تعد تتوافر لهم “رفاهيات” الفقر العاديّ، بحيث صار فوز شرائح لبنانية عريضة برغيف خبز أو دواء ملحّ، صراعاً شرساً لا ينتهي دوماً بأخبار سارّة. كما أنّ الكتلة الشبابية، وللسبب الاقتصادي نفسه، باتت تقدّم أولويّة الخروج من لبنان على أيّ وهم له علاقة بجهود الإصلاح أو الانخراط السياسي، أكان من بوّابة العناوين المحلّية أو من بوّابة عناوين خارجية تترابط وتتقاطع مع لبنان، كملفّ الانتفاضة الشعبية الإيرانية.

لا يمتلك اللبنانيون في لحظتهم الراهنة رفاهية الانتباه إلى هموم غيرهم، أيّاً تكن الصلات الموضوعية بين الطرفين.

اللحظة اللبنانية الراهنة فاتتها حيويّة عام 2019، وفقدت محرّكاتها الكثير من قوّة الدفع. أمّا القوى السياسية التي تتصدّر المشهد، من موقع التغيير والتجديد، فما عادت تشكّل عنصر جذب أو تحفيز لأيّ عنوان داخلي أو خارجي

فالجيل الذي خرج تضامناً مع الثورة السورية مثلاً، انتفض وتحمّس وشارك وهو يعيش في لبنان مختلف تماماً، ويبدو كأنّه ذهب إلى غير رجعة. بيد أنّ ثمّة أسباباً أخرى، تستدرجها المقارنة بين تضامن اللبنانيين مع الثورة السورية وموقفهم من الحراك الشعبي في إيران.

2-  تفتقر اللحظة اللبنانية الراهنة إلى شرارة تصنع الوصل بين بيروت وطهران، بمثل ما صنع اغتيال رفيق الحريري “وحدة المسار والمصير”، على طريقته، بين الشعبين اللبناني والسوري. عام 2011، كان جرح اغتيال الحريري لا يزال طريّاً، وكان سُنّة لبنان قبل مسيحيّيه، قد ذهبوا بعيداً في فكرة أنّ التغيير في سوريا هو بوّابة التغيير في لبنان. كما أنّ القرب الجغرافي جعل الثورة السوريّة، بمعانٍ كثيرة، ثورة داخلية في لبنان، وكأنّ لبنان فعلاً صار محافظة سورية، شريكة في الانتفاض على النظام، ولو بعد خروجه من لبنان في نيسان عام 2005.

اللحظة اللبنانية الراهنة فاتتها حيويّة عام 2019، وفقدت محرّكاتها الكثير من قوّة الدفع. أمّا القوى السياسية التي تتصدّر المشهد، من موقع التغيير والتجديد، فما عادت تشكّل عنصر جذب أو تحفيز لأيّ عنوان داخلي أو خارجي. تتزامن اللحظة الإيرانية مع لحظة فراغ لبناني، لا على مستوى مواقع دستورية في النظام، إنّما فراغ في المخيّلة وفراغ في خزّانات الهمّ السياسي والإبداع النضالي الذي ميّز تفاعل لبنان مع لحظات سياسية مفصليّة في الشرق الأوسط، كالربيع العربي عموماً أو الثورة الإيرانية عام 2009.

التبرّؤ المرضي من 14 آذار

3-  أمّا السبب الأخطر الذي يروعني التفكير فيه، فهو أنّ ثورة 17 تشرين 2019، ذهبت بعيداً بحرصها المرضيّ على التبرّؤ من أيّ ملمح يقيم الصلة بينها وبين 14 آذار. ليس صدفة أنّ البيان الوحيد ربّما الذي صدر تضامناً مع الانتفاضة الشعبية في إيران هو بيان صاغته ووقّعت عليه مجموعة من نشطاء وأصوات ومثقّفين صنعوا الجزء الأكبر من حضورهم السياسي في كنف “14 آذار”.

فالحالة الاعتراضية الشبابية الحالية في لبنان، بأغلبها، تفعل كلّ ما بوسعها، لعدم الاصطدام بميليشيا حزب الله، أو كي لا يكون الاصطدام بها حصريّاً، وفاءً لعنوان “كلّن يعني كلّن”، حتى حين تتوافر إمكانيّات تقاطع سياسي جدّي ومثمر، مع جزء من “كلّن”. وهي في الوقت نفسه، تراها تختار ممّن عمل في كنف “المنظومة السياسية” وتصدّر الكثير من مواقعها البارزة، مرشّحاً أو أكثر لرئاسة الجمهورية، وتنأى بنفسها عن مرشّحين آخرين، كانوا شركاء في “المنظومة السياسية”، وإن لم يحتلّوا مناصب عليا كالتي احتلّها مَن ترشّحهم الثورة اليوم!! عجيب!!

إنّ التضامن مع إيران سيعيد تأسيس الصلة الموضوعية بين “14 آذار” (لا أتحدّث عنها هنا كتكتّل أحزاب بل كموقف سياسي له عناوين سيادية وتحديثية ودولتيّة محدّدة)، وبين 19 تشرين، وهو ما لا تريده الأخيرة، بأيّ شكل من الأشكال. لقد بات الهاجس المرضيّ للتبرّؤ من 14 آذار آليّة لا تفعل سوى تحويل كتلة شبابية وازنة إلى دور “الغبيّ المفيد” عند 8 آذار، ولا سيّما ميليشيا حزب الله!

4-  شكّل اغتيال الناشط اللبناني الشيعي لقمان سليم، لحظة إعادة تأسيس جزئي لجدار الخوف في لبنان. وهو خوف يكبر ويتمكّن في ظلّ الانهيار الاقتصادي، والفراغ السياسي عامّة، وتهافت الأداء الثوري أو التغييري. جاء الاغتيال في لحظة تتحالف فيها هذه العناصر الثلاثة على تفريغ طاقة الأمل عند اللبنانيين، وهدم قدرتهم على تخيّل الغد وآليّات الوصول إليه، حتى إذا انتفض الإيرانيون، ضدّ كلّ ما يقحمهم فيه النظام الخمينيّ، ويُقحمنا نحن بمثله، عبر ميليشيا حزب الله، لم نجد صدىً لطهران في بيروت.

إقرأ أيضاً: العمامة الطائرة: ضدّ الدين… أو الزيّ التنكّري؟

الخطير في غياب التفاعل اللبناني مع الحدث الإيراني، أنّه مؤشّر إلى حال من التطبيع مع سيادة ميليشيا حزب الله على البلاد، لأسباب معقّدة وكثيرة، غاب بالتأكيد ذكر بعضها عن هذا المقال.

الأخطر، كيف لا ننتبه أنّ قاتل لقمان سليم ومهاسا أميني هو نفسه؟

لمتابعة الكاتب على تويتر: NadimKoteich@

مواضيع ذات صلة

إيلي صعب.. إيلون ماسك والمرشد

كان يمكن لمحاولات إيران التهدئة مع الولايات المتحدة، عبر تقارير عن مفاوضات بين سفيرها في الأمم المتحدة أمير سعيد إيرواني ‏والملياردير الأميركي إيلون ماسك (نفتها…

المعارضة تستعين بالمماطلة لتعطيل ترامب؟

الفوز الكبير الذي حقّقه دونالد ترامب والحزب الجمهوري في انتخابات مجلسَي النواب والشيوخ، زاد من قناعة الرئيس المنتخب بأنّ الشعب الأميركي منحه تفويضاً لقيادة البلاد…

واشنطن وطهران: إدارة صراع أم صفقة؟

لم يكن الموقف الإيراني من انتخاب الرئيس الأميركي الجديد – القديم دونالد ترمب موقفاً سلبياً بالكامل، ولم يكن في الوقت نفسه إيجابياً أيضاً. فالحذر الشديد…

أسرار تسميات ترامب: مصيرنا بيد إيلون ماسك

يرسم المتابعون والعارفون بعقل دونالد ترامب في واشنطن صورة واضحة لما يفكّر فيه الرجل، وما سيقوم به، خصوصاً بما يتعلّق بمنطقة الشرق الأوسط.   يعترفون…