خطأ في طرح مزايدة منطقة السوق الحرّة في مطار بيروت، أعاد الأمور إلى بدايتها، ودفع بشركة “باك” لصاحبها محمد زيدان إلى الانسحاب منها، حتى قبل أنّ يتبيّن ويتحدّد المسار القانوني الواجب اتّباعه.
جوهر الإشكالية التي ظهرت يتعلّق بأيّ من العملتين: الليرة اللبنانية أو الدولار الأميركي، يجب طرح المزايدة. إلى جانب مخالفة أحد العارضين لدفتر الشروط.
التطابق في الرأي القانوني بين هيئة الشراء العامّ ووزارة الأشغال العامة أعاد الوضع إلى نقطة الصفر بعدما تقدّمت الهيئة من الوزارة بطلب إعادة النظر في عمل لجنة التلزيم لوجود “عيوب” رصدها مندوب الهيئة. لذلك قرّرت وزارة الأشغال يوم الأربعاء الماضي الالتزام بتوصيات الهيئة وإلغاء المزايدة لإعادة إطلاقها من جديد.
توضح “باك” أنّه بعد إجراء المزايدة رأى رئيس هيئة الشراء العام أنّ مستندات الشركة الثانية التي تقدّمت للمزايدة لم تكن متناسبة مع دفتر الشروط، وهو ما يمنعها من التأهّل للاشتراك في المزايدة: فاقترح إمّا إعادة المزايدة أو الاتفاق بالتراضي مع شركتنا
“باك” انسحبت من المزايدة
كانت شركة “باك”، صاحبة العرض المطابق، أصدرت في نهاية الأسبوع الماضي بياناً أعلن إعلامياً انسحابها من المزايدة، على أن ترسل انسحابها لاحقاً بشكل رسمي إلى المديرية العامّة للطيران لتسجّله لديها وترفعه إلى وزير الأشغال العامّة والنقل. علماً أنّ الشركة تتابع عملها في إدارة السوق الحرّة بموجب التجديد لها سابقاً حتى شباط 2023.
فما الذي حصل في المزايدة الملغاة؟ ما هي المخالفات التي رصدتها الهيئة؟ هل من حكاية فساد جديدة؟ وما هي المعطيات القانونية لمسار الملفّ؟
بدأ المسار الإجرائي للملفّ، كما يلخّصه رئيس هيئة الشراء العامّ جان العلّيّة لـ”أساس”، مع إرسال الهيئة مندوبها لحضور جلسة التلزيم وتسجيل الملاحظات والاطّلاع على الملفّات وتقديم تقرير في نهاية المطاف لرئيس الهيئة الذي سيكون له، عقب اطّلاعه على التقرير، أن يحفظه وتُكمل المزايدة طريقها في حال عدم ملاحظة أيّ مؤشّرات خلل، أو أن يتّخذ إجراءات لتصحيح مسار المزايدة في حال ملاحظة هذه المؤشّرات.
كان من الإجراءات التي قامت بها الهيئة طلب الملفّ كاملاً من وزارة الأشغال للاطّلاع عليه والتدقيق فيه، وبنتيجة الاطّلاع والتدقيق تبيّن أنّ تقرير المندوب دقيق، وأنّ “هناك عرضاً لشركة ما، غير منطبق على أحكام دفتر الشروط، ولم يكن جائزاً قبوله”، وعليه كان كتاب الهيئة الأخير بطلب إعادة النظر بالمزايدة.
حجم أعمال شركة أسقط “المزايدة”
لا يتوسّع العلّيّة في تفاصيل المخالفات، ويكتفي بذكر مخالفة واحدة على سبيل المثال لا الحصر: “رقم الأعمال المطلوب في دفتر الشروط للاشتراك في المزايدة هو 60 مليون دولار، وهذه الشركة رقم أعمالها بحدود 7 ملايين دولار وتستعير الباقي من مجموعة هويّتها غير واضحة في الملفّ”. ورقم الأعمال يعني مبيعات الشركة السنوية.
يوضح العلّيّة أنّ المسألة لم تكن بين الهيئة والوزير أبداً، لكن وفق القانون لا تخاطب الهيئة لجنة التلزيم، فالأخيرة مستقلّة تماماً بعملها عن الوزير وعن أيّ وزير: “لذلك أرسلنا إلى الوزارة المعنيّة كتاباً يطلب ضرورة إعادة النظر بالمزايدة، وذلك في إطار قيامنا بدورنا في تقديم المعلومات التي تساعده على أن يتّخذ القرار”.
ترى “باك” أنّه بناءً على ما تقدّم ونُشر في الإعلام، يتّضح أنّ وراء كلّ ما يثار أطماعاً ومصالح شخصية، لكنّها أكّدت للوزير التزامها بأيّ قرار يتّخذه لاقتناعها بأنّ الوزير يريد مصلحة المطار والخزينة
عليه جاء قرار الوزير غير مخيّب للآمال، إذ ألغى نتيجة المزايدة العلنية، وفقاً للمادة 25 من قانون الشراء العام، معلناً بدء الإجراءات لافتتاح مزايدة جديدة على أن يكون سعر الافتتاح بالدولار الأميركي، وذلك لضمان رفد الخزينة العامة بأعلى قدر ممكن من الموارد المالية. علماً أنّ الوزير غير ملزم وفق القانون بتنفيذ توصية هيئة الشراء العام، كما يؤكّد العليّة، وكان بإمكانه رفض التوصيات وإرسال الملفّ إلى الرقابة المسبقة لديوان المحاسبة. ويكون للديوان الكلمة الفصل بعد الاطّلاع على كامل تفاصيل الملف ووجهتَيْ نظر الوزارة والهيئة.
لـ”باك” رأيها المختلف
شركة باك لَها رأيها المختلف في القضية. توضح إدارتها في حديث خاص لـ”أساس” أنّ الشركتين تقدّمتا للاشتراك في المزايدة بتاريخ 27 أيلول الماضي، وعند فضّ العروض تمّ تأهيل الشركتين المتقدّمتين بالعرض، وذلك بموافقة جميع أعضاء اللجنة وبحضور مندوب الهيئة، ولم يكن هناك أيّ تحفّظ “بدليل المباشرة بفتح العرض المالي للشركتين، وبموجبه أُعلِنت شركة باك الرابح المؤقّت للمزايدة”.
توضح “باك” أنّه بعد إجراء المزايدة رأى رئيس هيئة الشراء العام أنّ مستندات الشركة الثانية التي تقدّمت للمزايدة لم تكن متناسبة مع دفتر الشروط، وهو ما يمنعها من التأهّل للاشتراك في المزايدة: “فاقترح إمّا إعادة المزايدة أو الاتفاق بالتراضي مع شركتنا لأنّها الوحيدة المتبقّية التي تقدّمت للمزايدة وتأهّلت”.
تؤكّدةً مصادر “باك” لـ”أساس” أنّها ملتزمة بدفتر الشروط الذي ينصّ بصورة واضحة في المادّة الثامنة منه على ما يلي: “يحقّ للمالك ودون أيّ تبرير للعارضين عدم تصديق الالتزام المؤقّت، وإعادة التأمين المؤقّت إلى أصحابه وإعادة طرح المزايدة إذا ما رأى المالك مصلحة في ذلك، دون أن يكون للملتزم المؤقّت أو للمشترك في المزايدة أيّ حقّ بالمطالبة بأيّ تعويض أو ضرر لأيّ جهة كانت. ويمكن للعارضين استعمال إيصال بدل الحصول على دفتر الشروط الخاص بالمزايدة الملغاة للاشتراك بالمزايدة الجديدة”.
لهذا ترى “باك” أنّه بناءً على ما تقدّم ونُشر في الإعلام، يتّضح أنّ وراء كلّ ما يثار أطماعاً ومصالح شخصية، لكنّها أكّدت للوزير التزامها بأيّ قرار يتّخذه لاقتناعها بأنّ الوزير يريد مصلحة المطار والخزينة.
عليّة: حتى لو أنّ العارض المخالف لم يكن هو الفائز في المزايدة، لكن كهيئة رقابية لا يمكن أن نقبل بعرض ثانٍ مخالف للقانون
كي لا تتكرّس أعراف مُخالفة
يرحّب العلّيّة بقرار الوزير، ويؤكّد أنّه قرار أظهر حرصاً على تطبيق القانون ودعم المؤسسات الرقابية “ويفتح الباب للتعاون الجدّي بين الهيئة والوزارة في المزايدات المقبلة، وتفادينا به سابقة في الصفقات العمومية، لأنّنا لو أبقينا على المزايدة لكرّسنا الحقّ للعارض المخالف وخسرنا مصداقية التلزيم في الوزارات”.
للتوضيح يضيف عليّة: “حتى لو أنّ العارض المخالف لم يكن هو الفائز في المزايدة، لكن كهيئة رقابية لا يمكن أن نقبل بعرض ثانٍ مخالف للقانون يغطّي عرضاً مطابقاً لأنّ هذا سيكرّس الحقّ للمخالِف بأن يستفيد من القانون الذي يقول إنّه لا يجوز رفض عارض مستوفٍ للشروط سبق قبوله، عدا أنّ هذا يُعتبر تنافسياً صورياً”.
تلمّح مصادر متابعة إلى ضغوط سياسية عديدة مورست لعدم إعادة المزايدة، والإبقاء عليها بأخطائها، لكنّ مصادر وزارة الأشغال في حديث لـ”أساس” تشير إلى أنّ الوزير لم يخضع يوماً للضغوط السياسية ولا لغيرها ولن يخضع لها “ولا نسمح لأحد أن يمارس علينا أيّ نوع من الضغوط، لأنّ الوزير موجِّهه الأساسي هو القانون، ويخضع للقانون فقط لا غير”.
استثمرت شركة “باك” السوق الحرّة لنحو 20 سنة بمبلغ 17 مليون دولار سنوياً فقط. لكن بموجب المزايدة التي حصلت بإشراف إدارة المناقصات ورئيسها جان العليّة في عام 2017 أصبحت الشركة تدفع للدولة 100 مليون دولار سنوياً، في قفزة لافتة في السعر، لكن على سعر صرف 1500 ليرة.
خسائر سببها فارق الأسعار بين الليرة والدولار
أمّا في المزايدة الأخيرة فرست بالليرة اللبنانية على شركة “باك”، بمبلغ لا تتجاوز قيمته مقارنة مع سعر السوق السوداء 50 مليون دولار، وذلك بعدما أطلق وزير الأشغال علي حمية المزايدة في تموز الماضي، بسعر افتتاح هو 850 مليار ليرة لبنانيّة، وعن كلّ راكب مسافر 3.5 دولارات.
تجدر الإشارة إلى أنّ مراسلات عديدة وجّهتها هيئة الشراء العام إلى وزارة الأشغال وجميع الوزارات، تؤكّد ضرورة تحديد سعر الافتتاح بالدولار أو بالليرة اللبنانية مع ربطها بسعر صرف الدولار في السوق السوداء، لأنّ المستثمر يتقاضى من المواطن بالدولار أو باللبناني بما يعادل سعر السوق السوداء: “ولا يمكنني أن أرضى بأيّ شكل بذلك لأنّ المواطن اللبناني يدفع كلّ تكاليف معيشته بالدولار… ولا يمكن للدولة أن تتقاضى من المواطن بالدولار وتتقاضى من المستثمر بالليرة ثمّ تدفع له بالدولار”، بحسب العليّة الذي يضيف أنّ “المادة الخامسة من قانون الشراء العام نصّت على إمكانية التعاقد بالعملة الأجنبية، وعلى أن تُحدّد في العقد طريقة الدفع”.
أمّا إذا كان التعاقد لسبب ما بالعملة الوطنية، فيقترح العليّة “وجوب تضمين دفتر الشروط بنداً يحافظ على قيمة السعر المتّفق عليه بالليرة، كأن ترتفع الحصة التي تأخذها الدولة من المستثمر، بقدر النسبة التي يزيد فيها المستثمر سعر خدماته على المسافر أو المواطن، وذلك من وجهة نظر حقوق الدولة، ولا سيّما أنّنا نتحدّث عن مزايدة، وهذا يعني أن المستثمر هو الذي يدفع للدولة”.
إقرأ أيضاً: بالوثائق: “صهر صغير” يتحكّم بوزارة الاتّصالات ووزيرها!
أما عن إعادة الاشتراك في المزايدة الجديدة فتقول “باك”: “مشاركتنا تتوقّف على عدّة أمور، ويجب أن نوضح هنا أنّ إعادة المزايدة تشكّل إجحافاً بحقّ الشركة لناحية أنّ تسعيرها لبدل الاستثمار قد كُشف، وهذا يشكّل disadvantage لها وadvantage للآخرين”.
تتخوّف الشركة من أن يكون هناك مَن يحاول التشهير بهذه المزايدة، فهذا الأمر يشكّل ضرراً بالمستثمرين اللبنانيين “الذين يغامرون بالاستثمار في بلدهم على الرغم من الظروف السيّئة التي يمرّ بها لبنان، علماً أن الشركات الأجنبية متردّدة في الاشتراك بهذه المزايدة وغيرها نظراً إلى ظروف البلد الاقتصادية المتردّية”.
لمتابعة الكاتب على تويتر: Nahla_Nasredine@