“الهواة يدرسون التكتيكات، والمحترفون يدرسون اللوجيستيات Amateurs study tactics, professionals study logistics”، حسب ما جاء عن الجنرال الأميركي عمر برادلي Omar Bradley (تُوفّي عام 1981)، الذي اشتهر بقيادته الجيوش الأميركية خلال الحرب العالمية الثانية. وهذا بالضبط ما يعبّر عن نقطة ضعف الجيش الروسي في الحرب على أوكرانيا. وتكشف المعادلة نفسها عن استراتيجية الجيش الأوكراني في التغلّب على جيش أكبر منه، وأفضل تجهيزاً من حيث الكمّ والنوع.
كانت معركة كييف ترجمة صادقة وفعّالة لهذه الاستراتيجية. قام الأوكرانيون باستغلال شكل الاختراقات الروسية الطوليّة في الشمال الشرقي والشمال الغربي نحو كييف، مع انكشاف أجنابها، انطلاقاً من بيلاروسيا المجاورة، أي القوافل الطويلة على الطرق الرئيسية، من أجل تقطيعها، واستهدافها بحرب عصابات منهكة في البرّ، وبالطائرات المسيّرة القاتلة جوّاً، فأسفرت المواجهة القصيرة نسبيّاً (بين 25 شباط و2 نيسان) عن قرار موسكو الانسحاب من محاور الشمال، من طرف واحد، وإعادة تشكيل الوحدات المتضرّرة تمهيداً لنقل المعركة إلى الشرق في الدونباس. كانت عملية إمداد القوات الروسية بالغة السوء، وهي الأمور اللوجيستية التي يعتمد عليها أيّ جيش. وقد فاقم الأوكرانيون من فداحة الثغرة الخطيرة، من خلال تجنّب المواجهة المباشرة مع وحدات الجيش الروسي المتقدّمة، والاكتفاء بالمقاربة غير المباشرة للعدوّ، لاستنزاف قوّته ومعنويّاته ودفعه إلى الانسحاب من طرف واحد تحت نيران العدوّ.
مع النكسة الثالثة على التوالي، عادت التكهّنات عن عواقب الحملة العسكرية الفاشلة على المصير السياسي لسيّد الكرملين
في معركة الدونباس (مقاطعتَيْ دونيتسك ولوهانسك)، استعاد الروس زمام المبادرة، عندما خاضوها على طريقتهم، فطرق الإمداد من روسيا شرقاً موفورة ومؤمّنة، والتفوّق الناري هائل (في بعض الأحيان أطلق الروس عشر قذائف مقابل كلّ قذيفة أوكرانية)، وساحة المعركة عبارة عن خنادق وتحصينات ثابتة منذ حرب 2014، ولا مجال للمناورة الأوكرانية في سهول مفتوحة بعيداً عن هدير نهر دنيبر العظيم. فكانت معركة استنزاف قاسية للطرفين دامت بشكل رئيسي بين 18 نيسان و4 تموز، قبل أن تصل راجمات الصواريخ الأميركية من طراز HIMARS، فتقلب صفحة الاستنزاف من الجانب الأوكراني إلى الجانب الروسي (20 راجمة أميركية فقط وبعض الراجمات الأوروبية). لقد جرى قصف أكثر من 400 هدف روسي بعيداً عن جبهة القتال في الشرق والجنوب، ما بين مركز قيادة وتحكّم، ومستودعات ذخيرة، ومواقع احتشاد الجنود، وهو ما أدّى إلى أمرين متلازمين:
– الأوّل نضوب الزخم التذخيري للقوات الروسية ووقف تقدّمها في مقاطعة دونيتسك بعد إكمال احتلالها لمقاطعة لوهانسك، أو إبطاؤه.
– والثاني تمهيد الأرض للهجومين الأوكرانيَّين السريعين والناجحين، اللذين كان أوّلهما في مقاطعة خاركيف (بين 6 و11 أيلول) وجرت خلاله العودة الأوكرانية إلى أطراف لوهانسك، بعد خوض معركة ليمان الحاسمة (بين 10 أيلول و2 تشرين الأول)، وثانيهما في مقاطعتَيْ خيرسون وميكولايف وجرى على مرحلتين:
1- بين 29 آب و9 تشرين الثاني، حيث تحرّرت مساحة 1,170 كلم مربّع.
2- في 9 تشرين الثاني الحالي عندما أعلنت وزارة الدفاع الروسية سحب قواتها من الضفّة اليمنى من نهر دنيبر بما فيها مدينة خيرسون الاستراتيجية، وفيها تحرّر 4,900 كلم مربّع تقريباً.
وفي كلا الهجومين، قضى التكتيك بضرب عقدة المواصلات، لعرقلة الإمدادات، وحصار القوات الروسية من دون الاشتباك المباشر معها إلا في اللحظات الحاسمة، أي ضرب عقدة السكك الحديدية في إيزوم في خاركيف، وضرب عقدة المواصلات المائية في خيرسون وشبه جزيرة القرم، أي الجسور الرئيسية فوق نهر دنيبر، واستهداف جسر كيرتش Kerch بين البرّ الروسي وشبه جزيرة القرم في 8 تشرين الأول الماضي بشاحنة مفخّخة، وهو أطول جسر في أوروبا بطول 19 كلم تقريباً، مع تهديد خطّ السكك الحديدية جنوب زابوروجيا، وهو خطّ المواصلات البديل.
دور قائد الجيش زالوجني
اعتمدت الاستراتيجية الأوكرانية عامّة على الدفاع بشكل أساسي لاستنزاف الروس قدر الإمكان، قبل شنّ الهجوم النهائي في الجبهات. وهذه ميزة قائد الجيش الأوكراني فاليري زالوجني Valeriy Zaluzhny (48 عاماً) الذي عيّنه الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي Volodymyr Zelensky (44 عاماً) في منصبه في أواخر تموز عام 2021، فتمكّن في مدّة وجيزة من تبديل الاستراتيجية العسكرية من الهجوم إلى الدفاع، كما يقول في مقابلة خاصة معه في مجلّة التايم Time الأميركية في 28 أيلول الماضي، حيث خُصّصت له صفحة الغلاف تحت عنوان “الجنرال The General”. فهو بخلاف رئيسه زيلينسكي، كان يعتقد أنّ الغزو الروسي مسألة وقت. وعندما كان معظم الخبراء والسياسيين في أوكرانيا والعالم يستبعدون هجوم بوتين على أوكرانيا، كان للجيش والاستخبارات في أوكرانيا رأي آخر. وعلى هذا الأساس، قام زالوجني بمناورات تدريبية قبل الغزو الروسي، تقوم على الدفاع على وجه التحديد، والتخلّي عن الرغبة الجامحة بالهجوم. إلى ذلك، استطاع قائد الجيش الأوكراني خداع الروس، حين طلب من الضباط ممارسة حياتهم اليومية وكأنّ الحرب بعيدة الاحتمال، من أخذ الإجازات، والكتابة في وسائل التواصل وما إلى ذلك، وشتّت معدّاته العسكرية الحيوية في أماكن متفرّقة، ولا سيّما الطائرات، التي سيكون لها دور فاصل في حماية الأجواء، وحرمان الروس من الهيمنة الجوّية.
اعتمدت الاستراتيجية الأوكرانية عامّة على الدفاع بشكل أساسي لاستنزاف الروس قدر الإمكان، قبل شنّ الهجوم النهائي في الجبهات
لذلك، حين أطلق بوتين عمليّته الخاصة في 24 شباط الماضي، بإنزال قوات النخبة من المظليّين في مطار هوستوميل Hostomel شمال غرب كييف، وإرسال قواته الخاصة إلى كييف نفسها لاعتقال زيلينسكي أو قتله، وإقامة حكومة موالية لموسكو، فوجئ بالاستعداد الأوكراني للقتال بشراسة. وذلك على الرغم من أنّ الرئيس الأوكراني لم يتّخذ الإجراءات المناسبة قبل الغزو لتحصين نقاط الحدود، أو تلغيمها، ولا أعلن حالة الطوارئ مسبقاً، بل إنّ المقرّ الرئاسي في كييف الذي تحصّن فيه الرئيس ومساعدوه، لم يكن مجهّزاً بعوائق إسمنتيّة. بالمقابل، توقّعت الدوائر الاستخبارية الغربية سقوط كييف خلال أيام قليلة، وعرضت واشنطن ولندن على زيلينسكي نقله إلى بولندا لرئاسة حكومة منفى ومواصلة القتال، فكان جوابه المشهور: “أريد ذخيرة، لا توصيلة I need ammunition, not a ride”.
في تلك اللحظات الحاسمة، التي حمل فيها الرئيس ومساعدوه أسلحة رشّاشة للدفاع عن النفس، ومعظمهم لا يعرف استعمالها، هي التي صنعت لاحقاً فشل روسيا ونجاح أوكرانيا.
الأهميّة الاستراتيجيّة لخيرسون
هزيمة خيرسون، هي الثالثة من نوعها، بعد كييف وخاركيف، فهل تكون الضربة القاصمة لسمعة بوتين؟
لنراجع أوّلاً، أحداث الأيام الأخيرة، وأهمّية خيرسون نفسها. مدينة خيرسون هي أكبر مدينة أوكرانية احتلّها الروس في 1 آذار الماضي، أي في الأسبوع الأوّل من الغزو. وهي عاصمة الإقليم الذي يحمل اسمها، وهي قاعدة بناء السفن الكبرى. بلغ سكّانها قبل الغزو الروسي حوالى 284 ألف نسمة. وبحسب الإحصاء الرسمي لعام 2001، يشكّل الأوكرانيون 76.6% من سكّانها، مقابل 20% من الروس.
تقع جغرافيّاً على البحر الأسود وعلى نهر دنيبر Dnieper الذي هو رابع أطول نهر في أوروبا (2,200 كلم) بعد الفولغا والدانوب والأورال. ينبع من روسيا ويسير 480 كلم، قبل أن يدخل بيلاروسيا ويقطع مسافة 600 كلم، ثمّ يتابع بقيّة رحلته المتعرّجة في أوكرانيا. يُحيط بالعاصمة كييف على شكل مثلّث منفرج القاعدة، موفّراً لها الحماية الطبيعية شرقاً وغرباً، وهو كان أحد عوامل تعثّر الحملة الروسية المبكرة في 24 شباط الماضي على كييف، إذ فشلت الجحافل الزاحفة في الإطباق عليها، مع تدمير الجسور والسدود وإغراق السهول بالمياه. وينزوي النهر جنوباً نحو زابوروجيا حيث المفاعل النووي الشهير، فإذا انقطعت عنه مياه النهر المستجرّة منه، ارتفعت حرارته. فإذا ما انفجر، هدّد ذاك الجزء من أوروبا بالتلوّث الإشعاعي الطويل الأمد. وينحرف النهار غرباً نحو مدينة خيرسون قبل أن يحطّ رحاله في البحر الأسود.
هذه الطوبوغرافيا الفريدة سهّلت على الأوكرانيين أوّلاً عرقلة احتلال المدينة أواخر شباط الماضي، لولا خيانة بعض ضبّاط الاستخبارات الأوكرانية آنذاك. مع ذلك، اضطر الروس إلى الالتفاف حول المدينة والتوجه شمالاً لاحتلال بلدة نوفا كاخوفكا، بعد الفشل الأوّليّ في احتلال جسر أنطونوف. وهذا النهر نفسه كان إلى جانب الأوكرانيين أيضاً، عندما بدأوا الهجمات المضادّة في الجنوب، فالاندفاع السريع عشرات الكيلومترات على طول الضفّة اليسرى للنهر لم يكن لينجح لولا هذا العائق الطبيعي، الذي يمنع الروس من المناورة المضادّة لوقف الهجوم أو الالتفاف عليه. أمّا سياسياً، فقد كان الروس يعوّلون على دمج المقاطعة وعاصمتها بروسيا، لوجود نسبة مهمّة من الناطقين بالروسيّة فيها. ومن أجل تشريع الضمّ، نظّم الجيش الروسي استفتاءات عامّة في المناطق الأربع التي جرى ذكرها، أي دونيتسك ولوهانسك وزابوروجيا وخيرسون، في أيلول الماضي، واعتُبرت خارجيّاً غير ذات قيمة، لأنّها تحت الاحتلال المباشر. ومع ذلك، جاءت نتيجة استفتاء مقاطعة خيرسون أكثر من 87%. على أنّ الاستقبال الشعبي الحارّ للقوات الأوكرانية بعد تحريرها، يوجّه ضربة معنوية وسياسية هائلة للدعاية الروسية عن الاضطهاد الأوكراني العنصري لتلك المناطق.
حين أطلق بوتين عمليّته الخاصة في 24 شباط الماضي، فوجئ بالاستعداد الأوكراني للقتال بشراسة
مآل الكرملين
مع النكسة الثالثة على التوالي، عادت التكهّنات عن عواقب الحملة العسكرية الفاشلة على المصير السياسي لسيّد الكرملين. والخطر هذه المرّة، لا يأتي من الليبراليين الموالين للغرب أو القريبين من منطق الديمقراطية السياسية، بل من المعسكر اليميني القومي الواقف على يمين بوتين، ويزايد في مواقفه المتشنّجة على بوتين نفسه.
صدمة خيرسون ما زالت في بداياتها، وظهرت انتقادات عدّة من مؤثّرين روس في الإعلام القديم والحديث، ومنها تصريح لمنظّر الجيوبوليتيكا الروسية ألكسندر دوغين على وسائل التواصل الاجتماعي، يغمز فيه من طرف الرئيس الروسي، ويحمّله مسؤولية الفشل، بل عواقب إجهاض الحلم الإمبراطوري الروسي، بسبب الفساد والخذلان وعدم الكفاية، والخطط العسكرية الرديئة، والأداء المتواضع بالمقارنة مع السمعة المتوارثة عن هيبة الجيش الأحمر في الحرب العالمية الثانية، ومنها دور الروس في تحطيم أفضل جيش أوروبي في ذلك الوقت، الجيش الألماني النازي Wehrmacht. ويطرح الخبراء في الشأن الروسي ثلاثة مخارج من المأزق الروسي الحالي من دون أن يعني وصول بديل أفضل من بوتين في ظلّ المناخ القومي السائد في موسكو:
– أوّلاً، إسقاط بوتين في الشارع. وهذا احتمال بعيد حالياً، لشدّة الأجهزة الأمنيّة، ولأنّ كثيراً من المعارضين غادروا البلاد فراراً من التجنيد الإلزامي.
– ثانياً، إسقاط بوتين بتضافر قوى الجيش والأمن. وهذا احتمال بعيد أيضاً، لأنّ بوتين أنشأ أجهزة أمنيّة متصارعة، وتحكّم بالقيادات العسكرية ومراكز النفوذ فيها.
– ثالثاً، انقلاب في القصر من جانب أقرب مساعديه. وهذا أمر غير قريب أو عنصر مجهول في المعادلة.
إقرأ أيضاً: قاعدة مسيّرات إيرانية شرق سوريا لمواجهة التحالف الدولي..
يبقى احتمال رابع، وهو أن تتكاتف العناصر الثلاثة الأولى، في لحظة كيفيّة معيّنة، لكنّها ستكون بالتأكيد بداية فوضى كتلك التي شهدها الاتحاد السوفييتي بعد سقوطه أواخر عام 1991، وهذا ما تخشى منه أوروبا القديمة تحديداً، بخلاف أوروبا الشرقية المتحالفة بقوّة مع كييف.
لمتابعة الكاتب على تويتر: HishamAlaywan64@