وأنتَ تدخل إلى هذا النصّ، بعينك اليمنى، عليكَ أن تعرف أنّه لا يناقش في أصول الدين ولا في فروعه. ولا حتّى في الإيمان أو التديّن. هذا مقال يحاول الإجابة على سؤال محدّد: الحملة ضدّ “العمامات في إيران.. هل هي موجّهة ضدّ الدين نفسه؟ أو ضدّ ارتكابات بعض رجال الدين؟
منذ أيام، يحاول بعض المتحمّسين (أو قُل: الخائفين) على مواقع التواصل الاجتماعي، أن يعمّموا خلطاً غير بريء، بين “العمامة” الدينية، التي يلبسها رجل الدين المسلم (والشيعي تحديداً في هذا النقاش)، وبين الرجل الذي يجلس داخل العمامة.
لطالما “هرب” العاملون في الشأن السياسي من الوقوف تحت سقف النقد البشري، بالتنكّر في أزياء عديدة:
– بعضهم يضع البدلة العسكرية في مواجهة المواطنين الغاضبين من سلوكه وقراراته. فنراه يحيل الاعتراض عليه إلى “اعتداء على الجيش” مثلاً، في هذه الدولة أو تلك.
– والبعض يختبىء خلف طائفته، فنراه يحيل الاعتراض على فساده أو على المنهبة التي يديرها هو وحاشيته، ليوهم محازبيه ومناصريه أنّه “اعتداء على الطائفة”، وربما على الله حتّى.
– البعض يخترع “فكرة” ويحتكرها. على سبيل المثال كان في لبنان أحزاب كثيرة “تقاوم” إسرائيل. وفكرة “المقاومة” عمرها من عمر التاريخ. كلّ إنسان “يقاوم” دفاعاً عن أرضه وماله وعائلته ووطنه وأفكاره… يأتي حزب ويحتكر “فعل المقاومة” العسكري، وبعدها يصير أيّ اعتراض على سلوك أفراد أو جماعات فاسدة في هذا الحزب، هو اعتراض على “المقاومة”. في خلط كيدي يستغبي عقول الناس. ويصير أيّ اعتراض على تدخّل “سلاح” هذا “المقاوم” في تعيين الرؤساء والوزراء والمدراء، هو اعتراض على “فكرة المقاومة” نفسها، وربما على الله لاحقاً، باعتبار أنّ هذا الحزب “ديني”.
في إيران نظام ديني. يحكمه رجال الدين في كل المستويات، في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والاجتماعية
– وهناك حالات عديدة، بينها رجال الأعمال الذين إذا حكموا يتّهمون معارضيهم بأنّهم يريدون ضرب الليبرالية والرأسمالية، أو أبناء العائلات السياسية التي استشهد أحد أبنائها، فتقول للمعترضين إنّ “الهجمة هدفها قتل الشهيد مرّتين”… ولا ننتهي.
كلّ هذه وصفات سريعة، وجاهزة، ليتهرّب الفاسد أو المستبدّ، من غضب الناس، الجائعين أو الثائرين لكرامتهم أو لأيّ سبب من الأسباب، ويختبىء خلف “فكرة” أو “زيّ تنكريّ” ما…
“طوق” العمامة
في إيران نظام ديني. يحكمه رجال الدين في كل المستويات، في السلطة التنفيذية والتشريعية والقضائية والأمنية والعسكرية والمالية والاقتصادية والاجتماعية. وبالتالي أيّ اعتراض على السلطة، سيكون من السهل، وفوراً، أن تحوّل صورته الآلة الدعائية للنظام إلى صورة “الاعتراض على الدين” أو حتّى على الله نفسه. خصوصاً أنّ المرشد الأعلى في إيران هو نائب الإمام المهدي المنتظر، الذي سيعود من غيبته الكبرى ليملأ الأرض قسطاً وعدلاً.
لنعد إلى الواقع قليلاً.
رجل الدين في أيّ مكان في العالم، وفي أيّ دين، هو إنسان عادي. تقول النكتة في لبنان، إنّه في القرى البعيدة، من فشل في أن يكون ضابطاً، أو محامياً، أو طبيباً، لأنّه كسولٌ في الدراسة أو ضعيف فيها، ثم لم تعجبه المهن اليدوية، أو لم يبرع فيها، لا يعود أمامه سوى أن يكون رجل دين، أيّا كان هذا الدين في بلادنا. وفي لبنان، هي طريق سريعة وسهلة لجني المكانة الاجتماعية والمال الوفير، دون جهد أو عرق.
هذا الرجل حين يضع العمامة فوق رأسه، في بلاد يحكمها باسم الدين، فهو يخلط تحتها صفته كوسيط بين الناس وبين النصوص الدينية، أو بين وظيفته كرجل يزوّج ويطلّق ويعطي النصائح الدينية حول الإرث وحقوق المطلّقة، وبين دوره السياسي كرجل سياسة.
في إيران، انتشرت “موضة” بين الثائرين منذ أشهر، هي أن يلاحقوا الرجال العاديين، ممن يلبسون العمامات، وبخفّة يد وسرعة، وبضربة خفيفة غير مؤذية، يرفعون العمامة ويرمونها على الأرض، في إشارة إلى الاعتراض على تحكّم رجال الدين بالفضاء الاجتماعي والسياسي.
لا يبدو أنّ هؤلاء الثائرين يحملون “أجندة” إلحادية، أو اعتراضية على الدين نفسه، أو على فكرة التوحيد أو الإيمان. فالثورة في إيران هذه الأيام هي ثورة اجتماعية وسياسية، ضدّ الحكّام، وقد صادفت أنّهم رجال الدين. كان يمكن أن يكونوا رجال الجيش أو رجال أعمال في دولة أخرى.
المقاومة… وأحزابها
في لبنان، شارك بعض الناشطين الصورة التي يشاركها هذا المقال أعلاه. شاركوها وبعضهم متديّن أو ملتزم دينياً. لكنّها تركت حيرة لدى بعض السنّة أو المتديّنين من الشيعة. بدا أنّها “تهين” الدين. لكنّ هذا استنتاج ظالم.
الخلط بين الدين وبين رجل الدين هو تماماً ما يريد الثائرون في إيران التخلّص منه. يريدون القول إنّ ثورتهم ليست ضدّ الدين، بل ثورة ضدّ الرجل المستبد وهو يلبس لبوس الدين. لهذا “يطيّرون” عمامته، ليخلع الزيّ الديني، ويعود رجلاً عادياً، مسؤولاً هو ونظامه عن مقتل “مهسا أميني” وعن مقتل المئات والآلاف من الثوّار.
اليوم يثور الإيرانييون على الزيّ وليس على الفكرة، على الاستبداد المتنكّر بالدين وليس على العمامة
لذلك فإنّ هذه الصورة لا تستهدف فكرة العمامة وفكرة الدين، بل تستهدف المنطق المسؤول عن مقتل من يعبّرون عن آرائهم، من مهسا أميني إلى لقمان سليم مروراً بكلّ الذين قتلوا في العراق منذ ثورة 2019 إلى اليوم، وليس انتهاءً برفيق الحريري ومحاولة قتل مروان حمادة واغتيال جبران تويني وسمير قصير وغيرهم.
الخلط في هذه الصورة الذي يحاول بعض الجهابذة على مواقع التواصل الاجتماعي اصطناعه، هو خلطٌ يأتي في سياق قتل مهسا أميني، في هذا السياق تحديداً. في سياق الترهيب والتخويف والتهديد بالقتل في حال تجرّأنا على المستبد، أيّاً كان اسمه، فقط لأنّه يلبس زيّاً تنكريّاً في محاولته الهرب من تحمّل المسؤولية.
17 تشرين… وتضامن بيروت
ثورة 17 تشرين الأوّل 2019 في لبنان قامت على طرد السياسيين وبعض رجال الدين من الساحات، قامت على نبذ أُضحوكة وأٌهزوجة التعانق بين الهلال والصليب في الساحات. هذه الكذبة التي انطلت على أجيالٍ من قبلنا ولم تعد تنطلي علينا.
اليوم يثور الإيرانييون على الزيّ وليس على الفكرة، على الاستبداد المتنكّر بالدين وليس على العمامة، وهذه الصورة أعلاه ليست اعتداءً لا على التشيّع ولا على الدين ولا على الإمام عليّ ولا على الحسينيّة التاريخية التي ينهل من بحرها ملايين حول العالم، شيعةً وغير شيعة.
أمّا محاولة ترهيب الناشطين إذا شاركوا هذه الصورة للتضامن مع الشعب الإيراني، تضامناً أعزل ومدنياً وتضامناً حرّاً وتضامناً لا يرتبط بأيّ فعلٍ تنفيذي سوى التضامن نفسه… أيّ ترهيبٍ للناشطين الذي يشاركون هذه الصورة هو انضمام إلى المستبد المتنكّر برجل الدين من إيران إلى بيروت.
إقرأ أيضاً: الرئيس اللبنانيّ… و”تغيير المناخ” مع إسرائيل
تبقى ملاحظة أخيرة: إنّ شعور بعض اللبنانيين برغبة عارمة في التضامن مع ثورة مهسا أميني هو شعورٌ طبيعيّ. لأنّ ما يعاني منه الإيرانيون هو نفسه ما يعاني منه لبنان. نحن ضحية النظام نفسه، الحزب نفسه، الزيّ التنكّري نفسه، الاستبداد نفسه.
نحن إذا تضامنا فلا نقصد الإساءة للدين بل نقصد الإساءة لهؤلاء المتنكّرين به.
لذا اقتضى التوضيح..