إحياء الطائف يحتاج إلى لحظة إقليميّة

مدة القراءة 5 د

وُلد اتفاق الطائف في لحظة إقليمية معيّنة وضُرب في لحظة إقليمية معيّنة أيضاً. يحتاج لبنان إلى لحظة إقليمية أخرى مختلفة من أجل استعادة الطائف في وقت تبدو المنطقة مقبلة على تحوّلات كبيرة.

تعني المحافظة على الطائف الكثير بغضّ النظر عن الحاجة إلى إدخال تعديلات محدّدة عليه تفادياً لتكرار تجربة عهد ميشال عون – جبران باسيل الذي استفاد من كلّ ثغرة في الطائف والدستور المنبثق عنه من أجل تدمير كلّ المقوّمات التي قام عليها البلد.

لعلّ أكثر ما يدلّ على ذلك أنّ لبنان أمضى نصف العهد العوني – الباسيليّ من دون حكومة. لا يزال لبنان يعيش في ظلّ حكومة تصريف أعمال في ضوء إصرار الثنائي الرئاسي، صنيعة “حزب الله”، على فرض شروط معيّنة على رئيس الوزراء المكلّف نجيب ميقاتي. من بين هذه الشروط فرض وجود عدد من الوزراء المسيحيّين يمثّلون، مثلهم مثل نواب “التيار العوني”، حثالة الطبقة السياسية دون المتوسّطة في الطائفة.

وُلد اتفاق الطائف في لحظة إقليمية معيّنة وضُرب في لحظة إقليمية معيّنة أيضاً. يحتاج لبنان إلى لحظة إقليمية أخرى مختلفة من أجل استعادة الطائف في وقت تبدو المنطقة مقبلة على تحوّلات كبيرة

يظلّ أوّل ما يعنيه الطائف المحافظة على الوجود المسيحي في لبنان بدل تحويل مسيحيّي لبنان إلى ما يشبه مسيحيّي سوريا، الذين صاروا في خدمة النظام العلوي القائم منذ عام 1970 ومجرّد تابعين له. مثل هذا الطموح قائم لدى “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران وممثّلها في لبنان، خصوصاً بعدما ورثت إيران الوصاية السوريّة على لبنان.

يمكن تفادي الاعتراف بأنّ الحزب، الذي ليس سوى لواء في “الحرس الثوري” الإيراني، نجح إلى حدّ كبير في توجيه ضربات متتالية إلى الطائف. استغلّ إلى حدّ كبير البداية المتعثّرة لتطبيق الاتفاق الذي حظي بغطاء عربي ودولي منذ إقراره في خريف عام 1989. استفاد الحزب أوّل ما استفاد من وجود ميشال عون في قصر بعبدا كرئيس لحكومة مؤقّتة لا مهمّة لها سوى تسهيل انتخاب رئيس للجمهورية مع انتهاء ولاية الرئيس أمين الجميّل في أيلول من عام 1988.

ميشال عون واغتيال معوّض

لم يخدم ميشال عون، حليف صدّام حسين وقتذاك، إيران باعتراضه على الطائف وإصراره على خوض حربين مدمّرتين للبنان ولمسيحيّيه فقط. ذهب إلى أبعد من ذلك. رفض السماح لرينيه معوّض، وهو أوّل رئيس منتخب بعد الطائف، بالانتقال إلى قصر بعبدا. سهّل ذلك على النظام السوري، الذي كان على رأسه حافظ الأسد، مهمّة التخلّص من الرجل في منطقة رمل الظريف غير بعيد عن حديقة الصنائع. كان رينيه معوّض يمثّل باعتداله وعلاقاته العربيّة والدوليّة روح الطائف.

وُلد الطائف في ظلّ معادلة إقليميّة ودولية مرفوضة إيرانياً. لا يمكن تجاهل أنّ الطائف أُقرّ بعد سنة من شبه الهزيمة الإيرانيّة أمام العراق بعد حرب استمرّت ثماني سنوات. في الواقع، كان النظام السوري، باغتياله رينيه معوّض، أوّل من تمرّد على الصيغة الأصليّة للطائف، لكنّه ما لبث أن تكيّف معها بوجود الياس الهراوي في موقع رئيس الجمهوريّة وبفضل ميشال عون الذي عمل كلّ ما يستطيع عمله من أجل تمكينه من السيطرة على قصر بعبدا في الثالث عشر من تشرين الأوّل 1990.

لم يكن اغتيال رينيه معوّض التعبير الوحيد لرفض النظام السوري للصيغة الأصليّة للطائف، فقد استُتبع الاغتيال الذي استهدف رئيساً آخر للجمهوريّة باغتيال سياسي لحسين الحسيني، رئيس مجلس النواب وقتذاك، الذي لعب دوراً مهمّاً في التوصّل إلى الاتفاق اللبناني – اللبناني.

وجّه “حزب الله” ضربة إلى الطائف في أوّل فرصة أُتيحت له، وذلك بعد التقاط المشروع التوسّعي الإيراني أنفاسه في عام 2003 مع سقوط العراق في يد “الجمهوريّة الإسلاميّة” بفضل حرب أميركيّة.

لم يتخلّص الإيرانيون، عبر أداتهم اللبنانية، من رفيق الحريري، الذي يرمز إلى الطائف ولبنان العربي، كي يولد مجدّداً حنين إلى الاتفاق الذي أعاد الحياة إلى بيروت، وأعاد لبنانيين، خصوصاً من المسيحيين، إلى لبنان

كيف ننقذ الطائف؟

يُعتبر اغتيال رفيق الحريري جزءاً لا يتجزّأ من الانقضاض على الطائف المستمرّ منذ عام 2005. لا ينقذ الطائف سوى توافر ثلاثة أمور:

– يتمثّل الأمر الأوّل في قيام جبهة لبنانيّة واسعة في وجه الاحتلال الإيراني.

– يتمثّل الأمر الثاني في دعم عربي حقيقي لتلك الجبهة في ظلّ تخلٍّ دولي عن لبنان وعودة عربيّة، خصوصا سعودية، إلى الاهتمام بقطاعات لبنانيّة معيّنة، بما في ذلك الإعلام.

– أمّا الأمر الثالث فهو رهن ولادة توازنات إقليميّة جديدة في غير مصلحة إيران ومشروعها الذي تظلّ الهجمة الجديدة على العراق أفضل تعبير عنه.

تسجّل “الجمهوريّة الإسلاميّة” نقاطاً خارج حدودها، لكنّها تتراجع في الداخل الإيراني. تتقدّم في العراق، حيث باتت الحكومة، التي يرأسها محمد شياع السوداني، بمنزلة حكومتها. تتقدّم أيضاً في لبنان حيث استخدمت غطاء مسيحياً من أجل التوصّل إلى اتفاق ترسيم الحدود البحرية بين لبنان وإسرائيل. بعثت برسالة واضحة إلى واشنطن والأوروبيين. فحوى الرسالة أنّ مرجعية لبنان في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، أي في طهران، وليست اتفاق الطائف ودستوره.

من المفيد بقاء العبارة التي صدرت عن “حزب الله” في مؤتمر سان كلو، الذي رعته فرنسا قبل بضع سنوات، في الذهن. في ذلك المؤتمر الذي شاركت فيه أطراف لبنانيّة عدّة، لم يتردّد ممثّل الحزب في تذكير الآخرين بـ”أنّنا ورثنا عن السوريين دور الناظم للحياة السياسيّة في لبنان”.

إقرأ أيضاً: لماذا عاد الطائف من إغماءاته؟

لم يتخلّص الإيرانيون، عبر أداتهم اللبنانية، من رفيق الحريري، الذي يرمز إلى الطائف ولبنان العربي، كي يولد مجدّداً حنين إلى الاتفاق الذي أعاد الحياة إلى بيروت، وأعاد لبنانيين، خصوصاً من المسيحيين، إلى لبنان. تخلّصوا من الطائف كي يقولوا إنّ لبنان الذي عرفناه لم يعد قابلاً للحياة، بل صار أرضاً طاردة لأهلها.

من سيقف في وجههم وكيف؟ كيف يمكن إعادة الحياة إلى الطائف ولبنان العربي؟

مواضيع ذات صلة

رُمّانة ماجدة الرومي ليست هي السبب!

المطربة والفنانة اللبنانية الشهيرة ماجدة الرومي، كانت نجمة الأيام القليلة الفارطة، ليس بسبب إبداعها وجمال صوتها “الكريستالي”، ولا بروائع أعمالها الغنائية، وهي تستحق هذا كله،…

“استقلال” لبنان: سيادة دوليّة بدل الإيرانيّة أو الإسرائيليّة

محطّات كثيرة ترافق مفاوضات آموس هوكستين على وقف النار في لبنان، الذي مرّت أمس الذكرى الـ81 لاستقلاله في أسوأ ظروف لانتهاك سيادته. يصعب تصور نجاح…

فلسطين: متى تنشأ “المقاومة” الجديدة؟

غزة التي تحارب حماس على أرضها هي أصغر بقعة جغرافية وقعت عليها حرب. ذلك يمكن تحمّله لسنوات، لو كانت الإمدادات التسليحيّة والتموينية متاحة عبر اتصال…

السّودان: مأساة أكبر من غزّة ولبنان

سرقت أضواء جريمة الإبادة الجماعية التي ترتكبها إسرائيل في غزة، وجرائم التدمير المنهجي التي ترتكبها في مدن لبنان وقراه، الأنظار عن أكبر جريمة ضدّ الإنسانية…