ثّلاثيّة الترسيم وصندوق النّقد واتّفاق الطّاقة الإقليميّ هي خط مسار الديبلوماسية الأميركية في لبنان لهذه المرحلة، إنما تحت سقف “اتفاق الطائف” والتزام اللبنانيين به نصاً وروحاً ووجوب استكمال تطبيقه والتنسيق الأميركي ـ السعودي في هذا السياق قائم وكلاهما يشددان على التعاون من أجل لبنان ومن دون متعلقات بقضايا أخرى تجري على المقلب الآخر في العالم. الثلاثية هذه بحسب واشنطن قادرة على وقف الإنهيار وإعادة بناء الاقتصاد ما يجعل لبنان مؤهلاً لاستقدام استثمارات خارجية. القناعة الأميركية هذه ليست طروحات بل هي مُستندة إلى حوارات واتصالات مع كل المعنيين بهذا الشأن.
إعلان الموقف الأميركي كان مُحضراً بدقة. وأرادته سفيرة الولايات المتحدة الأميركية في بيروت دوروثي شيا ضمن خارطة طريق أعلنتها على طاولة نقاش بعد ظهر يوم الجمعة في مقر السفارة بعوكر ضمت إعلاميّين من 6 وسائل مكتوبة ومرئيّة من بينها “أساس”.
ليسَ سهلاً الوصول إلى طاولة “الطّعام” الشّهيرة في دارة السفيرة. عليك أنّ تعبر العديد من البوّابات الحديديّة بين الجدران العالية التي تحيطُ بمقرّ السّفارة والأبراج والإجراءات الأمنيّة. تقلّك سيّارةٌ من طِراز “فورد” وتوصِلك إلى منزلٍ في حديقةٍ صغيرةٍ تعبرها إلى الغرفة التي ستُلاقينا فيها دوروثي شيا. غُرفةٌ أنيقةٌ دافئة تجمَع العمارة اللبنانيّة واللمسة الأميركيّة، وذات جدران واسعة تُزيّنها اللوحات الـModern.
شيا لـ”أساس”: عملت عن كثب مع نظيري السّعوديّ وليد بخاري، وأعتزم الاستمرار في ذلك. لدينا الكثير من المصالح والقيم المشتركة هنا في لبنان. كلانا يريد أن يرى هذا البلد يعود إلى الازدهار والاستقرار
تدخُل شيا بأناقتها المعروفة حاملةً ملفّاتها المُعدّة بعنايةٍ ومحاطةً بمعاونيها من فريق إعلام السّفارة، ثمّ تجلِسَ إلى الطّاولة المُستطيلة متوسّطة فريقها، وأمامها في وسط الطاولة العلمان اللبنانيّ والأميركيّ. توزّع السّلام الحارّ على الموجودين، وتسبقها عيناها في التحديق في أعيُن الحاضرين، وتسأل إن كانَ كلّ شيءٍ على ما يُرام: “من لم يشرب القهوة بعد؟”، قبلَ أن تبدأ بالكلام.
لم تُفارق الابتسامةُ وجهَ دوروثي شيا، وليسَ سرّاً أنّ سبب هذه الابتسامَة هو إنجاز اتفاق ترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل، الذي كانَ هدفاً رئيسيّاً لمهمّتها الدّبلوماسيّة في لبنان منذ وصولها في شباط 2020.
السّلّة الثّلاثيّة: الترسيم وصندوق النّقد واتّفاق الطّاقة الإقليميّ
بدأت شيا كلامها بالحديث عن اتفاقِ الترسيم: “دافعي إلى الاجتماع معكم جميعاً هو إلقاء نظرة فاحصة على هذا الإنجاز الكبير الذي حقّقه لبنان”. ثمّ أوجزت ما ستتحدّث عنه: “سنتطرّق أيضاً إلى الملفّ الرّئاسيّ والحكوميّ وصندوق النّقد الدّوليّ”. كشفت أنّها حينما رأت الرّؤساء الـ3 يجتمعون للقاء الوسيط الأميركيّ آموس هوكستين، شعرَت بأنّ الاتفاقَ سيُنجز لا محالة. على الرّغم من تفاؤلها. أكّدت أنّ السّاعات الـ72 الأخيرة قبل إنجاز النّص النّهائيّ للاتفاق كانت الأصعب: “مرّت علينا 72 ساعة من دون نومٍ كافٍ، لكنّ وجود القرار السّياسيّ لدى جميع الأطراف هو العامل الأهمّ لإنجاز الاتفاق”.
في هذا السياق وجّهت إشارةً أميركيّة للمسؤولين اللبنانيين: “مع وجود القرار السّياسيّ، نعلم أنّه يمكن اتّخاذ القرارات الصعبة والتصرّف بناءً عليها. وأعتقد أنّ من المهمّ حقّاً التمتّع بنفس الروح في التعامل مع جميع القرارات الصعبة الأخرى”، وقصدت بذلك تنفيذ شروط صندوق النّقد الدّوليّ.
ردّت شيا على الأصوات التي تُقلّل من قيمة المليارات الثلاثة التي سيُقرضها صندوق النّقد الدّولي للبنان: “بعض الناس يقولون إنّها 3 مليارات دولار فقط. حسناً، لا أرى أحداً آخر يصطفّ ويطرق أبواب لبنان قائلاً: دعنا نمنحك 3 مليارات دولار. علاوة على ذلك، فإنّ الـ3 مليارات دولار هي الإصلاحات التي ستجعل الاقتصاد أكثر جاذبية للاستثمار فيه، وأيضاً “ختم الموافقة” من مجلس إدارة الصّندوق له أهميّة كبرى. أنا أعلم ذلك من خلال التحدّث إلى مؤسّسات الاستثمار والإقراض المتعدّدة الأطراف وشركات القطاع الخاص. إنّهم جميعاً ينتظرون ختم الموافقة هذا قبل أن يستثمروا هنا”.
أين الهيئة الناظمة للكهرباء؟
من صندوق النّقد الدّوليّ والترسيم، وصلت شيا إلى المُكوّن الثّالث لـ”Basket الإنقاذيّة”، وهو اتفاق الطّاقة الإقليميّ: “نعمل على هذه الصّفقة منذ أكثر من سنة، ولا أعلَم ما الذي يمنع وزارة الطّاقة من إنجاز ملفّ الهيئة النّاظمة لقطاع الكهرباء. وهذا أحد الشّروط الرّئيسيّة التي طلبها البنك الدّوليّ قبل التّصويت على إقراض لبنان 150 مليون دولار. وعلى الرّغم من إقرار زيادة التّعرفة، الذي هو أحد الشّروط، فقد كان بإمكانهم فعل ذلك قبل أشهرٍ طويلة”.
شيا لـ”أساس”: الطائف لم يُطبّق بالكامل بعد. لذلك البدء بإكمال تطبيقه سيكون الأمر الأنسب
ختمت في هذا المحور كلامها: “متى أُنجِزت هذه الشّروط فسنحصل على صوتٍ من واشنطن لصالح لبنان، فبلادي مُستعدّة لدعم لبنان في هذا القرض. أنجزتم الترسيم، وبقيَ أمامكم صندوق النّقد واتفاق الطّاقة الإقليميّ، ومتى أُنجزَت هذه الملفّات بالكامل فسيحصل اللبنانيّون على كهرباء أرخص وأنظف وأكثر استدامةً”.
ورداً على سؤال “أساس” عن ما يمكن أن يكون “اذا انسحبَ زعيم حزب الليكود بنيامين نتانياهو من اتفاق الترسيم في حال استطاع تشكيل حكومة بعد فوزه في إسرائيل؟”. أجابت السّفيرة شيا: “هذا سؤال افتراضي، لذا يصعب عليّ الإجابة عليه. وأنا سفيرة الولايات المُتحدة لدى لبنان وليس إسرائيل. لذا أنا بحاجة حقّاً إلى الاستماع للآخرين للإجابة على هذه المسألة. وأعتقد أنّه سابق لأوانه بعض الشيء”.
واستشهدت بكلام المُتحدّث باسم الخارجيّة الأميركيّة نيد برايس الذي قال قبل أيّام: دعونا نمنحهم فرصة لتشكيل حكومتهم أوّلاً ومعرفة سياساتهم”. وأضافت: “بعد ذلك، بالطبع، سيكون السفير الأميركي لدى إسرائيل توماس نايدز وفريقه على اتصال بتلك القيادة، وسيقوم آموس هوكستين بذلك أيضاً. خلاصة القول أنّ الولايات المتحدة تؤمن بهذه الاتفاقية. لهذا السبب قمنا بتسهيلها وتوسّطنا فيها بأقصى جهدنا، ونحن نقف إلى جانب هذا الاتفاق”.
العلاقة مع السّعوديّة في لبنان: نحن مع الطّائف نصّاً وروحاً
سأل “أساس” السّفيرة شيا عن علاقة أميركا والسّعوديّة في ما خصّ الملفّ اللبناني، وهل تأثّر التعاون بينهما بفعل التّوتّر الذي طرأ على العلاقة إثر الخلاف على أسعار الطّاقة؟ وما موقف بلادها من اتفاق الطّائف؟
بسرعة تلقّفت شيا السّؤال وقالت: “عملت عن كثب مع نظيري السّعوديّ وليد بخاري، وأعتزم الاستمرار في ذلك. لدينا الكثير من المصالح والقيم المشتركة هنا في لبنان. كلانا يريد أن يرى هذا البلد يعود إلى الازدهار والاستقرار. في الواقع، التقينا قبل قليل (الجمعة) في اجتماع استضافه رئيس الوزراء (نجيب ميقاتي) للحديث عن الكوليرا. إذن لا تزال هذه العلاقة موجودة. لا تزال قويّة. أمّا في ما خصّ اتفاق الطّائف، فالولايات المتحدة هي أيضاً أحد الأطراف الدّاعمة لاتفاق الطائف. سفيرنا لدى لبنان في ذلك الحين كان هناك في مدينة الطائف حيث كان يجري التفاوض لعدّة أسابيع. ما زلنا نؤمن ونؤيّد اتفاق الطائف نصّاً وروحاً”.
إقرأ أيضاً: لماذا لم يُنفَّذ اتّفاق الطائف؟
لم تكتفِ السّفيرة شيا بهذا الحدّ عن الطّائف، إذ عادت إليه في سياق الحديث مع الزّملاء لتردّ على المُنادين بتعديل الاتفاق: “الطائف لم يُطبّق بالكامل بعد. لذلك البدء بإكمال تطبيقه سيكون الأمر الأنسب. ينصبّ تركيزي كسفيرة للولايات المتحدة في لبنان، هنا والآن، على إدارة الأزمات، فالتركيز هو حقّاً على صفقة صندوق النقد الدولي، والحصول على صفقة الطاقة الإقليمية والقضايا السياسية التي تحدّثنا عنها في ما يتعلّق بالانتخابات الرئاسية وتشكيل الحكومة. إذا حصلنا على كلّ هذه الأشياء وأراد الناس البدء بطرح أسئلة عن الطائف، فسأكون سعيدةً أن يكون لي مقعد حول طاولة النقاش. لكن في الوقت الحالي، بالنسبة إليّ، هذه ليست مشكلة على سلّم الأولويّات”.