انتهى ترسيم الحدود، وأطلّ صندوق النّقد الدّوليّ برأسه. هذا هو عنوان السّياسة الأميركيّة للمرحلة المُقبلة في لبنان، وهو فصلٌ جديد من المواجهة الأميركيّة مع حزبِ الله في إطار الحرب “النّاعمة” ومواجهة السلاح غير الشرعي في لبنان. بعدما ظنّ كثيرون أنّ سقفها سينخفض بعد توقيع لبنان اتفاقَ ترسيم الحدود مع إسرائيل.
قبل أيّام خرَجَت مُساعدة وزير الخارجيّة الأميركيّ لشؤون الشّرق الأدنى باربارا ليف من معهد ويلسون في حوارٍ مع الوكيل السّابق لوزارة الخارجيّة والسّفير الأسبق لدى لبنان ديفيد هايل والسّفير جيمس جيفري لتقول: “قد تسؤ الأمور فيتصاعد الضّغط الشّعبي بهذه الطّريقة. أستطيع أن أرى سيناريوهات، حيث يكون هناك تفكّك فقط. أتخيّل بطريقة ما أنّ الكثير من هؤلاء البرلمانيّين اللبنانيين يحزمون حقائبهم ويذهبون إلى أماكن في أوروبا”.
انتهى ترسيم الحدود، وأطلّ صندوق النّقد الدّوليّ برأسه. هذا هو عنوان السّياسة الأميركيّة للمرحلة المُقبلة في لبنان، وهو فصلٌ جديد من المواجهة الأميركيّة مع حزبِ الله في إطار الحرب “النّاعمة” ومواجهة السلاح غير الشرعي في لبنان
رافقَ التحذير من الخطَرِ الدّاهم إشارةٌ إلى “حبل الخلاص”: “يسودُ اعتقادٌ خاطئٌ بين أولئك الذين لا يريدون أن يروا الإصلاحات في القطاع المصرفيّ أو الكهرباء، أنّنا لسنا بحاجة إلى قرضِ صندوق النّقد الدّوليّ البالغ 3 مليارات دولار لأنّ لدينا كلّ هذا الغاز الطبيعي… هذا عمل يحتاج سنوات من الاستكشاف والتنقيب ومعرفة ما الإمكانات التجارية… ليست نقوداً في المصرف”.
بحسب مصدر أميركي رسمي، فإنّ لبنان لن يرى “فلساً استثماريّاً وازناً” في اقتصاده، ما لم يحصل على “ختم الموافقة” من صندوق النّقد. وبالتالي فإنّ هذا الاتفاق لا يُحسب بكميّة المال، بل بالإشارة التي سيطلقها الاتفاق على مستوى العرب والعالم.
ما خفِيَ أعظَم
ما خفيَ بين سطور كلام ليف كان أعظَم. إذ تعلَمُ واشنطن أنّ صندوق النّقد الدّوليّ لن يُسلِّمَ فلساً واحداً للبنان إلّا بعد تنفيذ “سلّة الشّروط”، التي في عُمقها تحاول منع حزب الله من استخدام السلاح في صناعة العملية السياسية ومن التدخّل في شؤون الدول المجاورة.
أهمّ هذه الشّروط:
1- إغلاق كلّ معابر التهريب مع سوريا، وتشديد الرّقابة على المطار والمرافئ والمعابر الحدوديّة الشّرعيّة مع الجارة الشّرقيّة.
تُحاول واشنطن عبر هذا الشّرط أن تقطَع سُبل تهريب السّلاح إلى حزب الله، خصوصاً ما يتعلّق بالصّواريخ الدّقيقة والطّائرات المُسيّرة، والتي تجِدُ طريقها إلى لبنان عبر الأراضي السّوريّة التي يُسيطر الحزب وإيران فيها على طريق طهران – بغداد – البوكمال – بيروت.
2- أمّا الشّرط الثّاني فهو يمسّ بجوهر نفوذ حزب الله داخل الدّولة اللبنانيّة وهالته الشّعبيّة، وهو تقليص عدد العاملين في القطاع العامّ. يسود اعتقادٌ في عاصمة القرار الأميركيّ أنّ أغلبيّة العاملين في القطاع العامّ هم من المُقرّبين أو المُسهّلين أو المُتعاونين مع حزب الله، بغضّ النّظر عن انتماءاتهم السّياسيّة والطّائفيّة، خصوصاً العاملين في الوزارات الخدماتيّة مثل وزارات الأشغال والطّاقة والصّحّة والدّوائر الرّسميّة المنضوية تحتها مثل المرفأ والمطار وخزّانات الوقود والمُستشفيات الحكوميّة.
يعتقد الأميركيّون أنّ هذا الشّرط من شأنه أن يمنع حزب الله من استخدام الأموال العامة في بناء شبكة من الزبائنية السياسية التي توسّع قاعدة نفوذه لدى اللبنانيين بشكلٍ عام، وداخل البيئة الشّيعيّة على نحو خاصّ. هذا إذا ما وافق لبنان بشكلٍ رسميّ على خفض عدد العاملين بالقطاع الرّسميّ. وذلك يساهم في تخفيف نفوذ الحزب داخل الدّوائر الرّسميّة، التي يستغلّها، بحسب ما يقول مسؤولون أميركيّون في مجالس خاصّة، لتهريب السّلاح وتبييض الأموال وتنشيط التهريب، من جهة أخرى.
مصدر أميركي رسمي: لبنان لن يرى “فلساً استثماريّاً وازناً” في اقتصاده، ما لم يحصل على “ختم الموافقة” من صندوق النّقد
ما هي السياسة الأميركية؟
يختصِر مصدر مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة سياسة بلاده تجاه لبنان في المرحلة المُقبلة كالآتي:
1- يهدف اتفاق ترسيم الحدود إلى الحدّ من تحرّك حزب الله عسكريّاً على الجبهة الجنوبيّة، وهذا من شأنه أن يطيلَ أمد الاستقرار على خطّ التّماس مع إسرائيل، وأن يحدَّ من هامش التّحرّك الإيرانيّ في المنطقة.
2- يهدف الاتفاق مع صندوق النّقد إلى أن يُجفّف قدر الإمكان مصادر الأموال والسّلاح لحزب الله، وتقليص هيمنة الحزب وإيران على الإدارات الرّسميةّ.
3- يهدف اتفاق الطّاقة الإقليميّ، الذي يتضمّن استجرار الغاز من مصر والكهرباء من الأردن، إلى زيادة النّفوذ العربيّ في لبنان، وضمان الحدّ الأدنى من الاستقرار. ويقطع الطّريق أمام أيّ محاولة من الحزب لاستجرار الفيول الإيرانيّ. لكنّ هذا الاتفاق لن يُبصِرَ النّور عمليّاً في حال لم يُنجز وزير الطّاقة والمعنيّون إنشاء الهيئة النّاظمة لقطاع الكهرباء ورفع التعرفة وتنظيم الجباية.
واشنطن والرّياض مُتّفقتان على أهميّة تقليص نفوذ إيران في لبنان وإعادة التّوازن المفقود إلى السّياسة اللبنانيّة
على الخطّ السّعوديّ…
يتماهى موقف باربارا ليف مع ما قاله خادم الحرمَيْن الشّريفَيْن الملك سلمان بن عبد العزيز قبل أسبوعَيْن خلال افتتاحه أعمال السنة الثّالثة من الدّورة الثّامنة لمجلس الشّورى السّعوديّ، بحضور وليّ العهد الأمير محمّد بن سلمان: “ندعو إلى ضرورة تنفيذ إصلاحات سياسية واقتصادية هيكلية شاملة في لبنان تقود إلى تجاوز أزمته، ونشيرُ إلى أهمّية بسط سلطة حكومته على كلّ الأراضي اللبنانية لضبط أمنه والتصدّي لعمليّات تهريب المخدّرات والأنشطة الإرهابيّة”.
يقول مصدر مسؤول في وزارة الخارجيّة الأميركيّة، رفضَ الكشف عن اسمه لأسبابٍ إداريّة، إنّ أميركا تُدرِكُ أنّها لا تستطيع العمل مُنفردة في لبنان، وأنّ التنسيق والتّماهي مع السّعوديّة هو في صلب الاستراتيجية الأميركيّة التي تعتبر المملكة شريكاً استراتيجيّاً ورقماً صعباً لا يستطيع أحد تجاوزه في الشّرق الأوسط.
ويشير المصدر إلى أنّ “واشنطن والرّياض مُتّفقتان على أهميّة تقليص نفوذ إيران في لبنان وإعادة التّوازن المفقود إلى السّياسة اللبنانيّة، ومن هذا المُنطلَق كان البيان الثّلاثيّ مع فرنسا حولَ اتفاق الطّائف والتّمسّك به، وكلام باربارا ليف الذي يحمل إشارات تطمينيّة لشركاء واشنطن إلى أنّ سياستها تجاه حزب الله لن تتغيّر في لبنان، وإنْ تعامل الحزب بـ”براغماتيّة” في ملفّ ترسيم الحدود”.
ويضيف أنّ “أميركا تحتاج إلى الصّوت السّعوديّ لإقرار صندوق النّقد الدّوليّ الـ3 مليارات دولار للبنان، وواشنطن تعلم أنّ المملكة لن تُصوّت لصالح هذا القرار ما لم يبدأ لبنان بـ”إصلاحات سياسيّة واقتصاديّة جدّيّة”، كما أشار إلى ذلك الملك سلمان في خطابه الأخير”.
إقرأ أيضاً: أميركا متمسكة بالطائف: نجاة لبنان بالترسيم والطاقة وصندوق النقد
التّوقيت: لا تغيير تجاه لبنان
بحسب الأميركيين فإنّ اختيارَ السّفيرة ليف الكلام في هذا التّوقيت له معانٍ ومؤشّرات واضحة موجّهة إلى الدّاخل اللبنانيّ والشّركاء الإقليميين لأميركا في الشّرق الأوسط. أبرز هذه المؤشّرات أنّ السّياسة تجاه لبنان لا تزال على ما هي عليه، من دون أن يكون للانتخابات الدّاخليّة الأميركيّة أيّ تأثيرٍ عليها، إذ يلتقي الدّيمقراطيّون والجمهوريّون على أهميّة لبنان الاستراتيجيّة بالنّسبة إلى واشنطن التي استثمرَت خلال السّنوات الأخيرة 3.5 مليارات دولار لدعم الجيش اللبنانيّ، هذا عدا مبنى السّفارة الجديد الذي تبلغ كلفته 2 مليار دولار، أي أكبر من السّفارة الأميركيّة في إسرائيل.
لا تُبشّر طلائع المواجهة الجديدة بالخير للبنان. فالسّوء قد يزداد سوءاً، خصوصاً إذا هيمن الجمهوريّون بقيادة ترامب ومايك بومبيو، من أصحاب نظرية “سياسة الضّغط الأقصى”، على المؤسّستَيْن التشريعيّتَيْن في عاصمة القرار…
وللمواجهة تتمّة.