تخاطر استراتيجية الرئيس الأميركي جو بايدن الحاليّة بالتصعيد والحرب الأبديّة بين روسيا وأوكرانيا. وهو أمر سيستنفد الولايات المتحدة ويقلّل من قدرتها على مواجهة الصين، ويعرّض أيّ تعاون ممكن بين واشنطن وموسكو للخطر، ويعطّل الاقتصاد العالمي. غير أنّ هذه الحرب لن تنتهي إلا بالدبلوماسية. لذا على الإدارة الأميركية إبقاء خطوط الاتصال مع موسكو مفتوحة، للتوصّل إلى نهاية تفاوضية لهذه الحرب.
تلك كانت نصيحة خبيرَين من مؤسّسة “راند” الأميركية لإدارة بايدن، إذ اعتبرا أنّ المسارات المحتملة في ضوء السياسات الحالية لأوكرانيا والولايات المتحدة والحلفاء هي إمّا تصعيد روسي، أو استمرار الصراع لأجل غير مسمّى، وأنّ اتفاق السلام بين روسيا وأوكرانيا الذي اقترحته الولايات المتحدة وشركاؤها في مجموعة الدول السبع هو في الحقيقة اتفاق بشروط لاستسلام روسيا.
قد لا تتمكّن أوكرانيا من الحفاظ على الوتيرة الحالية لمكاسبها الإقليمية واستعادة أراضيها المعترَف بها دوليّاً. يمكن لقوّة قتاليّة روسية أكبر أن تجبر أوكرانيا على تكثيف جهود التعبئة الخاصّة بها
لقد اعتبر صموئيل شاراب وميراندا بريبي في مقال لهما في مجلّة “فورين أفيرز” أنّه على الرغم من تأكيد الرئيس الأميركي التزام الولايات المتحدة بإنهاءٍ تفاوضيّ للحرب في أوكرانيا، فإنّ إدارته لم تتّخذ أيّ خطوات عمليّة لخلق عمليّة دبلوماسية تسفر عن مثل هذه النتيجة، وأنّه حين تقدّمت الولايات المتحدة وشركاؤها في مجموعة الدول السبع باقتراح اتفاق سلام، قُرئت الشروط الواردة فيه على أنّها شروط لاستسلام روسيا. وحذّر الكاتبان من أنّ “الإفصاح عن أنّ النصر الأوكراني هو الهدف الذي تريده الولايات المتحدة من دون الإعداد لمفاوضات دبلوماسية مستقبلية قد يؤدّي إمّا إلى تصعيد خطير أو إلى إطالة أمد الصراع إلى أجل غير مسمّى”. وقالا: “قد يكون من السابق لأوانه الضغط من أجل أيّ صفقة معيّنة أو حتى لإجراء مفاوضات مباشرة اليوم. ولكن من خلال إرساء الأساس لهذه المفاوضات الآن، يمكن للولايات المتحدة، مع شركائها الأوكرانيين وحلفائها، رسم مسار نحو إنهاء الحرب”.
خيارات مفتوحة
وذكّر الخبيران بما جاء في بيان الولايات المتحدة وحلفائها في مجموعة الدول السبع في 11 تشرين الأول، من تأكيد “مواصلة تقديم الدعم المالي والإنساني والعسكري والدبلوماسي والقانوني لأوكرانيا”، وتأكيد “حقّها في استعادة السيطرة الكاملة على أراضيها”، ومطالبة “روسيا بوقف جميع الأعمال العدائية والانسحاب الفوري والكامل وغير المشروط من أوكرانيا بما فيها الأراضي التي تسيطر عليها موسكو منذ عام 2014″، ودعم جهود أوكرانيا لتحقيق “سلام عادل” يشمل “احترام ميثاق الأمم المتحدة لحماية وحدة أراضيها وبسط سيادتها عليها، وحماية قدرتها على الدفاع عن نفسها، وضمان التعافي وإعادة الإعمار بتمويل من روسيا، ومساءلة روسيا عن الجرائم التي ارتكبتها خلال الحرب”.
وقال الخبيران: “كل هذا يُشكل مبرَّر أخلاقياً وقانونياً. وقد يكون من الممكن تحقيقه. ولكنّ هناك أسباباً وجيهة للشكّ في أنّ أوكرانيا وداعميها الغربيين يمكنهم إجبار الجيش الروسي على التخلّي عن الأراضي الأوكرانية التي يحتلّها حاليّاً، ثمّ إقناع موسكو بالالتزام بشروط المنتصر للسلام:
– أوّلاً، قد تختار روسيا التصعيد بدلاً من الاستسلام. وقد يكون الرئيس الروسي يخادع عندما يهدّد باستخدام الأسلحة النووية. ولكن على عكس الرئيس الأميركي السابق ريتشارد نيكسون، الذي تبنّى “نظريّة الرجل المجنون” للترهيب باستخدام الأسلحة النووية في مواجهته مع الفيتناميّين الشماليين، فإنّ بوتين يقاتل من أجل ما يدّعي أنّه أراضٍ روسيّة. ولذلك المخاطر أكبر بكثير. فإذا هُزمت قواته التقليدية، يمكنه أن يعتمد على ترسانته الهائلة من الأسلحة النووية غير الاستراتيجية لاستخدامها ضدّ القوات الأوكرانية أو الأهداف الحكومية. يمكنه أيضاً اختبار أو استخدام السلاح النووي بعيداً عن ساحة المعركة للتدليل على استعداده لاستخدام المزيد منه في المستقبل. وفي لحظة اليأس، يمكن لروسيا أن تحاول قلب دفّة الحرب من خلال محاولة وقف تدفّق الأسلحة الغربية لأوكرانيا.
– ثانياً، قد لا تتمكّن أوكرانيا من الحفاظ على الوتيرة الحالية لمكاسبها الإقليمية واستعادة أراضيها المعترَف بها دوليّاً. يمكن لقوّة قتاليّة روسية أكبر أن تجبر أوكرانيا على تكثيف جهود التعبئة الخاصّة بها. وقد لا تستسلم روسيا حتى لو أُجبرت على الانسحاب من الأراضي الأوكرانية. انتصار أوكرانيا لن يقضي على كلّ القدرات العسكرية لروسيا. موسكو تحتفظ بمخزون كبير ووفير من الصواريخ والمدفعية والأصول الجوّية والبحرية الهائلة. ولأنّ روسيا وأوكرانيا تشتركان في حدود برّية طويلة، فإنّ موسكو ستكون قادرة على تحدّي ومنازعة انتصار أوكراني لسنوات مقبلة. ويمكن للجيش الروسي أن يغزو البلاد مرّة أخرى في نهاية المطاف.
الحرب الممتدّة قد تضعف موسكو وتجبرها على تقليص طموحاتها. لكنّ لها جوانب سلبية كبيرة على الولايات المتحدة. إذ ستستمرّ في التهام الموارد العسكرية والمالية وتقلّل من قدرة واشنطن على إعطاء الأولوية للمنافسة الاستراتيجية الطويلة الأجل مع الصين
تابع الكاتبان: “لهذا السبب يجب أن يقترن الانتصار الإقليمي باتفاق لإنهاء الحرب. من غير المرجّح أن توافق القيادة الروسية الحالية على شروط مجموعة الدول السبع، خاصة إذا كانت تنطوي على التخلّي عن شبه جزيرة القرم. لذلك، كما اعتبر أندريه زاغورودنيوك، وزير دفاع أوكرانيا السابق، ربّما تحتاج كييف إلى تغيير النظام في موسكو، بالإضافة إلى الانتصار في ساحة المعركة لتجنّب العيش تحت التهديد المستمرّ بإعادة الغزو. وما لم يكن هناك تغيير في النظام، فإنّ المسارات المحتملة في ضوء السياسات الحالية لأوكرانيا والولايات المتحدة والحلفاء هي إمّا تصعيد روسي أو استمرار الصراع لأجل غير مسمّى”.
أشار الخبيران إلى أنّ “الحرب الممتدّة قد تضعف موسكو وتجبرها على تقليص طموحاتها. لكنّ لها جوانب سلبية كبيرة على الولايات المتحدة. إذ ستستمرّ في التهام الموارد العسكرية والمالية وتقلّل من قدرة واشنطن على إعطاء الأولوية للمنافسة الاستراتيجية الطويلة الأجل مع الصين. وقد تؤدّي أيضاً إلى تجميد عميق للعلاقات الأميركية الروسية، وتعطيل الاقتصاد العالمي. وبالطبع، سيكون البلد الأكثر معاناة هو أوكرانيا”.
لا نهاية للحرب من دون ديبلوماسية
وذكّر الخبيران بما قاله الرئيس بايدن، في مقال له في صحيفة “نيويورك تايمز” في أيار الماضي، من أنّ هدف إدارته وضع قادة البلاد في “أقوى موقف ممكن على طاولة المفاوضات”، وباستشهاده بقول الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إنّ “الحرب لن تنتهي بشكل نهائي إلا بالدبلوماسية”. وقالا: “لم تتحقّق هذه الدبلوماسية بعد، وهي حقيقة تتحمّل روسيا مسؤوليّتها الأساسية. لكن يمكن للولايات المتحدة أن تفعل المزيد لتمكين الدبلوماسية. لقد تبنّت واشنطن فكرة المضيّ بالحرب لأنّه يمكن بذلك إدارة مخاطر التصعيد، وستواصل أوكرانيا الانتصار، وستضطرّ روسيا في النهاية إلى قبول الهزيمة. وفقاً لهذا الرأي، يجب أن يستمرّ الدعم العسكري الغربي حتى تتمكّن أوكرانيا من استعادة أراضيها وإحباط جهود الضمّ الروسية. ويجب ألا تكافئ الولايات المتحدة قعقعة سلاح بوتين النووي من خلال التراجع أو الضغط على الأطراف للتفاوض. ولن يكون هناك حاجة إلى تقديم تنازلات. يمكن لروسيا إمّا قبول الشروط التي وضعتها مجموعة السبع الآن أو يمكنها قبولها عند هزيمتها في ساحة المعركة”.
لفت الخبيران إلى أنّ “من الممكن أن يتحقّق هذا السيناريو المتفائل، لكنّ الافتراضات الكامنة وراءه إذا ثبت أنّها خاطئة فستكون النتيجة في أحسن الأحوال صراعاً طويل الأمد، وفي أسوأ الأحوال تصعيداً كارثياً. إنّ إرساء الأساس لمفاوضات نهائية يمكن أن يقلّل من مخاطر هذه النتائج الخطيرة. يمكن لواشنطن تهيئة الظروف لمفاوضات ناجحة. أن تبدأ مناقشات مع حلفائها وأوكرانيا عن الحاجة إلى الانفتاح على إجراء محادثات نهائية، وتخفيف توقّعات النصر الحاسم. إنّ جعل “هذه الحرب لا تنتهي إلا بالدبلوماسية” هو شعارٌ لا يقلّ أهميّة عن “دعم الأوكرانيين ما دام الأمر يتطلّب ذلك”، والتأكيد أنّ أحدهما لا يتعارض مع الآخر يساعد على البدء بتغيير الرواية. يمكن للولايات المتحدة أيضاً أن توضح أنّ التوصّل إلى تسوية تفاوضية لن يكون عملاً من أعمال فرض الاستسلام. أخيراً، على واشنطن الإبقاء جميع خطوط الاتصال مع موسكو مفتوحة، من الرئيس إلى المستويات الدنيا، للإشارة إلى انفتاحها على نهاية تفاوضية محتملة للحرب وإيجاد قنوات لتسهيل محادثات السلام عندما يحين الوقت”.
أكّد الخبيران أن “ليس هناك ما يضمن أن تؤدّي هذه الخطوات إلى السلام في أيّ وقت قريب، لكن يمكنها التخفيف من مخاطر التصعيد الدراماتيكي والحرب لأجل غير مسمّى. قد يبدو ترك الصراع يستمرّ وكأنّه قرار حكيم، لكنّ النتيجة التفاوضية، التي تظلّ الهدف المعلَن لإدارة بايدن، ستظلّ على الأرجح بعيدة المنال ما لم يتمّ وضع أسس لها منذ الآن”.
إقرأ أيضاً: لماذا وافقت إسرائيل على الترسيم؟
– صموئيل شاراب كبير العلماء السياسيين في مؤسسة “راند” RAND، وميراندا بريبي باحثة سياسية أولى ومديرة مركز تحليل الاستراتيجية الأميركية الكبرى في المؤسسة.
– Madman Theory أو نظرية “الرجل المجنون” هي نظرية سياسية ارتبطت بالسياسة الخارجية للرئيس ريتشارد نيكسون استخدمها في نيسان 1971 لإنهاء حرب فيتنام حين أرادت الإدارة الأميركية إيهام المعسكر الشرقي أنّ نيكسون شخص غير منطقي ومتقلّب وقادر على الردّ بطرق مرعبة وغير إنسانية على أيّ تهديد أو استفزاز يطال الولايات المتحدة الأميركية ومصالحها بالعالم.
– مؤسسة RANDهي مؤسسة فكرية أميركية غير ربحية للسياسات العالمية تمّ إنشاؤها في عام 1948 لتقديم الأبحاث والتحليلات إلى القوات المسلّحة الأميركية.
لقراءة النص الأصلي اضغط هنا