“أساس” ينشر تباعاً مقالات ومقابلات عن ملفّ رئاسة الجمهورية، بدءًا من مرشّحين “دائمين” لم يحالفهم الحظّ، وصولاً إلى الأسماء المؤهّلة والمرشّحة هذه المرّة، مروراً بالرؤساء الذين حكموا لبنان منذ الاستقلال، وما الذي ميّز عهودهم.
في حلقة اليوم تفصيل لكيفية بدء “عُرف” الفراغ، مع ميشال عون في بعبدا، ليعيش لبنان بعد عودته من المنفى “زمن الفراغ” من 2005 إلى اليوم… ومرور سريع على “عهود الوصاية السورية”، وفنون التمديد خلالها.
كان أمين الجميّل آخر رئيس في الجمهوريّة الأولى. مع نهاية ولايته بدأ عدم احترام المهل الدستوريّة لانتخاب رئيس الجمهوريّة. وبدأ “عُرف” الفراغ” للمرة الأولى.
خلال فترة الوصاية السوريّة أصبح التمديد للرئيس هو القاعدة وعاد الفراغ ليستتر. لكن بعد انسحاب الجيش السوري أصبح الفراغ في موقع رئاسة الجمهوريّة هو القاعدة. ولا يزال حتى اليوم.
لم يعرف لبنان رئيساً مثل ميشال عون. فهو استباح كلّ شيء للوصول إلى الرئاسة
“العنيد” سلّم الفراغ المدمّر
انتُخب أمين الجميّل على عَجل، وسلّم البلد إلى ميشال عون على عجل، وغادر القصر. أيّامه الأخيرة فيه كانت حافلة بالأحداث والمشاورات الداخليّة والخارجيّة، كما أيّامه وأسابيعه الأولى. فهو تسلّم بلداً تحتلّ إسرائيل أكثر من نصفه وتحتلّ سوريا الباقي. وسلّمه بلداً مقسّماً إلى “دويلات”.
بعدما تعذّر انتخاب خلف له بسبب رفض المسيحيين الاتفاق الأميركي – السوريّ على مخايل الضاهر، راح أمين الجميّل يفكّر في حكومة انتقاليّة. طرحها أوّلاً على شارل الحلو. اعتذر بحجّة مرض زوجته. ثمّ طرحها على حلو آخر هو بيار. قَبِل المهمّة ثمّ تراجع إثر الفيتو الإسلامي على مشاركة ميشال عون وسمير جعجع فيها. لم يبقَ للجميّل سوى الاختيار بين رئيسَيْ مجلسين مارونيَّين: رئيس مجلس القضاء الأعلى لرئاسة حكومة بعضوية أعضاء مجلسه، أو رئيس المجلس العسكري لرئاسة حكومة بعضويّة ضبّاط المجلس. اختار المجلس الثاني مستعيداً تجربة بشارة الخوري. وقّع المرسوم رقم 5387 قبل دقائق من نهاية ولايته.
يروي أمين الجميّل: “تلك الليلة، بدت طاولة مكتبي فارغة… شعرت بأنّني منهك من التعب والمِحن…”. ويُقال: شعر بالحاجة إلى احتساء كأس كونياك للاسترخاء. قبل مغادرته القصر سلّم السلطة لميشال عون الذي بدا في الصورة مكسور اليد التي سيستعملها فيما بعد لتكسير البلد والجمهوريّة الأولى ثمّ الثانية.
رئاسة “زحلاويّة”
تسلّم الياس الهراوي الحكم في بداية وصاية الأسد الأب وسلّمه في بداية بروز نجم الأسد الابن.
وقع الاختيار عليه بعد اغتيال رينيه معوّض وبعدما قَبِل بـ”قبع” ميشال عون المتمرّد من بعبدا، قائلاً لمحدّثه بلكنته الزحلاويّة: “بشيلو وبشيل أمّه كمان”. وهكذا كان. ولكنّ القصر دُمّر، فأعيد بناؤه، وانتقل إليه الرئيس في تموز 1993 وقامت زوجته منى بفرشه بالأثاث والتحف وغيرها.
لم يجمع الرئيس الهراوي أوراقه عند نهاية ولايته. ولم تقُم السيّدة الأولى بتوضيب أغراضها. فالأسد قرّر التمديد له لثلاث سنوات خلافاً للدستور. ثمّ اختار الأسد الابن العماد إميل لحّود للرئاسة. عند دخول هذا الأخير القصر طلب إجراء جردة بموجوداته بعد الحديث عن فقدان بعض مقتنياته، وهو ما أثار حفيظة الهراوي وزوجته!
الرئيس “السبّيح”
دخل العماد إميل لحّود القصر على وقع الأغاني والزغاريد، وغادره على وقع الصيحات ضدّه.
على الرغم من كلّ ما حدث في لبنان لا يزال اللبنانيون، وخاصّة المسيحيين، يرون في مَن يرتدي البزّة العسكريّة الرجل النزيه والمنقذ من الطبقة السياسيّة الفاسدة. استغلّ إميل لحّود وفريقه هذه الصورة عند دخوله القصر. فغنّى له ملحم بركات “من فرح جايي”. ولكنّه، كما الذي قبله، هو رئيس عيّنته الوصاية السوريّة.
أسّس التمديد لإميل لحّود لمرحلة جديدة في البلاد. فقد صدر القرار 1554. اهتزّ لبنان بانفجار اغتيال رفيق الحريري الذي بلغت ارتداداته المنطقة والعالم. قامت تظاهرة 14 آذار المليونيّة ردّاً على تظاهرة “شكراً سوريا” في 8 آذار، وفرضت على الدول خروج الجيش السوري الفوري من لبنان. انقسم البلد معسكرين. وأصبحت الغالبيّة النيابيّة ضدّه.
على الرغم من حملة “فلّ”، أصرّ إميل لحّود على إكمال ولايته. غادر القصر ليلاً ومن دون أن يسلّم خلفه بعدما دخله في وضح النهار وتسلّم مفاتيحه من سلفه. صَدَق كريم بقرادوني. فقد قال لي في “عزّ” الحملة ضدّ لحّود: “ما بيترك القصر حتى آخر دقيقة من عهده”.
عهد “بيان بعبدا”
منذ تسعينيّات القرن الماضي انتظر ميشال سليمان موقع قيادة الجيش. وبعدما بلغه راح يحلم بالرئاسة. بعد 2005 سار بتأنٍّ بين الألغام السياسيّة والأمنيّة التي خلّفها اغتيال رفيق الحريري. لم يفتح الطريق لـ14 آذار لإسقاط رئيس الوصاية، ولم يسمح لاعتصام 8 آذار بإسقاط فؤاد السنيورة، فاتّفق الفريقان في الدوحة على انتخابه رئيساً للجمهورية، بعد 18 شهراً من الفراغ.
في عهده بدأت الحروب في سوريا. وكان من الطبيعي أن يتأثّر بها لبنان، وخاصّة بعد مشاركة حزب الله المباشرة فيها. رأَسَ ميشال سليمان حواراً وطنيّاً تعهّد فيه الحزب بـ”تحييد” لبنان عن صراعات المنطقة وصدر عنه بيان بعبدا الشهير، لكن ما لبث الحزب أن تراجع، فردّ الرئيس من الكسليك بالكلام عن “المعادلة الخشبيّة”.
قبل مغادرته القصر أقام سليمان احتفالاً حضره رؤساء الجمهورية السابقون باستثناء لحّود. قلّد وليد جنبلاط وساماً. وغادر القصر عائداً إلى منزله القريب في اليرزة.
دخلنا “زمن الفراغ”، الذي أسّسه ميشال عون في 1988، وما زال يرعاه إلى اليوم
رئيس الدمار الشامل
لم يعرف لبنان رئيساً مثل ميشال عون. فهو استباح كلّ شيء للوصول إلى الرئاسة: الحروب والتمرّد في ثمانينيّات القرن الماضي، والتعطيل والفراغ بعد عودته إلى لبنان في عام 2005. هو رئيس التدمير. دمّر الجمهوريّة الأولى للوصول إلى الرئاسة. وفي عهده دمّر الجمهوريّة الثانية. إنّه الرئيس “الكاره” (كما سمّاه الزميل حازم صاغية في مقال له في جريدة “الشرق الأوسط”).
بعد عامين ونصف من الفراغ، وبعدما عطّل فريق 8 آذار أكثر من 40 جلسة انتخاب لتأمين وصوله، دخل ميشال عون قصر بعبدا للمرّة الثانية على أنّه “الرئيس القويّ”. انتخبه خصومه. كانت فرصة له ليكون فعلاً رئيساً قويّاً يجمع اللبنانيّين لإنقاذ البلاد من الانهيار “المحتّم”، فإذا به يعادي الكلّ. عرقل على سعد الحريري تشكيل حكومة وتسيير أمور الحكم. نكث بتفاهمه مع سمير جعجع. رفع راية المواجهة لنبيه برّي. لم يبقَ معه سوى حزب الله المعادي للدولة ونظامها ودستورها ومؤسّساتها.
رفع شعار “بيّ الكلّ”. ولكنّه تصرّف على أنّه “بَيّ” صهره جبران باسيل فقط. همّه الوحيد مستقبل هذا الأخير السياسيّ. حتى بناته تفرّقوا عنه سياسيّاً.
رفع شعار “الإصلاح والتغيير” فإذا به يطلق العنان لفساد صهره وتيّاره السياسيّ.
منذ الثمانينيّات رفع شعار الدولة، لكنّه أطلق يد حزب الله للهيمنة عليها وعلى مؤسّساتها أكثر فأكثر، وأقحمها في صراعات المنطقة وعزلها عن الإقليم والعالم.
نادى بالسلطة للشعب، وحين قامت “ثورة” شعبيّة خوّنها وتنكّر لوجودها.
إقرأ أيضاً: عندما كان السلف يسلّم الخلف
رفع شعار الدفاع عن حقوق المسيحيين، فكفّرهم بالدولة ودفعهم إلى الهجرة من الوطن.
وتطول اللائحة…
بالأمس انتهت عراضة العونيّين بعودة زعيمهم إلى الرابية. عادوا إلى منازلهم، حيث لا مال ولا كهرباء ولا ماء ولا طعام… لا أدري هل استفاقوا وأدركوا أنّ من صفّقوا له بالأمس هو من أوصلهم إلى “جهنّم”؟
مجدّداً دخلنا “زمن الفراغ”، الذي أسّسه ميشال عون في 1988، وما زال يرعاه إلى اليوم.