لن يسقط الطائف كرمى للإرث الماروني

مدة القراءة 7 د

شعار “معك مكملين” الذي رفعه العونيون معاكس لظاهره، فموضوع الشعار جبران باسيل وليس ميشال عون، ومؤدّاه أنّ الجنرال المقبل على التسعين “مكمّل” مع صهره في معركة تكريسه في قائمة الزعماء المسيحيين.

تلك المعركة تقتضي فتح معركة سياسية ذات صخب. وإذا كان فشل العهد لا يسمح بأن يكون موضوعها ترشيح باسيل للرئاسة، فإنّ الفراغ الرئاسي يسمح بحرف النقاش من التوافق على ملء الشغور الرئاسي إلى افتعال أزمة نظام تقود إلى نسف الطائف.

اللحظة ملائمة على المستوى السُنّيّ بالتأكيد، في ظلّ تشتّت القوى وغياب الرعاة الإقليميين، لكنّ الحزب لن يفتح المعركة الدستورية إلا حين يكون بوسعه تثميرها لجعل بيروت صنعاء أخرى

باسيل يُأزم النظام

دخل باسيل إلى التأزيم على مستوى النظام من بوّابة ورقة “الأولويّات الرئاسية”، طارحاً على الرئيس العتيد أجندة تفجير ميثاقي، من خلال إلزام الرئيس العتيد بعناوين تقفز فوق الطائف، مثل اللامركزية الماليّة الموسّعة التي لم يأتِ الاتفاق على ذكرها، وتكريس المخالفات الدستورية التي أدخلها عون إلى تقاليد تشكيل الحكومات.

يدرك باسيل أنّ التوافق على رئاسة الجمهورية غير ممكن على أساس هذه العناوين، فلماذا يطرحها؟ إنّه ببساطة يفتح أزمة نظام يبحث فيها عن معركته الخاصّة الأولى. وربّما يراهن على مجاراة “حزب الله” له، بصفته المنتِج الأصليّ لتفاهم “مار مخايل” الذي أتاح للحزب الهيمنة على القرار الاستراتيجي في بيروت.

أمّا عون فقد ختم قصّته ولم يعد لديه ما “يناضل” لأجله. كانت معركتُه الرئاسةَ في الثمانينيّات، ثمّ صار عنوان “النضال” العودة من المنفى، ثمّ تحوّل حلم الرئاسة بعد عودته اختزالاً لكلّ شيء: ردّ الاعتبار بعد هزيمة 1990، والانتقام لمظلوميّة متصوَّرة للزعامة المسيحية، وإشباع النرجسية الشخصية لرجل يرى نفسه أعظم الزعماء في تاريخ الموارنة منذ بشير الشهابي. عاشت حركة عون السياسية على هذا الحلم ثلاثة عقود، وانتهى كلّ شيء بانتهاء عهده. لا يصلح مشهد الخروج من القصر، بكلّ طقوسه وعراضاته، إلّا للحلقة الأخيرة.

عون حكاية وريثه

يستحقّ ميشال عون بعض الراحة بعد تعب السنين. انتهت تجربته بما لها وما عليها، وأُحيل ملفّه إلى التاريخ ليحكم عليه. ما بعد 30 تشرين الأول، بما فيه شعار “معك مكملين” لا ينتمي إلى قصة ميشال عون، بل إلى فصل في قصّة وريثه. والوريث في أمسّ الحاجة إلى المساعدة. فالتيار خرج مهشّماً من عهد لم يقدّم نجاحاً واحداً في سنوات الرئاسة الستّ. خرج من الانتخابات في المركز الثاني مسيحيّاً، شعبيّاً ونيابيّاً. وسجلّ إنجازات العهد لا مثيل لبؤسه في تاريخ لبنان. لا يتوقّف الأمر عند الأزمة المالية والنقدية وانهيار الليرة بعد 27 عاماً من الاستقرار، بل إنّ السجلّ التنموي بائس بالفعل، حتى في سنوات ما قبل الأزمة. لم تُفتَتح جادّة واحدة تليق بأن تحمل اسم رئيس سابق. لم يُفتَتح مطار أو جامعة أو مستشفى جامعي أو مدينة رياضية. بل إنّ المرفأ القائم في العاصمة منذ مئات السنين نسفه انفجار رهيب، بات كلّ الناس يعرفون أنّه ناجم عن جعل لبنان ممرّاً ومخزناً للموادّ التي صنع منها النظام السوري براميل البارود.

بنى التيّار كلّ مشروعه التنموي منذ دخوله السلطة على ثلاث ركائز عنوانها وزارة الطاقة، هي الكهرباء والسدود والغاز، وقد انتهى العهد بفشل ذريع فيها جميعاً. حال الكهرباء هي الأسوأ في العالم. ما من دولة أخرى تعجز فيها الشبكة المركزية عن توفير ساعة تغذية واحدة يوميّاً في العاصمة. أمّا في ملفّ المياه، فانتهت خطّة السدود إلى فشل واضح. سدّ بسري انتهى نهاية مريعة، بعد فشل وزارة الطاقة في تلبية متطلّبات البنك الدولي الأساسية، ومنها على سبيل المثال دراسة الأثر البيئي والتشاور مع أصحاب المصلحة. وحتى السدّ الكبير الوحيد الواضح للعيان في المسيلحة، كان قصّة فشل وتأخير، حتى إنّ باسيل اضطرّ إلى قطع نهر الجوز لملئه لبضعة أسابيع قبل الانتخابات.

في ملفّ الغاز، لبنان متأخّر 15 عاماً على الأقلّ عن محيطه. مصر تنتج من حقل “زهر” منذ سنوات، وإسرائيل تنتج من حقلَيْ ليفيثان وتمار، وقبرص سجّلت اكتشافات عدّة، في “أفروديت” و”كاليبسو” و”كرونوس” و”غلافكوس”، ووقّعت عدداً من اتفاقيات الاستثمار النهائي. وحده لبنان لا يزال في مرحلة الاستكشاف الأوّلية، ولم ينجز سوى حفر بئر واحدة. ولا صحّة للتذرّع بالنزاع الحدودي مع إسرائيل في هذا التأخير، بل يُنسب العجز إلى بؤس البنية التشريعية والتنظيمية وغياب الحوكمة في إدارة القطاع، وعدم الثقة بالإطار السياسي الحاكم للعمليّة كلّها.

شعار “معك مكملين” الذي رفعه العونيون معاكس لظاهره، فموضوع الشعار جبران باسيل وليس ميشال عون، ومؤدّاه أنّ الجنرال المقبل على التسعين “مكمّل” مع صهره في معركة تكريسه في قائمة الزعماء المسيحيين

هُزال الرواية العونية

هزيلة هي القائمة التي يسردها العونيون لإنجازات العهد، وهي في غالبها لا تحتاج إلى الوجود في قصر بعبدا، سواء تعلّق الأمر بقانون الانتخابات أو اقتراع المغتربين أو التدقيق الجنائي المتعثّر. يبدو في الظاهر أنّ ترسيم الحدود البحرية جنوباً أنقذ قائمة الإنجازات في الأسبوع الأخير، لكن لا بدّ من مراقبة تبعات أن يُنسَب هذا الإنجاز إلى إلياس بو صعب، الرجل الذي يتبوّأ المنصب الأرثوذكسي الأوّل في الدولة، وبات الآن يقدّم نفسه رجلاً ذا علاقات خارجية وداخلية تجعل منه حيثيّة خاصة ليس من السهل على باسيل أن يبقيها تحت سقفه وإدارته.

وإذا كانت طائفة بو صعب تضع لطموحه سقفاً داخل التيار وخارجه، فإنّ في التيار مراكز ثقل أخرى مارونية. إبراهيم كنعان وآلان عون لهما ثقلهما في المتن وبعبدا. والتصدّعات الجانبية التي أحدثها انشقاق زياد أسود وماريو عون وشامل روكز يمكن أن تصبح أكثر عمقاً في غياب المؤسّس.

عون حاجة لباسيل والحزب

المهمّة المطلوبة من عون في شتاء العمر هي تلك الصورة التي تبقي للتيّار لحمته ووحدته. وتجارب السنوات الماضية تؤكّد مدى افتقار باسيل إليه في هذا الدور. فلولا تدخُّل الجنرال ما كان له أن يحسم التنافس على رئاسة التيار، ولا أن يتجاوز الانقسام على شخصه وقيادته والانشقاقات المتكرّرة لقيادات شبابية وتاريخية. وما يقوله باسيل على طريقته هو أنّ البقاء مع الجنرال مطابق للبقاء معه.

تلك مهمّة وظيفية لصورة عون، يحتاج إليها باسيل بمقدار ما يحتاج إليها “حزب الله”. فكما بدا في الانتخابات الأخيرة، ما زال التحالف بين الحزب والتيار الثابت الوحيد في التحالفات العابرة للطوائف. ولولاه ما كان لباسيل أن يخوض كلّ المعارك داخل الساحة المسيحية، وعلى كلّ الجبهات الطائفية الأخرى.

هاتان هما الركيزتان اللتان يؤسّس عليهما جبران الفصل الأوّل من قصّته الخاصة: “فرانشايز” ميشال عون وحاجة “حزب الله” إلى هذا “الفرانشايز” المسيحي.

في الانتخابات الأخيرة تكفّل “حزب الله” بإنقاذ “الفرانشايز”، بمنحه خمسة مقاعد على حساب الحلفاء الآخرين، لكن هل يجاري باسيل في فتح أزمة النظام؟

لا شكّ أنّ “حزب الله” يريد تغيير الطائف، وقد خطا الخطوة الأولى لنسفه بالأعراف التي كرّسها اتفاق الدوحة عام 2008، ثمّ بتكريس وزارة المالية للطائفة الشيعية. لكنّ الأمر الآن مرهون بتقويمه لمدى ملاءمة التوقيت والمخرجات المتوقّعة من أيّة ورشة دستورية.

اللحظة ملائمة على المستوى السُنّيّ بالتأكيد، في ظلّ تشتّت القوى وغياب الرعاة الإقليميين، لكنّ الحزب لن يفتح المعركة الدستورية إلا حين يكون بوسعه تثميرها لجعل بيروت صنعاء أخرى.

دورُ السُنّة

ماذا بإمكان السُنّة والموارنة “الآخرين” أن يفعلوا في مواجهة شبق الزعامة؟

إقرأ أيضاً: عون مرَّ من هنا

تحتاج المؤسّسة المارونية إلى التحرّر من المزايدات ومن وهم التحالف الموضوعي مع “حزب الله” لتحصيل بعض الصلاحيّات. ولا بأس بالتذكير أنّ من عادة الحزب أن يوزّع الجوائز، لكنّه لن يفتح معركة دستورية كرمى لعينَيْ المارونية السياسية، مهما كان اسم الماروني الأوّل.

ويحتاج السُنّة إلى عدم التسامح مع أيّ طارئ يقبل الجلوس إلى طاولة مهيّأة للعبث بالطائف.

مواضيع ذات صلة

مشروع إيران التّوسّعيّ: ما بُنيَ على متغيِّر.. سيتغيَّر

لا خلاف في أنّ لدى إيران مشروعها التوسّعي في المنطقة. وكلمة “توسّعي” ليست استنتاجاً، إنّما حقيقةٌ تعكسها التصريحات الغزيرة والصادرة عن الكثير من القيادات الإيرانية…

جنبلاط يقبض على اللّحظة الإقليميّة

كان الرئيس السابق لـ”الحزب التقدّمي الاشتراكي” وليد جنبلاط في طليعة من قاربوا بالتعليقات الرمزية وبالمواقف، وبالخطوات العملية، مفاعيل الزلزال السوري على لبنان.   يتميّز جنبلاط…

سليمان فرنجيّة: رئاسة الحظّ العاثر

ـ عام 2004 سأل بشار الأسد سليمان فرنجية: “هل للرئاسة في لبنان عمر معيّن كما عندنا؟ لا يُنتخب رئيس الجمهورية قبل بلوغه الأربعين؟”. ـ مرّتين…

الشّرع وسوريا: الرّسم بالكلمات

لم نسمع من أحمد الشرع أو أيّ وزير من الحكومة المؤقّتة في سوريا أيّ رفع لشعار “الإسلام هو الحلّ” الذي درجت جماعة الإخوان المسلمين على…