الولايات المتحدة.. هل تفككها الانقسامات؟

مدة القراءة 6 د

تبدأ الولايات المتحدة هذا الشهر (تشرين الثاني) معركة الانتخابات العامّة للكونغرس التي يسمّونها الانتخابات النصفية لأنّها تجري على مرحلتين. سوف ترجّح نتائج هذه الانتخابات المرشّح الذي سيكون الرئيس المقبل للولايات المتحدة. ولكنّها أكثر من ذلك سوف تلقي الضوء على مدى استمرار الولايات المتّحدة متّحدة!!

تشريعات متضاربة

لتوضيح هذا الأمر المهمّ والمعقّد نشير إلى أنّ ولاية كاليفورنيا أصدرت في شهر آب الماضي قراراً بوقف السماح للسيّارات العاملة على البنزين أو المازوت بالعمل ابتداء من عام 2035. وهو قرار يوجّه صدمة كبيرة لشركات صناعة السيارات في ولايات أخرى.

في الوقت عينه أصدرت ولاية تكساس قراراً يحرّم الإجهاض، حتى لو كان الجنين في مراحله تكوينه الأولى (15 أسبوعاً). ولا يستثني قرار التحريم النساء المريضات أو المغتصَبات. ونصّ القرار على عقوبة السجن حتى 99 عاماً لكلّ امرأة تُقدم على الإجهاض، ولكلّ طبيب يساعدها في ذلك.

تضمّ الولايات المتحدة الأميركية خمسين ولاية، لكلّ منها حاكمها وبرلمانها وتشريعاتها الخاصة. فما هو محرَّم هنا، مباح هناك. والقضايا الخلافية بين الولايات وبيوتاتها التشريعية تتناول قضايا أساسية، منها حرّيّة اقتناء السلاح وحمله على الرغم من الجرائم الجماعية التي صعقت المجتمع الأميركي والعالم مراراً. والحرّية هذه تستند إلى تفسير المادّة الثانية من الدستور الأميركي التي تتعلّق بالحرّيات العامّة.

ومن القضايا الخلافية أيضاً بين الولايات تحديد الرسوم والضرائب، وحتى تحديد برامج التعليم في المدارس. فالمدارس في ولايات ما يُسمّى بـ”الزنّار الإنجيلي”، وهي ولايات جنوبية متشدّدة دينياً وعنصرياً، تمنع مثلاً تدريس نظرية داروين عن النشوء والتطوّر، فيما تعتبر المدارس في الولايات الشمالية، وخاصة في كاليفورنيا، النظرية علميّة وليست دينية.

حتى في موضوع الانتخابات أقرّت 29 ولاية فقط في عام 2021 توسيع مجال الاقتراع بالبريد. وعارضت هذا الأمر 13 ولاية. ويشكّل هذا الأمر قنبلة موقوتة في الانتخابات الرئاسية المقبلة

الانقسام الحزبي

يتنافس على حكم الولايات المتحدة حزبان فقط، الجمهوري والديمقراطي. ويسيطر الحزبان سيطرة مطلقة على 37 ولاية من الولايات الخمسين. ويتشاركان في حكم الولايات الأخرى في البرلمانات وفي الحكومات المحليّة.

ولكن في هذه الولايات السبع والثلاثين، يعيش ثلاثة أرباع الأميركيين. وهذا يعني أنّ الانقسام الحزبي الذي يعكسه واقع هذه الولايات يقدّم الصورة الانقسامية لواقع المجتمع الأميركي المتعدّد الأديان والإثنيّات.

بدأت بعض الولايات مثلاً السماح بإجراء جراحات لتغيير الجنس (من ذكر إلى أنثى أو بالعكس). وهناك ولايات أخرى تحظر ذلك وتعتبره تدخّلاً في المشيئة الإلهية. والولايات التي سمحت بإجراء هذه الجراحات، برّرت قرار السماح بأنّه احترام لإرادة الإنسان الذي هو حرّ في اختيار الجنس الذي يحبّ أن يكون عليه.

ردّاً على هذا “التفسير اللاديني”، قرّرت الولايات التي تمنع إجراء مثل هذه الجراحات الذهاب إلى ما هو أبعد من المنع: حظرت أن يدخلها كلّ من يخضع لعملية تحويل حتى لو كان مولوداً ومقيماً فيها، ومن أبناء الولاية.

ومن مظاهر الانقسامات أيضاً أنّ الولايات التي يحكمها ولاة من الحزب الجمهوري تدافع عن بيع الأسلحة وحملها لكلّ مَن يشاء بلا قيد أو شرط. فهي تعتبر أنّ حرّية التسلّح الفردي مقدّسة، بعكس الولايات التي يحكمها الحزب الديمقراطي والتي تدعو (كما فعل الرئيس جو بايدن) إلى فرض قيود على حمل هذه الأسلحة. غير أنّ تشريعاً بهذا المعنى متعذّر حتى الآن لأنّه يمكن أن يُفسَّر بأنّه تعدٍّ على الحرّيات العامّة.

حتى في موضوع الانتخابات أقرّت 29 ولاية فقط في عام 2021 توسيع مجال الاقتراع بالبريد. وعارضت هذا الأمر 13 ولاية. ويشكّل هذا الأمر قنبلة موقوتة في الانتخابات الرئاسية المقبلة.

تراوح الوحدة الوطنية الأميركية بين المواقف والتشريعات التي تتّخذها ولاية مسيسيبي، أكثر الولايات انغلاقاً وتحفّظاً، وتلك التي تقرّها ولاية كاليفورنيا أكثرها انفتاحاً وليبرالية، فيما تفصل بينهما مسافة 2,700 كيلومتر

مسألة الكراهية

يعود التباين بين الولايات إلى موضوع الاختلافات العنصرية (بين السود والبيض من جهة، وبين البيض والسمر المهاجرين من دول أميركا الوسطى والجنوبية من جهة ثانية). وهذه مسألة دفعت أحد المرشّحين للرئاسة الأميركية، حاكم ولاية فلوريدا الحالي رون ديسنتيز، إلى إطلاق حملة لوقف دعوات الكراهية من خلال برامج التربية والتعليم في المدارس. وفي المؤتمر الصحافي الذي عقده ديسنتيز لإعلان مشروعه، قدّم عشرة أمثلة على انفجار الكراهية المدمّر للوحدة الوطنية، كما قال، لكن لم تكن فلوريدا مسرحاً لأيّ واحد منها.

وفيما أصدرت ولاية كاليفورنيا تشريعاً يفتح المستشفيات والمراكز الصحية أمام غير المواطنين (المهاجرين غير الشرعيين)، منعت ولاية تكساس تقديم أيّ خدمات طبّية حتى لذوي الدخل المحدود والفقراء العاجزين عن تسديد النفقات العلاجية، وبالتالي للمهاجرين من أميركا الجنوبية.

لا تعني هذه الانقسامات أنّ الولايات المتحدة تتّجه بالضرورة نحو حرب أهليّة (كما تخوّف صاموئيل هانتنغتون في كتابه عن خطر تعثّر الوحدة في التنوّع الأميركي)، لكنّها تشير إلى وقوع المزيد من الصدامات وتفجّر المزيد من التناقضات بين الإدارات المحلية في الولايات المتعدّدة.

تراوح الوحدة الوطنية الأميركية بين المواقف والتشريعات التي تتّخذها ولاية مسيسيبي، أكثر الولايات انغلاقاً وتحفّظاً، وتلك التي تقرّها ولاية كاليفورنيا أكثرها انفتاحاً وليبرالية، فيما تفصل بينهما مسافة 2,700 كيلومتر. تشمل الاختلافات بينهما التعليم المختلط (ذكوراً وإناثاً) ومبدأ استخدام اللقاح ضدّ الوباء (كورونا مثلاً). مسيسيبي ولاية جمهورية بامتياز، وكاليفورنيا ديمقراطية بامتياز أيضاً. تبدو الولايتان وكأنّهما دولتان مختلفتان وليستا منطقتين في دولة واحدة.

تهديد الوحدة الوطنية؟

تثير هذه التباينات والاختلافات قلقاً داخل الولايات المتحدة على مستقبل الوحدة الوطنية. فإلى جانب الكتاب الذي كتبه هانتنغتون وحُجبت الأضواء عنه، صدر كتاب جديد أقلّ درامية لأستاذ العلوم السياسية في جامعة واشنطن كريس ورشو يقول فيه إنّ توجّه الولايات اجتماعياً واقتصادياً توجّهات مختلفة ومتباينة يضرب بقوّة المشاعر الأميركية المستركة، وإنّ نتائج ذلك لا بدّ أن تنعكس بعمق على المجتمعات الأميركية بصرف النظر عن التوجّهات السياسية وانعكاساتها في العالم.

إقرأ أيضاً: التوقيت الصيفي: فكرة “حربية” لتوفير الطاقة

في هذا الكتاب يقدّم المؤلّف نماذج عن التباينات بين الولايات من عام 1930 إلى 2021. ويلاحظ أنّ التباينات بين الولايات ازدادت عمقاً واتّساعاً، وخاصة بين الجماعات اليمينية والجماعات اليسارية، وأنّ هذه الظاهرة مستمرّة اليوم وبوتيرة سريعة أيضاً، الأمر الذي يرسم علامة استفهام كبيرة حول الوحدة الوطنية الأميركية.

مواضيع ذات صلة

لماذا أعلنت إسرائيل الحرب على البابا فرنسيس؟

أطلقت إسرائيل حملة إعلامية على نطاق عالمي ضدّ البابا فرنسيس. تقوم الحملة على اتّهام البابا باللاساميّة وبالخروج عن المبادئ التي أقرّها المجمع الفاتيكاني الثاني في…

مع وليد جنبلاط في يوم الحرّيّة

عند كلّ مفترق من ذاكرتنا الوطنية العميقة يقف وليد جنبلاط. نذكره كما العاصفة التي هبّت في قريطم، وهو الشجاع المقدام الذي حمل بين يديه دم…

طفل سورية الخارج من الكهف

“هذي البلاد شقّة مفروشة يملكها شخص يسمّى عنترة  يسكر طوال الليل عند بابها ويجمع الإيجار من سكّانها ويطلب الزواج من نسوانها ويطلق النار على الأشجار…

سوريا: أحمد الشّرع.. أو الفوضى؟

قبل 36 عاماً قال الموفد الأميركي ريتشارد مورفي للقادة المسيحيين: “مخايل الضاهر أو الفوضى”؟ أي إمّا القبول بمخايل الضاهر رئيساً للجمهورية وإمّا الغرق في الفوضى،…