في الثلاثين من أيلول من عام 1989 اتّفق اللبنانيون على وثيقة الوفاق الوطني في مدينة الطائف السعودية بعد حرب لبنانية دامت أكثر من خمسة عشر عاماً. غير أنّ ما يُعرف اليوم بوثيقة الطائف لم يحصل على موافقة كلّ المسيحيين. باعتبار أنّ تقليص صلاحيّات رئيس الجمهورية كان لمصلحة مجلس الوزراء. تُرجم موقف القوى المسيحية الرافض لوثيقة لطائف بما لا يقبل الشكّ في عهد الرئيس ميشال عون الذي شهد صراعاً على الصلاحيات أدّى إلى اشتباك سياسي مستمرّ بين رئاستَيْ الجمهورية والحكومة.
ماذا يريد المسيحيون اليوم من النظام بعد سلسلة خسارات لحقت بهم منذ سنوات الحرب وصولاً إلى سنوات السلم؟ هل المسيحيون مستعدّون لتطبيق كامل بنود وثيقة الطائف التي تنصّ موادّ فيها على إلغاء الطائفية السياسية بعد تشكيل الهيئة الموكل إليها هذه المهمّة؟ أم أولويّاتهم تطبيق بنود أخرى في الطائف، وتحديداً اللامركزية الإدارية مقرونة بلامركزية مالية، باعتبارها ممرّاً إلزامياً لإلغاء الطائفية السياسية؟
عمق لبنان المارونيّ
فشلت محاولات إسقاط الطائف بعد إدخال مصطلح المثالثة على العمل السياسي في أكثر من محطة محلية ودولية. وبعد تركّز النقاش على العقد الاجتماعي الجديد، وتحديداً بعد وصول الرئيس الفرنسي إلى بيروت عشيّة تفجير الرابع من آب، تراجع هذا الكلام وسط تأكيدات على التمسّك بالطائف، وتحديداً من شخصيات محسوبة على حزب الله. في المقابل، مرّر البطريرك الماروني كلاماً عن ضرورة التمسّك بوثيقة الطائف بعدما دأب على الدعوة إلى التمسّك بالدستور. وتأتي إشارة الراعي هذه بعد سنوات من خطاب مسيحي يفضّل استخدام مصطلح “الدستور” على مصطلح “الطائف” على الرغم من مفاعيل المصطلحَيْن المشتركة قانوناً، وذلك لِما للطائف من إشكاليّات عدّة في الذاكرة المسيحية.
المواقع المسيحية في الدولة تمتدّ من الرئاسة الأولى إلى مواقع قيادية في المؤسّسات العسكرية والأمنية والمالية والقضائية. التغيير الذي حصل كان في نجاح الطائفة الشيعية
ينبع تمسّك الصرح الماروني بدستور الطائف من إدراكه أنّه يحافظ في قسمه الأوّل على الأقلّ على عمق لبنان الماروني، وكذلك على المناصفة. وهذا ما زال قائماً على الرُغم من حدوث تغييرات جذرية في موازين القوى، سواء أكان ذلك في السياسة أو الديمغرافيا.
المواقع المسيحية في الدولة تمتدّ من الرئاسة الأولى إلى مواقع قيادية في المؤسّسات العسكرية والأمنية والمالية والقضائية. التغيير الذي حصل كان في نجاح الطائفة الشيعية بجعل موقع المدير العام للأمن من حصتها عرفاً.
اليوم وقد عاد النقاش في كيفية تطبيق الطائف وليس في تغييره أو إسقاطه، انتقلت هواجس المسيحيين نحو تثبيت المُكتسبات عن طريق تطبيق بنود الإصلاحات السياسية والإدارية وشرطها الأول هو “لامركزية إدارية ومالية” كونها تشكل لهم ضمانة وخصوصية في أسلوب العيش إلى خصوصيتهم الثقافية والروحية مقابل أرجحية ديموغرافية مُسلمة.
أولويّات مسيحيّة في تطبيق الطائف
نصّت وثيقة الوفاق الوطني على أنّ “الدولة اللبنانية دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزية قوية”. وهذا ما يبدو جليّاً في النظام السياسي اللبناني الشديد المركزية بشكل يبدو أنّه يحاكي كلّ المخاوف التي نشأت بفعل قيام دولة هشّة في تكوينها الأساسي.
لكنّ الوثيقة نفسها ذكرت في المقابل في الفقرة “أ” من بند “الإصلاحات الأخرى” بند اللامركزية الإدارية التي تحاكي أيضاً هواجس التقسيم والفدرلة، علماً أن استحالة تحقيق أيّ منهما ثابتة ولم تنجح حتى في زمن الحرب.
نصّت وثيقة الوفاق الوطني على أنّ “الدولة اللبنانية دولة واحدة موحّدة ذات سلطة مركزية قوية”
يأتي هذا الإصلاح في الوثيقة بعد ذكر الإصلاحات السياسية التي تنصّ على تشكيل هيئة لإلغاء الطائفية السياسية في مجلس النواب والإبقاء على المناصفة في الفئة الأولى من الوظائف العامّة وما يوازيها من دون تخصيص أيّ طائفة لأيّ وظيفة. وهنا تبرز معضلة المسيحيين الذين يعتبرون أن إلغاء الطائفية السياسية تعني انتخابات برلمانية من خارج القيد الطائفي، وهو ما قد يُسقط المناصفة في مقاعد النواب كون الناخبين المُسلمين أكبر حجماً.
“وقف العد” ما عاد مضموناً
يدرك المسيحيون أنّ معادلة “وقّفنا العدّ”، التي أرساها الرئيس رفيق الحريري وحافظت عليها سوريا، لا يمكن أن تدوم إلى الأبد. وعليه، كثرت في الآونة الأخيرة ورش العمل التحضيرية عن قانون اللامركزية الإدارية لأنّه سيكون مادّة أساسية في النقاش السياسي في المرحلة المقبلة، وهو أولوية مسيحية تقضي بطرح قانون للّامركزية الإدارية والمالية يحاكي هواجسهم السياسية والاجتماعية، وقبل بدء تطبيق إلغاء الطائفية السياسية.
لذلك بدأت في وقت سابق ورشة عمل من أجل وضع التقسيمات المقبلة للوحدات اللامركزية على أن تتمتّع بـ “استقلالية سياسية ومالية” تلغي تأثير السلطة المركزية المتحكّمة بكلّ الإدارات، حتى تلك التي تُعنى بالمناطق كالبلديّات.
إقرأ أيضاً: تطبيق الطائف: الأونيسكو والكسليك… بدل جنيف
قبل يومين، قالت مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف إنّ “الوضع في لبنان قد يزداد سوءاً مع فراغ غير مسبوق في السلطة”. هذا الكلام يعايّن المخاطر المقبلة على لبنان. ففي مرحلة الانتظار ستنضج على الطريق تسويات أكبر من تلك الموضعية التي اعتادها لبنان في السنوات السابقة. وعليه سيكون قانون اللامركزية الإدارية جزءاً أساسياً من النقاش السياسي الحقيقي المقبل على البلاد، مع ما يحمله من ألغام ستنفجر في النقاش، وأبرزها ما يتعلّق بطرح اللامركزية المالية، خصوصاً أن اللغة السياسية الشائعة راهناً وإن كانت تُحاول طمأنة المسيحيين عن جديّة حقيقية بالتوجه نحو نقاش وإقرار اللامركزية، إلا أن كل ما صدر في هذا السياق يؤكد بأن اللامركزية المطروحة “ستكون إدارية غير مصحوبة بلامركزية ماليّة”، وهذا ما يرفع من قلق المسيحيين الذين يًصرون على الاثنتين معاً.