عون خارج التاريخ

مدة القراءة 3 د

ها هو وقد صدق وعده. “سأسلّم من بعدي لبنانَ أفضل”، قال. أحسنت يا ميشال عون، هكذا “حاف”، بلا ألقاب دمّر الهوس بها البلاد وأهلها. صدقت حقّاً. لبنان اليوم، رغم الأهوال التي حلّت عليه، أفضل، فقط لأنّك تغادر قصر بعبدا. أيّ لبنان من دونك، هو أفضل من أفضل لبنان معك.

لا يبدأ الفراغ اليوم. فالفراغ هو رئاستك، بسنواتها الستّ. نصف عقد فرَغ حتى من الحدود الدنيا من قيم المواطنة، وأخلاق القيادة، وضمير المسؤوليّة، وحسن النيّة، وصفاء الطويّة، وطيب السريرة. لم يكن الانهيار قدراً، ولا الانفجار قدراً، ولا جهنّم قدراً. إنّها مآلات مِن صنعك أوّلاً، ومِن صنع مَن أتوا بك بعد اختطاف البلاد سنتين ونصف سنة، فتحوا لك أبواب القصر بعدها بقوّة الكسر والخلع.

لبنان أفضل اليوم، لأنّك لست في رأس هرم قيادته إلى جحيم أشدّ سعيراً، وإن كانت مآثرك في النكد والنحس ستستمرّ من حيث ستدير المزيد من تعفين الجمهورية والدستور والعلاقات السويّة بين اللبنانيين.

لبنان بعدك، وبمجرّد أنّه بعدك، هو أفضل من لبنان معك. أتعلم أنّه بك وبرئاستك يُقاس القعر الرئاسيّ؟ “مِن ميشال عون وطلوع”، سيُقال في ترتيب الرئاسات.. فلا دون بعدك.. ولا تحت تحتك.. هاوية كتلك التي تُخلَق من “تحديق بئر بالسماء”، على حدّ الوصف العبقري للبرتغالي فيرناندو بيسوا.

لن يُشمَل اسمك في لائحة أسوأ الرئاسات. رئاستك، في السوء، معيار فرادة لا مقارنة. ثمّة أسوأ الرئاسات وترتيبها، وأفضل الرئاسات وترتيبها. ثمّ أنتَ. عهد ميشال عون. سلّمٌ نزلناه جحيماً جحيماً، إلى القعر المفرد.

مع ذلك، لا يكفي خروجك من بعبدا بموجب الدستور الذي أمعنت في احتقاره وتجاوزه، فكان ألدّ خصومك، وسيظلّ. لا يكفي خروجك من قصر بعبدا إلى قصر الرابية، لينعم لبنان ببداية جديدة.. ثمّة عمل كثير ينبغي أن يُعمل لإخراجك من التاريخ.

نعم، نحتاج إلى أن نتذكّر لنتعلّم. ولكنّنا أحوج إلى أن ننسى لتتسنّى لنا الحياة.

لن يكون لك في تاريخ لبنان إلا سطر واحد.. نجونا من الطاعون.. يا لها من عبارة حمّالة أوجه. فكلّ خراب حلّ بنا، حتى صرنا نهجس بالآتي بعد كلّ خراب.. مزاحاً وهذراً، توقّع بعضنا أن يلحقنا الطاعون بعد الكوليرا، في الميل الأخير من درب جهنّم.. لكنّنا نجونا… سطر واحد.. في عهد ميشال عون نجونا من الطاعون..

رئاستك هي ما لا ينبغي أن تكون عليه الرئاسات. هذا درس عهدك. وقيم قيادتك هي ما ينبغي أن لا يستلهمه القادة. هذا درس سيرتك. وكفى الله المؤمنين شرّ “التاريخ”. اللبنانيون أحوج ما يكونون إلى نسيان ميشال عون. وتاريخهم أكبر وأثرى من أن تُحجز فيه صفحات لرجل من طينته ولتجربة من نوع ما “علمنا وذقنا”!

إقرأ أيضاً: الفرح ليس حكراً على العونيّين!

لن يخرج ميشال عون من بعبدا. بل سيخرج من التاريخ الذي لطالما حلم به وبأن ينصفه ويعطيه مقعداً في صفوفه الأماميّة. لكنّ الأمنيات وحدها، أو الانطباعات المتورّمة عن الذات، لا تكفي لتسديد ثمن بطاقة العبور إلى التاريخ.

لا تخرج اليوم من بعبدا. ستخرج من التاريخ.

مواضيع ذات صلة

تركيا في الامتحان السّوريّ… كقوّة اعتدال؟

كان عام 2024 عام تغيّر خريطة الشرق الأوسط على أرض الواقع بعيداً عن الأوهام والرغبات التي روّج لها ما يسمّى “محور الممانعة” الذي قادته “الجمهوريّة…

ردّاً على خامنئي: سوريا تطالب إيران بـ300 مليار دولار

 أفضل ما كان بمقدور إيران وقياداتها أن تقوم به في هذه المرحلة هو ترجيح الصمت والاكتفاء بمراقبة ما يجري في سوريا والمنطقة، ومراجعة سياساتها، والبحث…

إسرائيل بين نارين: إضعاف إيران أم السُنّة؟

الاعتقاد الذي كان سائداً في إسرائيل أنّ “الإيرانيين لا يزالون قوّة مهيمنة في المنطقة”، يبدو أنّه صار من زمن مضى بعد خروجهم من سوريا. قراءة…

تركيا والعرب في سوريا: “مرج دابق” أم “سكّة الحجاز”؟

الأرجح أنّ وزير الخارجية التركي هاكان فيدان كان يتوقّع أن يستقبله أحمد الشرع في دمشق بعناقٍ يتجاوز البروتوكول، فهو يعرفه جيّداً من قبل أن يكشف…