في كلّ أزمة من أزماتهم يعود اللبنانيون إلى سؤال البداية: لِمَ اجتمعنا في دولة واحدة، وما هي الظروف التي تحكمنا؟ ثمّ ينزلق السؤال التالي تلقائيّاً: لِمَ لا تفترق كلّ طائفة إلى حيث ترغب وتريد؟
لكنّ العائق ليس الإرادة، بل الجغرافيا الديموغرافية والسياسية والاقتصادية التي تغيّرت إلى درجة الاستحالة. أي استحالة العودة مئة سنة إلى الوراء من دون خسائر ثقيلة.
فما هو إذاً مفهوم الدولة الوطنية التي تجمعنا؟ وهل تنطبق على لبنان؟ هل توجد دولة حقيقية في لبنان، أم هي تعبير قانوني مجرّد لا واقع له؟
“الدولة” من المفاهيم السهلة الممتنعة. تبدو واضحة إلى درجة البديهيّات، لكنّها غامضة بالدرجة عينها إلى مستوى المعضلات. هي ليست مفهوماً ثابتاً ولا نهائيّاً، إن في أبعاده أو حدوده أو وظائفه أو مضامينه
عصر السيولة
“الدولة” من المفاهيم السهلة الممتنعة. تبدو واضحة إلى درجة البديهيّات، لكنّها غامضة بالدرجة عينها إلى مستوى المعضلات. هي ليست مفهوماً ثابتاً ولا نهائيّاً، إن في أبعاده أو حدوده أو وظائفه أو مضامينه، بل يتطوّر مفهومها مع تطوّر المجتمع. والدولة الحديثة منذ نشأتها يراوح مداها وحجمها وصلاحيّاتها بين التوسّع والانكماش، بين الانغلاق داخل الحدود والانفتاح، بين أن تكون دولة ذات سيادة حصريّة داخلياً وبإزاء الخارج، أو أن تكون دولة مشرّعة الأبواب أمام التأثيرات الخارجية، من اتّحادات إقليمية (كالاتحاد الأوروبي مثالاً)، أو دولية (الأمم المتحدة)، أو فاعلين فوق الدول أو خارجها (مثل المنظّمات والمؤسّسات والجماعات العابرة للدول).
وفي هذا المشهد السائل، قد يبدو الكلام المجرّد عن دولة – أمّة (دولة قوميّة) (État-nation)، أو حتى دولة وطنية (national state) نوعاً من الفانتازيا أو الوهم، مع هيمنة الدول الكبرى على مصائر الدول الصغيرة والمتوسطة، أو على مجمل الدول غير النووية في العالم، بتعبير أكثر واقعية. لكن قبل استعراض مفهوم الدولة الوطنية، تاريخها ومستقبلها، في العالم قيد التشكّل على نار الحرب الروسية الأطلسية في أوكرانيا، لا بدّ أوّلاً من التدقيق في مفهومَيْ “الدولة” و”الوطنية”.
الدولة شرقاً وغريًا
“الدولة” هي الترجمة العربية لكلمة “state”. والأخيرة مشتقّة من فعل “stare” اللاتيني، وهو فعل الوقوف “to stand”، كما من “status” التي تعني الشهرة أو الحالة أو الوضع. وهذه تُعزى عادة إلى فرد في مجتمع ما. واستخدام كلمة “status” يعود إلى حالة الحاكم وواقع تحصيل الاستقرار أو العناصر الأساسية للاستقرار. وثمّة رابط بين هذا كله وكلمة “estate” التي تعني ما يملكه المرء من أرض أو أموال. فمَن يملك الثروة الكبرى يمكنه حيازة السلطة العظمى، وكذلك امتلاك القدرة الكبرى.
ولفظ الدولة (state) لم يُستخدم في أدبيّات أوروبا إلا في القرن السادس عشر الميلادي،(Andrew Vincent, Conceptions of the State, Encyclopedia of Goverment and politics) . أمّا في المعاجم العربية فكلمة دولة تدلّ على انتقال المال والغلبة، فهي انتقال من حال إلى آخر، ومن مكان إلى آخر. وهي بمعنى انقلاب الزمان، وإدالة الغلبة. ودالت الأيام أي دارت. واستعمل المؤرّخ والمحدّث شمس الدين الذهبي (ت748هـ/1348م) كلمة دولة مرادفة للسلطة، ونسبها إلى كلّ خليفة. وعندما تكلّم في كتابه: دول الإسلام، عن عهود الخلفاء الراشدين، قال: دولة أبي بكر… دولة عمر… دولة عثمان… دولة عليّ. كما نَسَب الدولة إلى الأسرة الحاكمة، فقال: الدولة الأمويّة… الدولة العباسيّة. أمّا ابن خلدون (ت 808هـ/1406م)، فهو أوّل من استعمل مصطلح الدولة على نحوٍ مركّز، في مقدّمته التي رسمت دورة صعود الدول المتعاقبة وسقوطها. وهو أكّد عدم الثبات في معنى الدولة عربيّاً، بخلاف state الغربية.
في تفسير هذا التباين الواضح، يعتبر الفقيه الدستوري إدمون ربّاط في كتابه: القانون الدستوري العامّ أنّ الشرقيين رأوا من تغيير الدول والأحوال ما جعلهم لا يلحظون في الحكم إلا أنّه معرّض على الدوام للتبديل والانقلاب، فيما استعمله الغربيون للدلالة على الحكم المستتبّ بينهم، فلم يجدوا تعبيراً أشدّ معنى من كلمة “status” باللاتينية، و”stato” بالإيطالية و”état” بالفرنسية و”state” بالإنكليزية و”staat” بالألمانية للإشارة إلى أنّ الأمر أو الحكم لا يتبدّل ولا ينبغي له، لأنّه دائم وقائم ومستقرّ.
“الدولة” هي الترجمة العربية لكلمة “state”. والأخيرة مشتقّة من فعل “stare” اللاتيني، وهو فعل الوقوف “to stand”، كما من “status” التي تعني الشهرة أو الحالة أو الوضع
الوطنية.. والحلم العربي
أمّا لفظ “وطنية”، فهو أيضاً مفهوم ملتبس بسبب الترجمة من اللغات الأوروبية إلى اللغة العربية. فلم يعرف العرب مفهوم “الدولة الوطنية national state”، قبل حلول سلطة الاستعمار في بلادهم بين القرنين التاسع عشر والعشرين. ومع التحرّر منه، قامت الدولة الوطنية استنساخاً من الغرب، ولم تكن لتدلّ على المعنى الغربي للدولة – الأمّة، أو الدولة القومية، لأنّ الدولة القومية تهدف إلى جمع غالبية الأمّة على امتدادها الجغرافي، كما سائر الدول القومية التي نشأت على التوالي في أوروبا بعد معاهدة وستفاليا في ألمانيا عام 1648م. والدول العربية الوطنية أو القُطرية تتوزّع أمّة العرب بينها، وظلّت الدولة القومية العربية حلماً. ومن جهة مواصفات الدولة الحديثة، فهي غير متوافرة إلا بتفاوت شديد في الدولة الوطنية في العالم الثالث، ولا سيّما في بعض مناطق إفريقيا، جنوبي الصحراء الكبرى، فهي دول غير حقيقية، بل هي كذلك بالمعنى القانوني لا العملي كما استنتج عام 1982 روبرت جاكسون Robert Jackson وكارل روزبرغ Karl Rosberg.
لكنّ كلمة national مشتقّة من nation، وهي تعني الأمّة أو الشعب الواحد في أرض واحدة. فالانتقال من معنى الأمّة إلى معنى المواطنيّة، يتجاوز العِرْق (الانتماء إلى الأصل الواحد) والإثنية (الانتماء إلى الثقافة المشتركة)، إلى إرادة المواطنين في بقعة جغرافية واحدة على اختلاف أعراقهم وثقافاتهم ولغاتهم أن يتوحّدوا في دولة واحدة، حسبما جاء في محاضرة المستشرق الفرنسي إرنست رينان Ernest Renan (توفّي عام 1892م) في السوربون في 11 آذار عام 1882، تحت عنوان: “ما هي الأمّة؟ (Qu’est-ce qu’une nation?)”.
كلمة national مشتقّة من nation، وهي تعني الأمّة أو الشعب الواحد في أرض واحدة. فالانتقال من معنى الأمّة إلى معنى المواطنيّة
فرنسا نموذج الدولة – الأمّة
اتّخذ رينان من فرنسا نموذجاً للدولة المتحوّلة من دولة قومية إلى دولة المواطنة. اسم فرنسا نفسها France، يرجع إلى القبائل الجرمانية francs التي اجتاحت أوروبا بعد تفكّك الإمبراطورية الرومانية في القرن الخامس الميلادي وأنشأت إمبراطورية بديلة ما لبثت أن تفكّكت إلى ممالك، ومنها نشأت الدول الأوروبية الحديثة. الفرنجة بحسب تعبير العرب في القرون الوسطى، كانوا أقليّة في فرنسا، لكنّهم كانوا الطبقة العسكرية الحاكمة، إلى جانب القوميّات الأخرى من غاليين وقوط ولومبارديين وغيرهم. وفي القرن العاشر الميلادي، صار شائعاً أنّ كلّ من يسكن فرنسا هو فرنسيّ. لكنّ توحيد فرنسا ككيان سياسي وطني متماسك، لم يمرّ من دون مجازر مروّعة على أساس ديني.
في القرن الثالث عشر الميلادي ما بين عامَيْ 1209 و1229م، انطلقت حملات صليبية بكلّ معنى الكلمة بدعم من البابوية ضدّ جنوب فرنسا، وإمارة تولوز ضمناً، بسبب انتشار جماعة دينية منشقّة عن الكاثوليكية catharism. قُتل الكثير خلال تلك الحملات، وسقط كثيرون على يد محاكم التفتيش ابتداء من عام 1233م. وفي عام 1527م، وقعت مجزرة أخرى ضد البروتستانت في باريس وفي بلدات أخرى، وهي التي عُرفت تاريخياً بمجزرة سانت بارتيليمي، وسقط فيها عشرات الآلاف. واعتُبرت من سلسلة الحروب الدينية في أوروبا، لكنّها كانت أيضاً ضمن مخاض ولادة الدولة القومية ذات الدين الواحد (الكاثوليكيّة). وانتهت فرنسا بعد الثورة على المَلَكية عام 1789م، إلى أن تصبح دولة حديثة علمانية، بعد مسار صعب من الحروب والنزاعات، وفق قانون عام 1905 الذي فصل رسميّاً بين الدولة والكنيسة.
لهذا اعتبر رينان أنّ نسيان التاريخ هو عنصر أساسيّ لقيام الأمّة، وأنّ تطوّر الأبحاث التاريخية يمثّل خطراً على المواطنية nationality، لأنّها تكشف أعمال العنف التي جرت أثناء تشكّل الكيانات التاريخية.
الدولة الوطنيّة الحديثة
وعليه، لا تقوم الدولة الحديثة على اللغة، ولا على العرق، ولا على الدين. فكلّ هذه العناصر غير كافية، لأنّه لا توجد دولة صافية، وهي لا تحوز كلّ الناطقين بلغة واحدة، أو المنتمين إلى أصل عرقي واحد أو دين واحد. فضلاً عن ذلك، لا تكفي المصالح المشتركة لقيام أمّة ودولة، فالمصالح يمكن حفظها من خلال اتفاقات تجارية. أمّا الجغرافيا بمعنى الحدود الطبيعية، من أنهار وجبال، فهي تعني عند رينان، تقسيم الأمّة الواحدة أحياناً، وقد تعني أيضاً خوض الحروب وضمّ المناطق للوصول إلى ما يمكن اعتباره حدوداً طبيعية. وفي ما يعني تكوين الدول وفق الضرورات العسكرية البحتة، فهو من قبيل شنّ الحروب التي لا نهاية لها، بذريعة تحقيق الشروط الدفاعية الملائمة لأيّ أمّة.
يخلص رينان في مطالعته العميقة، إلى أنّ الأمّة هي مبدأ روحي. وثمّة أمران يشكّلان روح الأمّة: واحد في الماضي وآخر في الحاضر. فالأوّل هو الذكريات المجيدة المشتركة لشعب ما (ونسيان الذكريات المؤلمة في الوقت عينه). فالأمّة كما الفرد، نتاج مسار طويل من الجهود، والتضحيات، والإخلاص لقضية ما. وإنّ تقديس الأجداد هو أمر مشروع كما يقول رينان، لأنّهم هم الذين جعلونا نكون على النحو الذي نبدو فيه الآن. إنّ سِير العِظام السالفين، والإنجازات والآلام المشتركة السابقة، تكوِّن الرأسمال الاجتماعي الذي على أساسه تنشأ فكرة وطنية. أمّا الثاني ذو العلاقة بالحاضر، فيرتبط بالإرادة المشتركة لمتابعة الحياة معاً، بل إنّ بقاء الأمّة (والدولة)، هو نتاج الاستفتاء اليومي على هذا الأمر، وهو قرار يتجدّد كلّ يوم!
لبنان دولة وطنيّة؟
من التعريفات الأساسية للدولة، ما أدلى به عالم الاجتماع الألماني المشهور ماكس فيبر Max Weber (توفّي عام 1920م) من أنّها التي تحتكر العنف المشروع في بقعة جغرافية محدّدة. وعليه، استنتج علماء السياسة من بعده، أنّ الدولة التي لا تستطيع احتكار العنف داخل الحدود الجغرافية المعلومة، ليست دولة حقيقية، لأنّها تفقد أهمّ عنصر من عناصر السيادة الداخلية.
إقرأ أيضاً: الطعام في العلاقات الدوليّة
بالعودة إلى معايير الدولة لدى إرنست رينان، فإنّ لبنان تعتريه مواضع عطب عدّة. فالسردية الوطنية لم تكن موحّدة عام 1920م عندما أعلن الجنرال الفرنسي غورو باسم الانتداب – الاحتلال، قيام لبنان الكبير. فتوسيع جبل لبنان، إلى الشمال والجنوب والشرق، كان لأسباب اقتصادية مصلحيّة (المجال الحيويّ للجبل)، ولعوامل جيوبوليتيكية ودفاعية، أي النهر الكبير شمالاً والسلسلة الجبلية شرقاً، حدوداً طبيعية، ويُستثنى الجنوب من هذه الميزة، فالامتداد السهلي طبيعي بين جنوب لبنان وشمال فلسطين. أمّا التاريخ اللبناني المشترك، فهو ذاكرة الجبل فحسب. وقسم كبير من هذه الذاكرة، مؤلم بسبب النزاع الدرزي – الماروني، منذ أيام فخر الدين الثاني (أُعدم في الآستانة عام 1635م) والأمير بشير الشهابي الكبير (توفّي منفيّاً في الآستانة عام 1850م)، إلى أيام القائمقاميّتين والحرب الطائفية في الجبل عام 1860م. ولولا الوفاق الوطني الإسلامي المسيحي ممثّلاً ببشارة الخوري (توفّي عام 1965م) ورياض الصلح (اغتيل في الأردن عام 1951م)، لما قُدّر للبنان أن يستمرّ على الرغم من الحروب الأهلية الصغيرة والكبيرة منذ ذلك الحين. وهذا ما يجعل بقاء لبنان عمل استفتاء يومي كما قال رينان، مع البحث الدائم عمّا يجمع لا ما يفرّق، وتناسي المآسي التاريخية، والاحتكام دائماً إلى منافع اللقاء ومضارّ الفراق، وبالعكس.