أما وقد بات للعراق حكومة جديدة، فإنّ لبنان لن يتأخّر عنه، إذ بات لديه تفاهم ترسيم حدود لا يرقى إلى معاهدة لكنّه يؤسّس لاتفاق مستقبلي يمهّد الأرضية لفتح الطريق إلى ترتيبات سياسية وأمنيّة داخلية وإقليمية.
المسافة ما بين مبنى البرلمان العراقي في شارع 14 تموز في المنطقة الخضراء في العاصمة العراقية بغداد، وبين مبنى قوات الأمم المتحدة في مدينة الناقورة جنوب لبنان لا تُقاس هذه الأيام بالأمتار بل بالساعات، والفارق الزمني ما بين التوقيع اللبناني على تفاهم أو اتفاق ترسيم الحدود، والتصويت العراقي البرلماني على منح الثقة للحكومة الجديدة، هو فارق لا يتعدّى الساعات الثلاث، بعدما تسارعت في الأسابيع الأخيرة خطوات الحسم.
أكثر من زيارة قامت بها رومانوسكي لرئيس الوزراء العراقي أثناء فترة تكليفه، منفردة أو برفقة قائد قوات التحالف الدولي الجنرال ماثيو مكافرلين، كانت تهدف إلى تثبيت نقاط التفاهم ومستقبل العلاقة بين الإدارة الأميركية والحكومة الجديدة
ما يستدعي التوقّف عنده في المسارين العراقي واللبناني أنّ المسافة بين القصرين الجمهوريَّين والسفارة الأميركية في كلا البلدين لم تشكّل حائلاً دون زيارات السفيرتين دورثي شيا وآلينا رومانوسكي المكّوكية والاجتماعات الماراتونية التي قامتا بها من أجل ترتيب الملفّات وتذليل العقبات وتفكيك الألغام من أجل الوصول إلى النتائج التي تخدم الهدف والمصالح الأميركية في المرحلة الجديدة.
اللافت أيضاً أنّ الدبلوماسية الأميركية، ومعها إدارة الرئيس جو بايدن، تدرك وتعرف بكلّ وضوح أنّ المفاوضات التي تقودها في البلدين هي مفاوضات غير مباشرة مع طرف يجلس في خلفيّة المشهد ويدير التفاصيل من وراء الكواليس. في حين أنّ الجالس، على اختلاف التسميات، أمام المفاوض أو المحاور أو الوسيط الأميركي، لا يشكّل سوى جسر لتفاهمات أوسع وأبعد من الحدود والمصالح التي يمثّلها. بل وأنّ جلّ ما يسعى إلى تحقيقه لا يتعدّى مصالحه التي ينوي توظيفها داخلياً لدعم دوره وموقعه في تركيبة السلطة والدولة وقيادة القرار السياسي والسيادي فيها. خاصة أنّ استمرارية وثبات أيّ تفاهمات يتمّ التفاهم والاتفاق عليها لا بدّ أن يترافقا مع ضمانات الطرف الذي يقف في الظلّ ويحرّك خيوط اللعبة من وراء المشهد في طهران.
ترسيم بيروت… وحكومة العراق
على الرغم من أنّ الرئيس المكلَّف بتشكيل الحكومة العراقية محمد شياع السوداني أنجز مهمّته بعد استنفاد المهلة الدستورية الطبيعية المحدّدة بخمسة عشر يوماً، إلا أنّ المحرّك الظاهري لها كان في السعي مع الأطراف الداعمة له داخل تحالف “إدارة الدولة” بقيادة “الإطار التنسيقي” إلى التسريع في إنهاء المرحلة الانتقالية والتخلّص ممّا بقي من دور لرئيس الحكومة السابق مصطفى الكاظمي. فيما العامل المساعد الذي لعب دوراً أساسياً ومحورياً في تحقيق هذا الانتقال هو الحراك الدبلوماسي الذي قادته السفيرة الأميركية في العراق آلينا رومانوسكي والمفاوضات التي أجرتها مع السوداني، والتي لا تخرج عن إطار وسياق التفاهمات التي سبق أن جرت بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني في حزيران الماضي لتسهيل الحلول في بعض الملفّات الإقليمية التي تشكّل ساحات اشتباك بينهما، خاصة ما يتعلّق بالساحتين العراقية واللبنانية.
وبانتظار ما ستتكشّف عنه المرحلة المقبلة من تفاصيل أخفتها ابتسامة الوسيط الأميركي آموس هوكستين وهو يتنقّل بين الرئاسات اللبنانية برفقة سفيرة بلاده والراعية الرسمية لاتفاق الناقورة دوروثي شيا، فإنّ التسريبات عن مهمّة نظيرتها في العراق رومانوسكي بدأت بالظهور، وهي تسريبات تساعد على استكمال الصورة التي انتهى إليها المشهد العراقي، وما ستكون عليه الأمور في الملفّات الأخرى في المنطقة.
أكثر من زيارة قامت بها رومانوسكي لرئيس الوزراء العراقي أثناء فترة تكليفه، منفردة أو برفقة قائد قوات التحالف الدولي الجنرال ماثيو مكافرلين، كانت تهدف إلى تثبيت نقاط التفاهم ومستقبل العلاقة بين الإدارة الأميركية والحكومة الجديدة التي تمثّل إرادة فريق معروف الانتماء والتوجّهات السياسية والإقليمية.
يبدو أنّ اللقاء بين السوداني وقائد قوات التحالف الجنرال ماثيو ماكفرلين فتح التفاهم الأميركي الإيراني على مجالات الأمن والعسكر
أميركا تهدّد إيران
يقرّ الجانب الأميركي بأنّ الحكومة العراقية جاءت نتيجة تفاهم مع الجانب الإيراني، وأنّ عدم الالتزام بهذا التفاهم سيضع هذه الحكومة ورئيسها أمام مصير يشابه ويشبه مصير حكومة الرئيس الأسبق عادل عبد المهدي. ولقطع الطريق على الوصول إلى هذا المصير يجب على الحكومة الجديدة الالتزام بما تمّ التفاهم والاتفاق عليه مع الإيرانيين، الذي يشمل عدم المساس بالمصالح الأميركية، وعدم الاقتراب من ملفّ الصادرات النفطية في هذه المرحلة الدقيقة التي تشهد فيها الأسواق الدولية تقلّبات نتيجة الآثار السلبية للحرب الروسية على أوكرانيا. وهذا يعني أنّ الحكومة ستتحمّل مسؤولية أيّ عمل قد تقوم به الفصائل المسلّحة ضدّ المصالح والاستثمارات النفطية، الأمر الذي يستدعي من أجهزة هذه الحكومة توفير الحماية الأمنية للحقول والشركات الدولية العاملة في العراق. خاصة أنّ المرحلة السابقة شهدت خرقاً دفع العديد من الشركات إلى الانسحاب وتعليق نشاطاتها في الحقول العراقية. لذا تقع على عاتق هذه الحكومة تنفيذ التفاهم الذي جرى مع الإيرانيين والمتعلّق تحديداً بعمل واستثمارات وأمن ومصالح الشركات الأميركية العاملة في العراق، ومن ضمنه وقف الهجمات الصاروخية على المصالح والقواعد والبعثات الأميركية والعاملين والمتعاونين مع هذه البعثات والشركات.
تفاهمات أمنية وعسكرية
من ناحية أخرى، يبدو أنّ اللقاء بين السوداني وقائد قوات التحالف الجنرال ماثيو ماكفرلين فتح التفاهم الأميركي الإيراني على مجالات الأمن والعسكر. إذ من المتوقّع أن تحسم هذه الحكومة، بموافقة قوى “الإطار” التي تمثّل الجانب الإيراني، إشكالية وجود القوات الأميركية ودورها في العراق. خاصة ما يتعلّق بتفعيل الاتفاقية الاستراتيجية بين البلدين، والعودة إلى ما سبق التفاهم عليه من تغيير التوصيف الوظيفي للقوات الأميركية في العراق. وهو ما يعني البقاء في العراق وعدم الانسحاب التامّ، هذه المرّة بموافقة إيرانية. سيضمن هذا الأمر لحكومة السوداني الحصول على الدعم الأميركي لمهمّتها، ومساعدتها في تذليل العقبات أمام تنفيذ سياساتها الاقتصادية والمالية والأمنيّة.
إقرأ أيضاً: العراق: الحكومة قريباً..والمالكي يحاول احتواء الصدر ..
إذا ما كانت الصورة في العراق قد توضّحت، فإنّ الموقف الوحيد الذي صدر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد كفيل بتوضيح صورة ما حصل في الناقورة، عندما قال إنّ الاتفاق سيضمن استقراراً أمنيّاً لإسرائيل على حدودها الشمالية والبحريّة. ويبقى أن نشهد ترجمات هذا الاتفاق الأخرى من خلال وقف الاعتداءات والخروقات الإسرائيلية البرّية والبحرية والجوّية للبنان، التي قد تؤسّس لفتح مسار مختلف في المستقبل.