لولا العلاقة العاطفية العميقة التي تربط الفلسطينيين بالجزائريين، لَما نشرت الصحافة الفلسطينية صورة قادة الفصائل يتوسّطهم الرئيس عبد المجيد تبّون ويرفع معهم الأيدي احتفالاً بانتهاء أحد أعراس “المصالحة”.
خلاف مع أبو عمار لا خلاف عليه
كان نشر الصورة مجرّد مجاملة للرئيس الجزائري، إذ كانت نسخٌ طبق الأصل عنها نُشرت منذ عهد الراحلَيْن علي عبد الله صالح وعمر سليمان، مع صور بالفيديو كونفرنس اصطفّ فيها قادة الفصائل الذين اجتمعوا في بيروت أمام الرئيس محمود عباس، ليكرّروا في مشهد احتفالي ما قاله جورج حبش لياسر عرفات: “نختلف معك ولا نختلف عليك”.
لقد تمّ استنساخ هذه الجملة لتُقال لعبّاس بفارق عشرات السنين تفصل زمن الراحلين عن زمن المنقسمين.
صور العناق والتضاحك ورفع إشارات النصر كانت تتلاشى في اليوم التالي، ليحلّ محلّها سجال أبسط أدبيّاته تخوين متبادل بين سدنة الانقسام أنفسهم، الذين حدث في عهدهم ما لم يحدث مثله في تاريخ القضية الفلسطينية، من انقسام بلغ حدّ الانفصال واستحقّ بجدارة أن يوصف بالنكبة الثانية بعد نكبة الـ 48 الأولى.
اللاعبون في الملعب الخطأ
بعد خمس عشرة سنة من الانقسام وفشل جميع محاولات إنهائه ظهر جليّاً أنّ سدنته والمتدخّلين لإنهائه لعبوا طويلاً في الملعب الخطأ ومع اللاعبين الخطأ وبصيغة خاطئة.
الملعب الخطأ هو عواصم الوسطاء، واللاعبون الخطأ هم الفصائل، والصيغة الخطأ هي محاولة صناعة مركبة بقطع غيار لم تعُد صالحة.
الملعب هو عواصم الوسطاء، وكلمة السرّ التي تفسّر فشلها في إنهاء الانقسام تكمن في أنّ من لم يفلح في ترتيب علاقاته مع نظرائه في بلده وبين شعبه وتحت ضغط أفظع احتلال يفترض أن يوحّد المعاناة والمأساة والجهد، لن يتوحّد حتى لو تدخّلت كلّ عواصم الكون، فهل هنالك أهمّ من القاهرة ومكّة وموسكو ثمّ الجزائر فيما بعد؟
لقد تدخّلوا جميعاً مع عدد آخر من العواصم. كانت الأماكن مختلفة والأجندات أيضاً، لكنّ النتيجة كانت واحدة… الفشل.
الملعب الخطأ هو عواصم الوسطاء، واللاعبون الخطأ هم الفصائل، والصيغة الخطأ هي محاولة صناعة مركبة بقطع غيار لم تعُد صالحة
أمّا اللاعبون الخطأ فهم الذين ما إن يحصلون على دعوة من نظام ما في بلد ما حتى يلبّوا شاكرين متحمّسين ويفرشوا طريق الذهاب بأدبيّات النجاح الحتميّ، ويفرشوا طريق الإياب بتصميم قوي على نسيان كلّ ما قيل في الذهاب، عاقدين العزم على مواصلة انقسامهم كبضاعة تستدعي دعوات جديدة وضيافات أكثر سخاءً.
المشهد الجزائري كان الأكثر دقّة في التعبير عن الحالة. كان القوم المجتمعون عن بعد ثلاثة آلاف ميل عن أرض الوطن، يعملون وفق ساعة زمن توقّفت عند ثمانينيّات وتسعينيّات القرن الماضي، أي ذلك الزمن الذي كانت فيه الفصائل تجسّد حال اتفاقها أو اختلافها الوضع الفلسطيني في أهمّ وأفعل تجلّياته.
كانت تختلف فيما بينها وتقاطع بعضها بعضاً وتتبادل الاتّهامات بحدودها الدنيا والقصوى، إلا أنّها كانت تتّفق على محرَّم لا يجوز الاقتراب منه وهو الانقسام، حتى حين وقع انشقاق “فتح” الكبير وجدت الفصائل نفسها أمام منعطف تاريخي أحسنت اختيار اتّجاهها فيه، فلم تستثمر بصورة انتهازية انشقاق التنظيم الأكبر الذي كانوا يُجمعون على وصفه بالعمود الفقري، بل عملوا كلّ ما باستطاعتهم كي لا يتّسع ويتعمّق، وأنجزوا مجالس وطنية توحيدية كانت الجزائر واحدة من محطّاتها المهمّة، فخرجوا من عنق الزجاجة، وابتعدوا جميعاً عن حفرة الموت وفازوا بحياة جديدة لثورتهم ومنظّمتهم ولمشروعهم الوطني.
إقرأ أيضاً: “عرين الأسود” لهيب يمتد إلى إسرائيل
كل شيء تغيّر إلا أداء الفصائل
انتهى ذلك الزمن بفعل دورة الحياة الطبيعية وبفعل المتغيّرات الفلسطينية والإقليمية والدولية. دخل الجميع تحدّي أوسلو رفضاً وقبولاً، وفُرض على الجميع دخول إسرائيلي على حياتهم وسياساتهم، ونهض الإسلام السياسي حارقاً مراحل، فانتقل من الهامش إلى القلب. وأمّا الفصائل فقد تجرّدت من سلاحها لتحتفظ بشرعية متقادمة عزلاء عن أيّ مقوّم جدّيّ من مقوّمات صدقيّتها وفاعليّتها، ودخل العرب دائرة التطبيع مع إسرائيل الذي أفرز جانباً مهمّاً منه ما سُمّي بالربيع العربي، ودخلت المنطقة والعالم واقعاً جديداً يكتظّ بالقضايا المنافسة للقضية المركزية، وكلّها أكثر سخونة وتأثيراً في الاهتمام الدولي، وهذه المتغيّرات وقد اكتفيت بذكر بعض عناوينها غيّرت كلّ شيء في الإقليم والعالم إلّا شيئاً واحداً لم يتغيّر، وهو الفصائل والصيغة التي تُحكَم بها الحالة الفلسطينية، وهي صيغة قوامها تشبّث بالموقع وابتعاد عن الواقع، ونتيجة ذلك ما نراه الآن، ولا مبالغة في وصف من ينظر إليهم كقادة وشرعيّة بأنّهم أشبه بباعة جائلين يعرضون بضاعة كاسدة يسمّونها المصالحة. وضع كهذا يكرّس طبقة محنّطة في زمن يضجّ بالحياة والمتغيّرات، وهذا ما لا يستحقّه الشعب الفلسطيني ولا من يحبّونه ويلتزمون بدعمه ونصرته.