لن يقوى الكثير من الأدباء على الإعلان عن التصدّي لأصول الخرافة التي صارت جزءاً من معتقدات شرائح عريضة من المجتمع العربي لأنّهم يخشون التعرّض للقتل أو الاعتداء على يد جاهل لا يعرف شيئاً عن الأدب، لكنّ الشائعة تدفعه إلى ارتكاب جريمة كما حدث مع الروائي سلمان رشدي الذي كان مطمئنّاً إلى سلامته بعدما أُسقطت فتوى الخميني بقتله.
وإذا ما توجّهنا إلى أدب أميركا اللاتينية، وبالأخصّ ما يتعلّق منه بالواقعية السحرية، فإنّه يستند أصلاً إلى الخرافات التي كانت شائعة في المجتمعات التي كانت مصدر إلهام شعري عميق. غير أنّ روائيّين كباراً من نوع غابرييل غارسيا ماركيز استطاعوا أن يطحنوا مادّة تلك الخرافات ويحوّلوها إلى مزيج يعالجونه فنّيّاً وفي ذهنهم ذلك الركام الغرائبي من الوقائع السياسية والوعي الثقافي الشقي. ففي رائعته “مئة عام من العزلة” لم يكن ماركيز سياسياً، غير أنّ الأثر الذي تتركه الرواية لا بدّ أن يعكس موقفاً سياسياً من شأنه أن يوسّع حدود الرؤية لِما شهدته دول أميركا اللاتينية المعذّبة بسبب استعمار الشركات الأميركية.
عن خرافاتنا وخرافاتهم وخدم العقائد
في طبيعة الحال هناك اختلاف بين خرافاتنا وخرافاتهم. فشعوب العالم وإن تحرّرت من سلطة الخرافة فإنّها تملك مسافة للمراجعة التي ترتبط بسحر الحكاية التي تنطوي على الكثير من الجذب والتشويق، وهو الجانب السحري الذي ولج من خلاله الروائيون إلى عالم السياسة بكلّ ما يحمله من تناقضات مريرة. أمّا الشعوب التي لا تزال واقعة تحت هيمنة الخرافة فإنّ هناك خطّاً أحمر يقوم بحراسته خدم العقائد التي امتزجت بحكم التاريخ بمكانة أولي الأمر، وهو التعبير المموّه عن رجال السياسة القابضين على الحكم بقوّة الخرافة.
لقد فتح العرب أعينهم واسعاً حين قرأوا الروايات الآتية من أميركا اللاتينية مترجمة، لا لقوّة أدائها التعبيري ولا لارتباط الواقع بالسحر، بل لأنّهم عثروا أخيراً على النصوص التي تعبّر عن حقيقة أحوالهم
لذلك كان المسّ بالخرافة الشعبية ولا يزال إلى حدّ بعيد بمنزلة اختراق للعقيدة يستحقّ صاحبه العقاب، وهو ما حدث لصاحب نوبل الأدبية نجيب محفوظ بسبب روايته “أولاد حارتنا” التي ظلّت ممنوعة من التداول زمناً طويلاً. فتلك الرواية لم يتمّ التعامل معها باعتبارها عملاً أدبياً خيالياً، بل جرى النظر إليها باعتبارها موقفاً سياسياً مضادّاً للعقيدة. ذلك ما دفع إلى التحريض على محفوظ فقام أحد الجهلة بطعنه. بعد ذلك أثبتت التحقيقات أنّ الجاني لم يكن قد سمع بنجيب محفوظ ولا قرأ رواياته.
السياسيون إذ يصيرون أصناماً
من جهة أخرى، كان السياسيون في عالم لا تزال تسود فيه الخرافات قد سعوا إلى اقتناص فرصة أن يضفوا على وجودهم في الحكم طابعاً مقدّساً، فتحوّلوا إلى أصنام، وصار التعامل معهم باعتبارهم بشراً هو نوع من التشكيك في القداسة، وهو ما تكشف عنه رواية ماركيز “خريف البطريرك” و”السيد الرئيس” لميغل أنخل أوسترياس و”حفلة التيس” لماريو فارغاس يوسا. ومَن يقرأ تلك الروايات لا بدّ أن يجد تشابهاً بين ظروفها والأحوال السائدة في معظم البلدان العربية.
لقد فتح العرب أعينهم واسعاً حين قرأوا الروايات الآتية من أميركا اللاتينية مترجمة، لا لقوّة أدائها التعبيري ولا لارتباط الواقع بالسحر، بل لأنّهم عثروا أخيراً على النصوص التي تعبّر عن حقيقة أحوالهم. تُرى لِمَ لم يكتب الكتّاب العرب المنفيّون، وهم أحرار من مطاردة الأجهزة الأمنيّة المحلية، روايات شبيهة؟
الخيال ملجأ الكاتب العربي
ذلك سؤال افتراضي معلّق. فمَن قال إنّ أولئك الكتّاب المنفيّين كانوا قد تحرّروا من هيمنة الخرافة. لقد عاش اللبناني أمين معلوف معظم حياته في فرنسا وكتب روايات كثيرة اكتسب من خلالها مكانة مرموقة داخل الثقافة الفرنسية هيّأته أن يكون عضواً في الأكاديمية الفرنسية من غير أن يكتب رواية واحدة عن الكوارث التي ضربت ولا تزال تضرب بلاده مستعيناً بأدوات وتقنيّات وأشكال الواقع السحري الذي تواطأت السياسة والعقيدة على صناعته مثلما أحدثته ظروف مشابهة في أميركا اللاتينية.
إقرأ أيضاً: “نوبل” تكافىء “أدب الاعتراف”.. والكتّاب العرب “متكتّمون”
لا يتعلّق الأمر بمعلوف وحده. بل هي واحدة من أهمّ خاصيّات النظرة العربية إلى الأدب، حيث يفضّل الكاتب اللجوء إلى خياله بدلاً من الاستعانة بخيال الواقع. ففي الحالة الثانية يكمن خطر الاصطدام بالمحظورات السياسية التي هي بشكل أو بآخر الوجه المرآتي للخرافة.
وما لم يجرِ تفكيك الخرافة فإنّ الرواية في العالم العربي ستظلّ مجرّد عمل أدبي لا يفاجئ أحداً إلا بمستوى تقنيّاته الفنّية. وستظلّ صلة ذلك العمل بالواقع أمراً مشكوكا فيه.