تبدو ديناميات حركة حماس وتوجّهاتها الإقليمية الأخيرة شديدة التأثّر بالتحوّلات البنيوية التي طرأت على البيئة الإقليمية الحاضنة. فقد سعت تركيا إلى استعادة شعار “تصفير المشاكل” مع الجيران، فيما فرضت المصالحة الخليجية تموضعاً جديداً لقطر في العلاقة مع الجوار الخليجي والدائرتين العربية والدولية. وهذا أفقد “حماس” العمقين القطري والتركي.
تكتيك عقيم
وصل مستوى التحوّلات التركية إلى حدّ استعادة العلاقة الممتازة السابقة بإسرائيل، وهذا ما استدعى انكفاء أنقرة عن المستويات القديمة لدعم حركة حماس، وتحفّظاً معلناً عن استضافة مسؤوليها وممثّليها. وحين أعادت الدوحة تحديث سياساتها الخارجية بعد “قمّة العلا” في أوائل 2021، قيّدت علاقاتها مع حركة حماس وجعلتها محسوبة وأكثر خفوتاً.
ترتّب “حماس” وجودها المقبل في سوريا وحضورها الحالي في لبنان. وهي تتبادل الخدمات مع حزب الله الذي رعت تطبيع علاقته مع الجماعة الإسلامية التي افترقت عنه بعدما تناقضت مواقفهما حيال المسألة السورية
والحال أنّ جدلاً داخلياً لا ينتهي يستعر داخل حركة حماس حول خيار الالتحاق الكامل بإيران ونفوذها وتيّارها في المنطقة، أو السعي إلى ترميم العلاقة مع البيئة العربية، وهي الحضن الطبيعي لفلسطين وقضيّتها. مع أنّ زعيم الحركة في غزّة يحيى السنوار يقود جناحاً ما فتئ يجاهر ويفاخر بالتحالف مع طهران مقابل جناح يقوده خالد مشعل، رئيس الحركة في الخارج، ينشط، ولو بخجل، باتجاه الخيار العربي، إلا أنّ المقاربتين لم تتصادما لتبلغا مستوى الانشقاق، وهما أشبه بتوزيع الأدوار على الرغم من هراء ذلك التكتيك وعقمه.
تحتاج طهران إلى حليف سنّيّ يحمل لواء فلسطين للخروج من حصريّتها الشيعية. إضافة إلى ذلك تقدّم حركتا الجهاد وحماس في غزة ذلك الفضاء الذي يمكّن طهران من ملاعبة إسرائيل من الحدود الجنوبية، فيما يتولّى حزب الله في لبنان لعب ذلك الدور شمالاً. وفيما تُحسب حركة الجهاد على إيران فقط دون غيرها، فإنّ حركة حماس في غزة، المضطرّة إلى الحفاظ على علاقات جيّدة مع مصر (بحكم الجغرافيا على الأقلّ) والساعية إلى تجريب اختراقات داخل البيئة العربية، لم تبخل على لسان السنوار وقادة الحركة بالإفراط في شكر إيران على الدعم والاحتضان.
بين ولاءين
في الأسابيع الأخيرة كان لافتاً وجود مشعل في الأردن. أشارت بعض التفسيرات إلى أنّ تطبيع العلاقة مع “حماس” يريح التيار الإسلامي المحلّي، وهو ما من شأنه تخفيف الضغوط الداخلية في الأردن. في حين أشارت تفسيرات أخرى إلى استعانة عمّان بالقائد الحمساوي للتأثير على إسلاميّي فلسطين 48، ولا سيّما الحركة الإسلامية بقيادة الشيخ رائد صلاح، من أجل توحيد الصف العربي وتنشيط أدائه الانتخابي في انتخابات الكنيست في الأوّل من تشرين الثاني. لكنّ تفسيرات أخرى أشارت إلى أنّ تواصل مشعل مع عمّان له علاقة بوساطة قام بها الأردن لدى السعودية أدّت إلى الإفراج في 10 تشرين الأول عن ممثّل حماس السابق محمد الخضري الذي توجّه بعدها إلى عمّان في 19 منه، وهو ما قد يمهّد للإفراج عن بقيّة المعتقلين ويفتح الباب لمسار جديد في العلاقة بين الرياض والحركة.
في حراك جناحَيْ “حماس” باتجاه إيران والعرب يبدو الجانب العربي من توجّهات “حماس” غامضاً سرّيّاً غير واضح في خرائطه، فيما الجانب الإيراني من توجّهاتها يُظهر حزماً واندفاعاً وتطرّفاً في انحيازه وولائه لطهران وخياراتها الإقليمية.
لم تعد تقتصر علاقة “حماس” مع طهران على المواقف والتصريحات وصور زيارات مسؤولي الحركة، خصوصاً إسماعيل هنيّة رئيس المكتب السياسي، لطهران، بل إنّ المصالحة التي تمّت بوساطة حزب الله بين “حماس” ودمشق وتأكيد الرئيس السوري بشار الأسد أنّ “الصفحة قد طُويت”، يوفّر لـ”حماس” تمدّداً داخل مناطق نفوذ إيران في المنطقة، ولا سيّما في سوريا بفضل المصالحة، وفي لبنان بفضل حاضنة حزب الله ورعايته.
تكشف المعلومات عن تمركز عسكري واسع للحركة داخل البلد، ومن مظاهره الانفجار الذي حدث في كانون الثاني 2021 في مخيّم البرج الشمالي والذي تحدّثت مصادر إسرائيلية عن أنّ سببه انفجار مخزن أسلحة تابع لحركة حماس
حماس في لبنان
عملت حماس على تطوير تمركزها في لبنان منذ سنوات. كان صادماً بالنسبة إلى اللبنانيين والفلسطينيين على السواء الاستقبال الاحتفالي الكبير الذي نُظّم في أيلول 2020 لإسماعيل هنيّة في مخيّم عين الحلوة. أصبح هنيّة زائراً دائماً للبنان تستقبله رئاسات البلد ومسؤولوه الرسميون على نحو أثار أسئلة حول مسار ومصير تمثيل حركة فتح ومنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية في لبنان، وعمّا إذا كانت “حماس”، برعاية الحزب، تخطّط للسيطرة الكاملة على التمثيل السياسي الفلسطيني في لبنان.
بات من الزائرين الكبار للبنان قادةُ “حماس” مثل نائب رئيس المكتب السياسي صالح العاروري، وخليل الحية المسؤول عن العلاقات العربية والإسلامية، وزاهر جبارين المسؤول عن ملف الأسرى والجرحى والشهداء وآخرين. وتكشف المعلومات عن تمركز عسكري واسع للحركة داخل البلد، ومن مظاهره الانفجار الذي حدث في كانون الثاني 2021 في مخيّم البرج الشمالي والذي تحدّثت مصادر إسرائيلية عن أنّ سببه انفجار مخزن أسلحة تابع لحركة حماس. وقد كشف الحدث بُنى تحتيّة عسكرية واسعة في لبنان على الرغم من تكتّم الحركة.
تبادل الخدمات مع الحزب
ترتّب “حماس” وجودها المقبل في سوريا وحضورها الحالي في لبنان. وهي تتبادل الخدمات مع حزب الله الذي رعت تطبيع علاقته مع الجماعة الإسلامية التي افترقت عنه بعدما تناقضت مواقفهما حيال المسألة السورية. وقد سبق لهنيّة أن رتّب لقاءات بين الأمين العامّ للحزب السيد حسن نصر الله ومرشد الجماعة السابق عزّام الأيوبي. وتتحدّث تقارير عن أنّ “حماس” دفعت باتجاه انتخاب قيادة جديدة للجماعة أتت بالشيخ محمد طقوش خلفاً للأيوبي، وأنّ طقوش المتفرّغ لدى أحد أجهزة “حماس” طُرح نتيجة تشاور بين الحركة الفلسطينية والحزب.
إقرأ أيضاً: “حماس” تتلو الندامة عند الأسد حارس معبد الجغرافيا
الواقع أنّ “حماس” تضع نفسها بنداً على طاولة الحوار السعودي الإيراني. فالجهر بتطوّر علاقاتها بطهران وحزب الله ودمشق لا يمكن أن يتوازن مع المساعي الملتبسة لتحسين العلاقة مع الرياض. ولئن كان لا يظهر صدعٌ كبيرٌ بين التوجّهين داخل “حماس”، غير أنّ الأمر قد لا يبقى مكتوماً، خصوصاً أنّ علاقة جدّية مع السعودية تستدعي مواقف واضحة غير متلوّنة تحسم مسألة الانتماء والتحالفات، وهو أمر قد يكون عصيّاً وربّما متأخّر بحكم قوّة الانخراط الكامل الذي تعبّر عنه الحركة من خلال المباهاة بالتدثّر بعباءة الوليّ الفقيه.