تكلّلت جهود الوساطة المضنية بين النظام السوري وبين حركة حماس التي انخرط بها حزب الله وإيران لإعادة اللحمة والاعتبار لـ”محور المقاومة”، بمصافحة في دمشق بين الرئيس السوري بشار الأسد وعضو المكتب السياسي لحركة حماس خليل الحية، وليس إسماعيل هنية أو خالد مشعل. كان ذلك عقب عشر عجاف بين الجانبين بفعل الثورة السورية وما كانت تصفه أوساط النظام السوري بـ”خيانة حركة حماس”.
الآن، تراجعت حماس عن مقامرتها الكبرى في الانخراط بالحرب السورية. مقامرة ما كان لها أنّ تخوضها لا هي ولا أيٍ من الفصائل التي تحمل قضية بحجم فلسطين. يوم انخرطت الحركة في هذه الحرب أغفلت أن سورية هي رقعة محورية على الجغرافيا السياسية. وكانت هذه النظرة هي سرّ ما سُمّي بدهاء الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد وديمومة نظامه الأمني. فقد حصّن الأسد نفسه كاهناً أميناً في معبد الوظيفة الجغرافية والحراسة الحدودية، وهو ما ورّثه لنجله بشار.
الطعنة النجلاء للنظام السوري كانت عندما لوّح رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” خالد مشعل بعلم المعارضة السورية وارتدى “الفولار” الخاص بها في مهرجان جماهيري حاشد في إسطنبول
الأسد يصالح حماس “المقاومة” لا “الإخوانية”
استقبال بشار الأسد للوفد الفلسطيني الجماعي الذي شارك في مؤتمر الجزائر للمصالحة ، ومن بينه حركة حماس وخليل الحية، بعد تمنّع طويل، استهدف عدم منح “حماس” خصوصية، ويؤشر على أنّ النظام السوري بصدد استعادة العلاقة مع “حماس المقاومة” ورجالاتها، وليس “حماس الإخوانية” ورجالاتها الذين وقفوا إلى جانب “إخوان سورية” الذين حملوا السلاح ضدّ النظام.
خليل الحية، وهو من رموز الحركة الذين ينتمون إلى الخط الإيراني، وصف في مؤتمر صحافي، لقاء بشار الأسد بـ”لحظة تاريخية اتفق فيها الجانبان على بدء صفحة جديدة وطيّ صفحة الماضي”. وفي ما يشبه الاعتذار، قال الحية إنّ حركة حماس تستعيد علاقتها مع سورية بإجماع قيادتها وبقناعة بصوابيّة هذا المسار، ومن أجل طيّ صفحة أيّ فعل فرديّ لم تقرّه قيادة حماس.
يرى المراقبون أنّه لم يرغم أحدٌ حركة حماس على أن تذهب بعيداً بهذا الموقف الحادّ من الصراع المسلّح الذي دار في سورية لتُحمِّل نفسها وزر هذا الاعتذار، وما سبقه قبل شهر من بيان “يتلو الندامة” قالت فيه الحركة إنّها تقف مع سورية شعباً وقيادة. ولقد أثار لقاء وفد “حماس” ببشّار الأسد، وما سبقه من ترتيبات وتسريبات، موجة سخط عارمة على حركة حماس نفسها، وعلى الإسلاميين الذين عملت حركة حماس على شحنهم وتعبئتهم ضدّ النظام السوري وحضّتهم على إسقاطه باعتباره يقتل المسلمين وذبح الإخوان المسلمين في حلب.
من جهته، عبّر القيادي البارز في الأطر النقابية الإسلامية الأردنية أحمد أبو غنيمة عن قناعته بأنّ ما صرّح به ممثّل حركة حماس خليل الحية حول العلاقة مع النظام السوري أخيراً لا يقبله عقل أو منطق. واعتبر أبو غنيمة أنّ حركة حماس تستطيع اتّخاذ القرار الذي ينسجم مع مصالحها بخصوص استئناف العلاقات مع النظام السوري، لكنّ تصريح خليل الحية عن وجود إجماع في حركة حماس على عودة العلاقات مع دمشق يتعارض مع معلومات مقرّبين من الحركة عن وجود معارضة وعدم موافقة على هذا القرار لدى قطاعات كبيرة من أبناء حركة حماس. وقال أبو غنيمة: طبعاً مناصرو الحركة وهم بالملايين لا يوافقون على هذا التصريح المستفزّ للأستاذ خليل الحية.
مياه كثيرة في النهر بين سورية وحماس
لقاء الأسد بممثّل حركة حماس خليل الحية في دمشق، بعد طول وساطات، لا يعني عودة المياه إلى مجاريها، ولا عودة إلى السنوات السمان بين النظام السوري وحركة حماس، ذلك أنّه جرت في النهر مياه كثيرة.
لم تحسب حركة حماس، كما غيرها من الدول والقوى، أنّ سوريا كانت امتداداً لمصالح كونية كبرى، وأنّ إسرائيل وإيران وروسيا لن تسمح بسقوط النظام السوري
وعلى الرغم من أنّ حركة حماس هي من نسيج الإخوان المسلمين، إلا أنّها حظيت بعلاقة خاصة مع النظام السوري، وبهوامش واسعة للحركة داخل سورية خلال حكم بشار الأسد، حتى إنّه تمّ نقل المكتب السياسي لـ”حماس” برئاسة خالد مشعل إلى دمشق. كان النظام السوري منذ عهد حافظ الأسد ثمّ وريثه بشار الأسد قد اعتاد الإمساك بالملف الفلسطيني، واللعب على التوازنات والتناقضات. وقد عزّز النظام موقع سورية الجيوستراتيجي من خلال تمسّكه بخوض الصراع مع إسرائيل بطريقة خاصة ومضطربة تحتمل التسويات والصفقات والرسائل، وكان من بينها علاقته مع حركة حماس واحتضانه لها.
إلا أنّه مع اندلاع الثورة السورية ورجحان كفّة فصائل الإسلام السياسي في سورية، بدأت حركة حماس بالخروج من عباءة النظام السوري، ولم تقف على الحياد كما هو مطلوب من أيّ فصيل فلسطيني لديه حمل ثقيل كقضية فلسطين التي لا تحتمل التلاعب ولا المواقف المرتبطة بالخارج وأجنداته ومصالحه ونزواته.
حماس استعدت لركوب قطار “الخلافة الإسلامية”
لقد بدا أنّ الزلزال الذي ضرب الإقليم يصبّ في صالح حركة الإخوان المسلمين في تونس، وبعدها القاهرة، وصولاً إلى سورية حيث كانت المعارضة على أبواب دمشق تتهيّأ للانقضاض على النظام، ولذا بدأت حركة حماس التي هي من قماشة الإخوان المسلمين، وبإغواء من دول إقليمية، تستعدّ لحجز مقعدها الجديد في قطار الخلافة الإسلامية، والانقلاب على بشار الأسد، وصولاً إلى خروج خالد مشعل وحركة حماس نهائياً من دمشق.
بدأت علاقة “حماس” بنظام بشار الأسد تترنّح مع تورّط الحركة في ما يجري في سورية من صراع مسلّح. وجرى تداول معلومات مؤكّدة في دمشق عن انخراط مجموعات حمساوية في أتون الصراع العسكري مع فصائل المعارضة والفصائل الجهادية، بالإضافة إلى نقلها لتقنيّات حفر الأنفاق إلى المعارضة السورية.
هكذا أعلنت حماس الحرب على نظام بشار
أمّا الطعنة النجلاء للنظام السوري فكانت عندما لوّح رئيس المكتب السياسي لـ”حماس” خالد مشعل بعلم المعارضة السورية وارتدى “الفولار” الخاص بها في مهرجان جماهيري حاشد في إسطنبول. وبينما كان محمد مرسي يدعو إلى تشكيل “جيش جهادي” للذهاب إلى سورية وإسقاط نظام بشار الأسد. كان إسماعيل هنية يحيّي من جامع الأزهر في القاهرة “شعب سورية البطل الذي يسعى نحو الحرّية والديمقراطية”، وسط تكبيرات المصلّين وهتافهم قائلين إنّهم يسيرون نحو سورية بملايين الشهداء، مردّدين “بشّار برّه برّه، لا إيران ولا حزب الله، ثورة سورية عربيّة”. حينها رأى النظام السوري أنّ حركة حماس تعلن رسمياً الحرب على سورية. صحيح أنّ في الحركة تياراً ظلّ وفيّاً لسورية رافضاً الانتقال من المحور الإيراني إلى المحور القطري الإخواني الذي يسعى إلى إسقاط النظام السوري، لكنّ هذا التيار أصبح بلا حول ولا قوّة مع تطوّرات الإقليم وتحوّلاته المذهلة.
لم تطُل نشوة حركة حماس، إذ سرعان ما اكتشفت خسارة الرهان عندما تعرّضت لزلزال مدوٍّ تمثّل في إسقاط حكم محمد مرسي في القاهرة، ودخول روسيا على خط الثورة السوريّة بدعم من إيران، فضلاً عن التراجعات الضخمة التي مُنيت بها المعارضة السورية، ليتبيّن للحركة أنّ الموقف من سورية وحزب الله كان مقامرة، وليس فقط مغامرة ذهبت فيها بعيداً، عندما اندفعت خلف حركة الإخوان المسلمين.
إقرأ أيضاً: المال لشراء الاستقرار.. الترسيم اللبناني ـ الإسرائيلي نموذجاً
لم تحسب حركة حماس، كما غيرها من الدول والقوى، أنّ سوريا كانت امتداداً لمصالح كونية كبرى، وأنّ إسرائيل وإيران وروسيا لن تسمح بسقوط النظام السوري. وعندما هبّت أعاصير الربيع العربي على دمشق، وحدهم جهابذة الجغرافيا السياسية جزموا أنّ سورية لن تجني من ورائه إلا ودياناً من الدماء، وتلالاً من الأموات، فهؤلاء لم ينظروا إلى سورية بصفتها دولة وشعباً، لكن بصفتها وظيفة جغرافية بشكل حصري، ورقعة محورية على الجغرافيا السياسية. وكانت هذه النظرة الثلجية إلى سورية سرّ ما سُمّي بدهاء حافظ الأسد وديمومة نظامه الأمني على الرغم من قسوته وتنكيله بالشعب السوري. فقد حصّن الأسد نفسه كاهناً أميناً في معبد الوظيفة الجغرافية والحراسة الحدودية، وهو ما ورّثه لنجله بشار.
*كاتبة فلسطينية