تحلّ الذكرى السنويّة الثالثة لانتفاضة 17 تشرين، ولبنان غارق في أزمات وجودية متناسلة وغير مسبوقة في تاريخه الحديث. في هذه المناسبة أعدّ “أساس” ملفّاً متنوّعاً يُنشر على حلقات متتابعة، ويعيد قراءة وجوه الانتفاضة ونتائجها. وهنا حلقة ثامنة تروي فيها شابّة كردية شهادتها عن التغيّرات التي أحدثتها مشاركتها، وعن نزولها للمطالبة بهوية لبنانية.
الانتماء المثلوم
أمّي تحمل الجنسية اللبنانية. والدي كرديّ سوري، وهو بلا جنسية لبنانية، وهما التقيا وتعارفا واقترنا في بيروت، وأنا وُلدت وعشت عمري كلّه فيها، لكنّ لبنان لم يمنحني جنسيّته.
انفصل أبي وأمّي في نحو الخامسة عشرة من عمري. والدتي أمّيّة وعملت خيّاطة لتعيلنا، نحن الأخوات الأربع. سكنّا في أحياء بيروتية كثيرة: الطريق الجديدة، مخيّم شاتيلا، خلف المدينة الرياضية في بئر حسن. وفي الرابعة عشرة من عمري بدأت أعمل مدرِّسة خاصة للتلامذة، لأساعد في مصاريف البيت. وأقيم اليوم وحدي في فرن الشبّاك.
كانت أمّي تتعاطف مع تيار المستقبل، سعياً منها إلى أن نحصل، نحن بناتها، على الجنسيّة اللبنانية. وفي المرحلة الثانوية من دراستي في ثانوية بئر حسن الرسمية، اكتشفت أنّها تضمّ عدداً كبيراً من الطلاب والطالبات الشيعة، واكتشفت الفرق الكبير بيني وبينهم، وبدأنا نتحدّث في السياسة والانتماءات الطائفية. وانتبهت إلى أنّنا مختلفون، وأنّ أحاديثنا في البيت مختلفة تماماً عنها في المدرسة. ابتعدت عن تلك الأحاديث والانتماءات لأنّها لا تعنيني. أصولي السورية، وانتقالنا من حيّ إلى آخر، وتنوّع الأجواء التي عشت فيها، ساعدتني في ألّا أنتمي إلى الأحزاب. أثناء إقامتنا في مخيّم شاتيلا كان لديّ أصحاب فلسطينيون. وحينما كنّا نقيم في الطريق الجديدة كانت الأكثريّة من حولنا سنّيّة بيروتية. وفي المرحلة الثانوية صارت الغالبيّة في المدرسة شيعيّة، وسَكَنّا خلف المدينة الرياضية حيث خليط سنّيّ بيروتي وفلسطيني وشيعي فقير. وفي السادسة عشرة من عمري عملت في مطعم ماكدونالدز في الحازمية، حيث الأغلبية مسيحيّة. ونحن في العائلة غير متديّنين ولا متعصّبين. أظنّ أنّ هذا كلّه حرّرني من الانتماء والتحزّب.
في المحصّلة العامّة يمكنني القول إنّ تجربة 17 تشرين وما تلاها أثّرت إيجاباً في شخصيّتي
بلغت الخامسة والعشرين وما أزال أحاول الانتماء إلى لبنان الذي وُلدت وعشت فيه وأعتبره بلدي. لكنّ الدوائر الرسمية والأحزاب تعاملني دائماً معاملةً لا تخلو من التمييز، لأنّ والدي من أصل سوريّ كرديّ.
قبل 17 تشرين 2019 لم أجرؤ على المشاركة في أيّ نشاط سياسي احتجاجيّ، فكثيراً ما سمعت مَن يقولون لي: “آه، كنّا مفكرينك لبنانية”، ويستدركون: “بس إنتِ ما خصّك”. ولمّا صرت طالبة جامعية في “الجامعة اللبنانية الدولية” في محلّة المصيطبة ببيروت، راحت تُثار المسائل والانتماءات السياسية والحزبية، لكنّها لم تكن تريحني، فتجنّبتها. كان الثنائي الشيعي يهيمن على الجامعة، وبالأحرى “حركة أمل”. وعندما كنّا نعلن آراءنا، نحن الذين لا ننتمي إلى الثنائي، كان الصفّ ينقلب علينا. وكم سمعت أنّ 3 أو 4 من طلّاب صفّي يحصلون من إدارة الجامعة على منحٍ تغطّي كامل أقساطهم الجامعية السنوية أو 80 في المئة منها، لأنّهم من حركة أمل. وهذا فيما أنا أعمل عملين بدوامين لأتمكّن من سداد القسط الجامعي.
في خضمّ ثورة 17 تشرين، أراد بعض الأساتذة أن يستمرّ التدريس في الصفوف كالمعتاد، على الرغم من أنّ التظاهرات ملأت الشوارع. وعندما أردنا التظاهر أمام وزارة التربية، تصدّى لنا طلّاب من مناصري الثنائي، وحاولوا الاعتداء علينا. وكان أحدهم قد تسلّق عمود الإنارة أمام مدخل الجامعة ونصب عليه علم حركة أمل. وقد يكون العلم لا يزال في موضعه، لأنّ أحداً لا يجرؤ على نزعه.
أريد جنسيّة أمّي
ليلة 17 تشرين 2019 خفت من المشاركة في التظاهر. ذهبت باكراً إلى عملي في شركة اتصالات. في النهار التالي تشجّعت فحملت لافتة كرتونية كُتب عليها: “ما فيني أحمل جنسيّة أمّي، بس فيني شارك بثورتها”، وتوجّهت وحدي إلى ساحة الشهداء. كثرة من الناس استوقفوني وسألوني عن معنى العبارة. فشرحتُ لهم، وفوجئت بأنّهم لا يعلمون أنّ الأمّ اللبنانية لا تستطيع منح جنسيّتها لأولادها. وفيما كنت أحملُ تلك اللافتة وأشرح لسائليّ، أحسست أنّ هذه الثورة ثورتي. وهناك أشخاص لا أعرفهم ولا يعرفونني أخذوا يحتضنونني، ويقولون لي: نحن أيضاً نعيش المشكلة عينها. فشعرت أنّني لست متطفّلة ولا دخيلة، وكان شعوراً رائعاً وجديداً عليّ، وصرت مستعدّة للمواجهة. لقد امتلأت بقوّة تمكّنني من مواجهة كلّ من يسألني: من أنتِ، ولماذا أنتِ هنا؟
ما عشته ورأيته في أيام 17 تشرين كان جديداً تماماً عليّ. كنت وسط أناس يشبهونني، ونتكلّم لغة مشتركة. هم يطالبون بما يريدون وأنا أطالب مثلهم: تعليم، طبابة، حقوق فئوية متنوّعة، ومنها الحقّ في الجنسية… إلخ. كانت المرّة الأولى في حياتي التي أكون فيها وسط جمعٍ كبير، بلا حاجة إلى تبرير وجودي.
بلغت الخامسة والعشرين وما أزال أحاول الانتماء إلى لبنان الذي وُلدت وعشت فيه وأعتبره بلدي. لكنّ الدوائر الرسمية والأحزاب تعاملني دائماً معاملةً لا تخلو من التمييز
في البداية ظللت أتنقّل وحدي في الساحات لوقت طويل، وأحياناً مع أصحابي، ولاحقاً في حراك الطلاب. وما من مرّة وصلت إلى ساحة الشهداء إلا والتقيت أحداً أعرفه. ومنهم مَن كنت قد انقطعت عن رؤيتهم منذ صغري، وتكاثر أصدقائي وصديقاتي. وبدأت أتعرّف على منظّمات تهتمّ بقضايا المجتمع المدني ومجموعات نشأت في الثورة.
الانتماء إلى “شبكة مدى”
تعرّفتُ إلى مجموعات نسويّة وصرتُ أشارك في تحرّكاتها كلّها للمطالبة بحقّ المرأة في منح الجنسيّة لأولادها، إلغاء نظام الكفالة للعاملات المنزليّات، وكلّ ما له علاقة بحقوق النساء. لكنّ المجموعات كلّها في الساحة كانت متضامنة على الرغم من تنوّع مطالبها وهتافاتها وشعاراتها. حضرت ندوات مجموعات كثيرة، واتّصل بي شخص من “شبكة مدى” عبر فيسبوك، فأطلعني على نشاط الشبكة. وتعرّفتُ على بعض من أعضائها وحضرتُ اجتماعاً معهم. ارتحتُ لطروحاتهم، وشعرت أنّني في أمان بينهم، وأصبحت ناشطة في المجموعة السياسية ومجموعة الاستقطاب في الشبكة.
لم يستمرّ الجوّ صحّياً فيما بيننا، نحن الذين أردنا تأسيس النادي العلماني ومجموعة المستقلّين في جامعتنا. فبعد اتّفاقنا على المبادئ العلمانية والنسوية ومناصرتنا مجتمع الميم (المثليّين والمثليّات)، عقدنا اجتماعاً موسّعاً لوضع النظام الداخلي للنادي، فخاف بعض المستقلّين، ثمّ قال أحدهم إنّه ليس مع العلمانية. وآخرون قالوا إنّهم لا يناصرون مجتمع الميم، ويريدون إصلاحه وإعادته إلى جادّة الصواب. ودبّت الخلافات بيننا وانسحب كثيرون.
في أيّام 17 تشرين صرت أعلم ما أختلف عليه مع الأشخاص الآخرين، وصارت أفكاري واضحة. تغيّرتُ وتغيّرتْ نظرتي إلى البلد وعلاقتي به. قبل ذلك كنت أفكّر أن أهاجر لأنّه لا مستقبل لي في لبنان، لكنّني عزفت عن الهجرة، ساعيةً إلى الحصول على جنسيّة أمّي. وصرت أشعر أنّ لبنان بلدي ومرجعي، حتى لو غادرته. لكنّ الأزمة الاقتصادية دفعتني مجدّداً إلى التفكير في الهجرة.
في أيّام 17 تشرين صرت أعلم ما أختلف عليه مع الأشخاص الآخرين، وصارت أفكاري واضحة. تغيّرتُ وتغيّرتْ نظرتي إلى البلد وعلاقتي به
صدمة انفجار المرفأ
عندما وقع انفجار المرفأ مساء 4 آب 2020، كنت في الحانة حيث أعمل في الجمّيزة، فتحطّم فيها كلّ شيء، لكن لم أُصَب بأذى. تركت كلّ شي على حاله وخرجت إلى الشارع هلعة. رأيت الدمار والدماء، وتنقّلت بين مستشفيات كثيرة أبحث عن رفيقتي الضائعة. في مستشفى الروم رأيتهم يقطّبون جراح المصابين مستعينين بأضواء الهواتف المحمولة. في تظاهرة 8 آب أطلقوا علينا القنابل المسيّلة للدموع، وجفّت دموعي لكثرة ما بكيت. صوت أختي التي أخبرتني هاتفياً أنّ سقف منزلها تساقط، لا يُمحى من ذاكرتي. وعند الساعة الثانية والنصف فجراً عثرت على صديقتي في المستشفى.
طوال شهرين بعد الانفجار ظللت حبيسة بيتي، وأُبصر منامات مروّعة عن اختبائي. وعندما شبَّ حريق في المرفأ المدمّر كان عملي قد توقّف، وكذلك دراستي في الجامعة، وصرت أمشي في البيت جيئة وذهاباً. وها أنا الآن شخص مدمّر، وقد أكون في حاجة إلى علاج نفسيّ. قضى الحجر الصحّي على رغبتي في الاختلاط بالناس. وصار عليّ أن أجد نمطاً جديداً لحياتي، وسط هذه المصائب المتلاحقة. لكنّني اكتشفت قدرتي على العيش وحدي في عزلة لا يصلح لها سكني الطلّابي، الذي هو عبارة عن غرفة يشاركني فيها شخص آخر، ولا مكان فيها لغير النوم. وهذا ما لم أكن أنتبه له في السابق، عندما كانت حياتي اليومية تتوزّع بين الجامعة والعمل ولقاءات الأصحاب، ثمّ أعود إلى النوم في غرفتي. وما كنت أتوقّع أن تصير حياتي بلا عائلة ولا أصدقاء. فالفتيات مُساكِناتي في البيت الطالبيّ عُدْن للإقامة مع أهلهنّ في بلداتهنّ، وبقيت وحدي. أمّي تقيم في بيروت، لكنّها تسافر في أوقات كثيرة إلى تركيا وتمكث هناك ومعها أختي الصغرى. وعلاقتي بأمّي ليست على ما يرام. أخيراً رحت أنام كثيراً. ويخيفني أن تكون هذه الحال استغراقاً في إحباطي. كلّ ما أنشغل به لا يثير حماستي، بل يشعرني بالثقل، وأقوم به بصعوبة. حتى الكلام صار صعباً وثقيلاً عليّ.
استقلال بلا مرجع ولا سند
في المحصّلة العامّة يمكنني القول إنّ تجربة 17 تشرين وما تلاها أثّرت إيجاباً في شخصيّتي. صرت أرى الأوضاع بوضوح، وامتلكت مبادئ محدّدة، لكنّني أمسيت متطرّفة. وهذا يجعلني أخسر أصحاباً وأصدقاء، بلا كثير من الندم، وعلى حساب صحّتي النفسية. ثمّ أمسيت ناشطة سياسياً واجتماعياً، وأحياناً أشارك في نشاطات تطوّعية وتوزيع مساعدات، من خلال شبكات التضامن التي ولّدتها ثورة 17 تشرين. وأكسبتني تجربتي الجديدة مقدرة على التنظيم، في التفكير والعمل. لكنّني صرت سريعة الغضب ولأسباب كثيرة. وأشعر أنّ صحّتي النفسية متقلّبة وتتدهور.
إقرأ أيضاً: بوجه من انتفضوا: نظام “الوصاية” والحريري؟ (1)
بكيتُ كثيراً في السنتين الأخيرتين، لكنّني أبكي ولا أرتاح. وأشعر أنّني أفتقر إلى الأمان، لأنّني بلا عائلة وأصدقاء، يشكّلون لي مرجعاً وسنداً. لديّ دائرة واسعة من المعارف والأصحاب، لكن ليس بينهم أشخاص يمنحونني الأمان ويشكّلون مرجعاً ثابتاً، وأستطيع الاعتماد عليهم. وهذه حال متعبة. أهتمّ بأمور وقضايا كثيرة، وأحتاج إلى من ينتبه لوجودي ويهتمّ بي. وقد يكون هذا من آثار الصدمة، وناتجاً عن كوني صرت مستقلّة زيادة عن اللزوم، مستقلّة إلى حدّ أنّني لم أعد قادرة على أن أترك لأحد أن يهتمّ بي، كأنّني صرت لا أستطيع أن أحمّل شخصاً ما جزءاً ممّا أنا فيه، وهذا يرهقني.