أيام قليلة تفصل اللبنانيين عن نهاية ولاية رئيس الجمهورية ميشال عون. في الأيام الأخيرة تطلّ سويسرا عبر النافذة الوطنية المتصدّعة لتدعو ممثّلي قوى سياسية وعدداً من النواب إلى مؤتمر حواريّ لبناني في جنيف للبحث في مستقبل لبنان وآفاق الأزمة وكيفيّة السعي إلى معالجتها. لا يحتاج اللبنانيون إلى أكثر من تلازم هذيْن الحدثَيْن للتأكّد من واقع استحالة انتخاب رئيس جديد للبلاد خلال المهلة الدستورية. وذلك يعني انعكاساً واضحاً لاستفحال أزمة بنيوية مستعصية في النظام اللبناني، وبالتالي يستدعي إطلاق ورشة عمل دستورية قد تؤدّي إلى تعديل بعض الأسس التي بُني عليها اتفاق الطائف في الحدّ الأدنى أو نسف هذا الاتفاق من أساسه في الحدّ الأقصى. بالطبع ليس لقاء جنيف أوّل محاولة للبحث في أزمة النظام اللبناني تنظّمها منظّمة دولية وتدعمها دولة أوروبية، ومن المؤكّد أنّه لن يكون المحاولة الأخيرة.
أنتجت الحرب الأهليّة مخزوناً كبيراً من الأفكار تتعلّق بشكل وطبيعة النظام في لبنان وعلاقة المجموعات الطائفية فيما بينها أوّلاً، ومع الدولة ثانياً
حوارات محليّة ودوليّة
منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري عام 2005، حصلت لقاءات ومؤتمرات عديدة داخل لبنان وخارجه. فمؤتمر سان كلو الذي انعقد في شهر تموز 2007 في فرنسا برعاية وحضور وزير خارجية فرنسا آنذاك برنارد كوشنير، وجمع ممثّلين عن القوى السياسية اللبنانية، فشل في الاتفاق على آليّة لإعادة تفعيل حكومة فؤاد السنيورة، لكنّه كرّس مشاركة ممثّلين عن المجتمع المدني في لقاءات مماثلة. وبالطبع لا يمكن إغفال مؤتمر الدوحة الذي فرض أعرافاً جديدة على عمل المؤسّسات الدستورية، وخصوصاً لناحية تشكيل الحكومات وآليّة عملها.
أمّا أبرز اللقاءات داخل لبنان فكانت طاولة الحوار في المجلس النيابي برئاسة نبيه برّي، التي وُضع على جدول أعمالها الاستراتيجية الدفاعية وسلاح المخيّمات والانتخابات الرئاسية عام 2006. لكن سرعان ما انتقلت الطاولة إلى قصر بعبدا مع انتخاب ميشال سليمان رئيساً للجمهورية. أمّا أبرز ما أفضت إليه جلسات طاولة الحوار الرئاسية، فكان إعلان بعبدا عام 2012، وهو إعلان سياسي أكّد المجتمعون من خلاله التمسّك باتفاق الطائف والالتزام بالقرارات الدولية، ولا سيّما القرار 1701، وتحييد لبنان عن سياسة المحاور والصراعات الإقليميّة والدوليّة.
ولأنّ جلسات الحوار كانت الملاذ الدائم لكلّ محطّة عقم سياسي، سعى رئيس الجمهورية ميشال عون، خلاله عهده، إلى إعادة إحياء أو تفعيل طاولة الحوار الوطني. لكنّ جميع محاولاته دُفنت قبل ولادتها بسبب اعتراض قوى سياسية عدّة على تموضع رئاسة الجمهورية غير الحيادي وتحوُّلها إلى طرف بين القوى السياسية المتخاصمة.
الطائف دائماً وأبداً…
مرّ على اتفاق الطائف ثلاثة وثلاثون عاماً، شهد لبنان خلالها تقلّبات، وانقلابات داخلية، وإقليمية، ودولية. أُعلن عن وثيقة الوفاق الوطني اللبناني في مدينة الطائف السعودية في 30 أيلول 1989، وأُقرّت بقانون في مجلس النواب اللبناني في 5 تشرين الثاني من العام نفسه. هي اتفاق سياسي حمل اسم مدينة الطائف السعودية، ولم تكن إلا نتيجة تضافر أو تقاطع عوامل داخلية وإقليمية ودولية.
بالعودة إلى اللحظة السياسية التي سبقت الاتفاق، لا يمكن إغفال تأثير حرب التحرير التي اعتُبرت من أكثر جولات الحرب الأهليّة عنفاً ودماراً وتهجيراً. كانت حرباً تزامنت مع تدهور كبير للوضع الاقتصادي آنذاك وانهيار العملة الوطنية، وأيضاً مع التزام عربي كامل، وتحديداً سعوديّاً، بضرورة إيجاد حلّ للحرب اللبنانية. ترجم هذا الالتزام تفاهمٌ سعودي سوري رافقته متغيّرات دولية بدأت تتبلور مع ضعف وتفكّك الاتحاد السوفييتي.
منذ اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وخروج الجيش السوري عام 2005، حصلت لقاءات ومؤتمرات عديدة داخل لبنان وخارجه
معادلات الحرب تنحت الطائف وتصوغه
أنتجت الحرب الأهليّة مخزوناً كبيراً من الأفكار تتعلّق بشكل وطبيعة النظام في لبنان وعلاقة المجموعات الطائفية فيما بينها أوّلاً، ومع الدولة ثانياً. لذلك صيغت وثيقة الوفاق الوطني بمنهجية الإصرار على إيجاد جوامع مشتركة بين مختلف الأوراق البحثية والمذكّرات التي طرحتها مختلف القوى السياسية والطائفية المتحاربة بدءاً بالبرنامج الوطني للحركة الوطنية عام 1975 مروراً بالوثيقة الدستورية عام 1976 والوثيقة الدرزية عام 1983 والأوراق التي تمّ بحثها في مؤتمرَيْ جنيف ولوزان عامَيْ 1983 و1984 ووثيقة الاتفاق الثلاثي عام 1985.
وأغفل النواب المنتخبون عام 1972 والمجتمعون في مدينة الطائف، عن قصد أو من دونه، إعادة النظر في طبيعة النظام الاقتصادي والمالي وشكله، وهو الذي صمد طوال الحرب الأهلية على الرغم ممّا شهده لبنان من عنف، ومجازر، واجتياحات، وتهجير. لذلك أتت وثيقة الوفاق الوطني على ذكر عناوين عامّة مثل الإنماء المتوازن.
تعديلات ما بعد الوصاية السوريّة
بعد انتهاء دور النظام السوري كمنظّم للحياة السياسية في لبنان مع اغتيال الرئيس رفيق الحريري عام 2005، كثُر الحديث عن ضرورة تعديل النظام السياسي. فقد أُخذ على اتفاق الطائف بأنّ ما نُفّذ منه هو ذلك الجزء الذي تطابق مع أولويّات النظام السوري. ويقود هذا المعطى إلى حتمية مبادرة قوى سياسية جاهرت برفضها لهذا الاتفاق إلى المطالبة بتعديله. فالتيار الوطني الحر ومع تعاظم دور حزب الله الإقليمي والعسكري وإصراره على تلازم هذا التعاظم مع تضخّم في تمثيله داخل الحكومات والمجالس النيابية والبلدية المتعاقبة، بات من الضرورة إدخال تعديلات على النظام اللبناني وعلى شكل وطريقة إدارة السلطات الدستورية، وخصوصاً السلطة التنفيذية.
وكان هذا الطرح أو المنحى أحد أسباب الانقسام السياسي في لبنان، بين من يعتبر أنّ الأجدى هو تطبيق البنود غير المنفّذة من اتفاق الطائف مثل اللامركزية الإدارية الموسّعة أو استحداث مجلس للشيوخ، وبين من يريد إعادة النظر في الدستور بشكل عام. ليس خفيّاً أنّ هذا الاختلاف العموديّ عطّل عمل السلطات في لبنان وأضعف إنتاجية المؤسّسات وجعل صياغة سياسات اقتصادية وقطاعية عملاً مستحيلاً، فغدت حكومات تصريف الأعمال القاعدة وليست الاستثناء.
أنتجت الحرب الأهليّة مخزوناً كبيراً من الأفكار تتعلّق بشكل وطبيعة النظام في لبنان وعلاقة المجموعات الطائفية فيما بينها أوّلاً، ومع الدولة ثانياً.
اتفاق الطائف واضح لناحية هويّة لبنان وانتمائه العربي، ولناحية حصرية السلاح بيد الجيش والقوى الأمنيّة، ولناحية تطوير عمل المؤسّسات الدستورية
حكومات إدارة الفراغ
أدارت حكومات تصريف الأعمال ثلث ولاية الرئيس ميشال سليمان بين عامَيْ 2008 و2014. شغرت رئاسة الجمهورية مرّتين، وتمّ تأجيل الانتخابات النيابية ثلاث مرّات. أصبحت مهمّة تشكيل أيّ حكومة مهمّة شبه مستحيلة. في الماضي غير البعيد، استغرق الرئيس تمام سلام 11 شهراً لتشكيل حكومته عام 2014، بينما استغرق الرئيس نجيب ميقاتي 13 شهراً لتشكيل حكومته الثالثة عام 2021.
يمكن اعتبار أنّ التسوية الرئاسية عام 2016 بين الرئيس ميشال عون والرئيس سعد الحريري هي بمنزلة محاولة لفضّ هذا الاختلاف الذي قسّم لبنان عمودياً على مدار سنوات عديدة. لكن سرعان ما فشلت هذه التسوية في إتمام الوظيفة المرجوّة منها، بل ساهمت في فرض أعراف جديدة أثّرت سلباً على إدارة الشأن العام. وربّما يكون أسوأ ما أنتجته هذه التسوية تأليف حكومات غير متجانسة متعدّدة الأولويّات ولا تملك رؤية اقتصادية تمكّنها من إقرار سياسات عامّة تهمّ المواطنين.
الطائف: محاولة إرساء وفاق هشّ
قد يقول قائل إنّ الدستور ليس كتاباً منزلاً، بل هو عقد تمّت صياغته من قبل مشرّعين لتنظيم العلاقة بين المواطنين أنفسهم من جهة، وبين المواطنين والدولة من جهة أخرى. حاولت وثيقة الوفاق الوطني الجمع او إيجاد جوامع مشتركة بين فكرتين أساسيّتين متناقضتين. ترتكز الفكرة الأولى، وقد اعتُبرت مؤقّتة، على ضرورة تنظيم علاقة المجموعات الطائفية بعضها مع بعض ومع الدولة في لبنان من خلال تعديل صلاحيات المؤسسات الدستورية بهدف تثبيت التوازن بين مختلف المجموعات الطائفية.
أمّا الفكرة الثانية من اتفاق الطائف، وبقيت معلّقة من دون تطبيق، تقضي بضرورة الانتقال إلى عقد اجتماعي جديد في لبنان يُنهي العقد بين الطوائف ويقيمه بين مواطنين متساوين بالحقوق والواجبات. وبحسب وثيقة الوفاق الوطني، فإنّ ركائز هذا التحوُّل تكون عبر الشروع في إلغاء الطائفية السياسية واستحداث مجلس الشيوخ. وهنا يتّفق المتشكّكون في اتفاق الطائف مع المدافعين عنه على نقطة أساسية، وهي تغيير النقاش نحو شكل ونوعيّة علاقة المجموعات الطائفية بعضها مع بعض ومع النظام. ويرتكز الخلاف بين القوى السياسية أو الطائفية المتعارضة على الدفاع عن المكتسبات التي تمّ تحصيلها في مدينة الطائف ومحاولة تحصيل مكتسبات جديدة.
استُخدم سلاح واحد في معركة تحصين المكتسبات، وهو سلاح المظلوميّة المرتبطة بصعوبة صدّ محاولات قضم مكتسبات تمّ تحصيلها سابقاً من قبل البعض أو بصعوبة تحصيل مكتسبات تعكس تعديلاً في ميزان القوى وارتباطاتها بمحاور إقليمية ودولية. ولم يبخل المتصارعون هنا في استعمال جميع الأدوات لتعزيز النعرات الطائفية ولاستنباط أفكار بائدة وخلق حالة مستمرّة من الغليان والخوف على المصير أو المستقبل والتخويف من الآخر.
حوَّل هذا الصراع المستمرّ منذ سنوات السلطات الدستورية رهينة لأبطاله وعطّل عملها وقادها إلى اضمحلال مؤسّساتي يوميّ وانهيار للمرافق العامّة واختفاء الخدمات العامّة. ليس صعباً رصد ملامح تلاشي الدولة وتفكّك معظم مفاصلها نتيجة هذا الصراع الذي طال النظام التربوي والصحّي والحماية الاجتماعية. أًصيبت القطاعات بانهيار يصعب تدعيمه، فباتت غالبية اللبنانيين تعتمد بشكل أساسي على المساعدات والإعانات من قبل المغتربين أو الجمعيات الدوليّة.
الطائف يتيم بين مريديه ومعارضيه
لسنا بحاجة إلى عقد لقاء في جنيف لتأكيد المؤكّد الذي يجعل من اتفاق الطائف خارطة طريق تنقل لبنان من وطن الطوائف المتصارعة إلى وطن المواطنة والمساءلة. فاتفاق الطائف واضح لناحية هويّة لبنان وانتمائه العربي، ولناحية حصرية السلاح بيد الجيش والقوى الأمنيّة، ولناحية تطوير عمل المؤسّسات الدستورية.
إقرأ أيضاً: هل فجّرت ريّا الحسن “العشاء السويسريّ” وكتلة التغيير؟
لذا كان الأجدى من السفر إلى سويسرا الدعوة إلى توقيع عريضة نيابية من أجل تشكيل الهيئة الوطنية لإلغاء الطائفية السياسية أو سحب مشروع قانون اللامركزية الإدارية من مقبرة اللجان النيابية الفرعية أو حتى تقديم اقتراح قانون لإنشاء مجلس الشيوخ.
تكمن الغرابة في عدم إيلاء هذه المواضع الأهميّة اللازمة في هذه اللحظة الحسّاسة. فلا المدافعون عن اتفاق الطائف جدّيّون في العمل على تطبيق بنوده كافّة، ولا المتشكّكون في الطائف يريدون نقاش هذه النقاط. أمّا قوى التغيير، التي جرى التعويل على تحرّر ممثّليها من ارتباطاتهم المحلّية والدولية، فهؤلاء تائهون ما بين أضواء الشارع الذي لم يغادروه، وغبطة ما بعد الوصول إلى ساحة النجمة… وما بينهما من خطاب.